الجمعة، 25 أكتوبر 2013

شخصيات ألهمتني...(1)



بعض الاشخاص يتحدثون كثيرا عما ينبغي فعله...بعضهم يفع
لونه ببساطة.لهذا لا نحتاج كثيرا الى البحث عن نماذج ملهمة بين المشاهير والعظماء- ولو ان أغلبهم مصدر إلهام حقيقي للكثير منا- بل يكفي أحيانا أن ننظر جيدا حولنا لنجد أن معيشنا اليومي يزخر بالكثير من الشخصيات التي تعيش حياتها في صمت.. وتبدو بلا تأثير في مسار الأشياء حولها...لكنها تحمل قيما ربما لو تبناها كل منا لخلقت الكثير من الفرق في حياتنا جميعا.
في هذا المقال أحيي أشخاصا في الغالب لن تصلهم كلماتي، لكني أحيي من خلالهم هذه القيم أحيي كل من يحملها ومن يحمل مثلها في سموها.هم أشخاص حقيقيون صادفتهم في مرحلة ما من حياتي،ولا زلت أتعامل مع بعضهم،و كل منهم كان مصدر إلهام لي بشكل أو بآخر.
أولهم مدير المدرسة الابتدائية التي درست بها وانا طفلة،لا أدري إن كان لا يزال على قيد الحياة،فقد تقاعد وأنا لا زلت في مرحلتي الاعدادية ( اي بعد مغادرتي المدرسة بقليل) لكني في مطلق الأحوال أسأل الله عز وجل أن يرحمه ويجازيه خير جزاء حيا كان او ميتا.
ذكريات طفولتي المرتبطة بالمدرسة ترتبط على نحو آلي بشخصية هذا الرجل الذي كانت السمة الغالبة على طبعه هي الصرامة والحرص على الانضباط داخل المؤسسة، كنا نخشاه كثيرا،فقط بعد أن كبرت واتخذت ذكرياتي عنه معنى قدرت فعلا اي شخص متفرد كان..اي مدير كان..
المدير الذي كان يرتدي بذلة بربطة عنق و... حذاء مطاطيا طويلا (Des bottes) لكي يتمكن من اداء عمله في الإدارة والتنقل بسهولة للإشراف على عملنا –نحن التلاميذ - في بستان المدرسة وأشجار ساحتها التي زرعنا البعض منها بانفسنا..وعندما أقول بستانا فانا أقصد بستانا حقيقيا تم إنشاؤه في فضاء مهمل خلف قاعات الدراسة لم يكن مستغلا،فاصبح حقلا صغيرا بطماطم وفجل وفول..أما الاشجار فقد زرعناها بأنفسنا أيضا بعد ان تم تقسيمنا الى مجموعات وكتبنا أسماءنا في ورقة وضعناها  اسفل الشتلة قبل غرسها..اتذكر اننا قلنا آنذاك ان اسماءنا ستبقى دوما مادامت شجرتنا حية تكبر وتنمو..وقد كبرت بالفعل ونمت الى ان اطلت باغصانها خارج سور المدرسة..لطالما نظرت اليها والى اغصانها العالية واوراقها الكثيفة وانا أقول مفاخرة لزميلاتي بالاعدادية: انظرن الى تلك الشجرة هناك..انا زرعتها مع أصدقائي عندما كنت تلميذة بهذه المدرسة..
المدير كان يعرف كل تلاميذ المدرسة تلميذا تلميذا،ويعرف آباءهم وأولياءهم واحدا واحدا،يصافحهم بحرارة عند قدومهم الى المدرسة ويثمن في أبناء هذا نظافتهم وفي ابناء ذاك جدهم واجتهادهم ولا يحفل بغنيهم ولا فقيرهم.
مدير علمني المطالعة وحب الكتب،أشرف على إنشاء مكتبة المدرسة وكانت فضاء صغيرا جدا أسفل السلم المؤدي الى قاعات الطابق الأول..فيه بعض القصص والكتب..اقتربت من المكتبة في فضول..فشجعني على التقدم،وكنت أدرس بالقسم الثاني الابتدائي،وناولني قصة عن ديك (لم اعد اتذكر تفاصيلها) وقال لي أني إذا أنهيت قراءتها بامكاني الحصول على اخرى،ومنذ ذلك اليوم بدأت قصة حبي للكتب.
مدير رغم صرامته وخوفنا منه،يفتح لنا باب منزله فندخله فرادى وجماعات خلال "الأنشطة" وهي التسمية التي كنا نطلقها على كل عمل أو نشاط نقوم به خارج أوقات الدراسة،وكانت تستقبلنا مخلوقة رائعة قيل لي أنها زوجته،كتلة من الحنان والابتسام الدائمين.
مدير يحرص نهاية كل سنة دراسية وبمعية أساتذة المدرسة على تنظيم حفل يتم فيه تكريم المتفوقين بجوائز كانت رمزية لكنها كانت مصدر اعتزاز لنا ولذوينا الذين ينادى على ابناءهم من فوق منصة الحفل ويستقبلون بالتصفيق و التهنئة..كانت تلك لحظة لتكريم التلميذ وأهله..
لازالت في ذاكرتي صور حية عنه وهو يتحدث إلينا أثناء أعمال البستنة ويشرح لنا عن تاريخ المدرسة وكم الناجحين المتخرجين منها..كنا احيانا ندخل نقاشا جماعيا حول فوائد هذا النوع من الخضر او خصائص ذاك النوع من النبات..ونتنافس نحن التلاميذ لاستعراض معلوماتنا أمامه فيبتسم ويشجعنا بحرارة عن كل معلومة جيدة.
         لازلت أتذكر تأكيده في كل مرة على نظافة هندام الشخص ونقاء سلوكه وأدبه واخلاقه وجده في طلب العلم لأن ذلك ما يجعله حقا جديرا بالاحترام.
أتصور فقط لو ان لدينا في كل مؤسسة تعليمية شخصا بمثل هذه الطاقة وبمثل هذه الجدية في تحمل رسالة التربية قبل تحمل أمانة المهنة لربما وجد صغار السن لدينا بعض القدوة التي  يفتقدونها في جيل الكبار.
عندما كنت طفلة كنت أخشاه كثيرا..فقد كان العقاب الجسدي (الضرب) طريقته في التأديب، لكنه كان بمثابة الأب للجميع، وشعرت بشعور غريب عندما عدت لزيارة مدرستي بعد فترة من مغادرتي اياها،عندما دخلت مكتبه ووجدت شخصا آخر يجلس مكانه، فبدات اتحدث عنه تلقائيا وتابع المدير الجديد حديثي بابتسامة لم افهم مغزاها الا لاحقا...عرفت أن "المدير" الذي عرفناه لم يكن أبا ومربيا ومعلما فقط لأنه مدير،بل لأنه شخص حامل لقيم تدفعه الى أن يكون ما كان عليه..
مدير مدرستي الابتدائية ألهمني الكثير من القيم لكن واحدة منها تتكرر في ذهني بإلحاح كلما تذكرته:
" أن تؤمن بما تفعل..وأن تنخرط فيه كل الانخراط"