الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

قراءة في رواية "اولاد حارتنا" بين الكوني والمشروط تاريخيا



رواية كتبها نجيب محفوظ اواخر خمسينيات القرن الماضي مسلسلة في جريدة الاهرام و صدرت في كتاب من بيروت  في بداية الستينيات من نفس القرن، رواية اثارت ولا زالت تثير جدلا واسعا بين من ينكر على نجيب محفوظ جرأته في استخدام الرموز داخل الرواية وبين من يقره على ذلك.
يحاول هذا المقال ان يقدم قراءة محتملة للرواية، ولا يدعي بأي حال من الاحوال ان تكون الفهم الوحيد لان الرواية مثلما تثير الكثير من الاسئلة (التي تتركها بلا جواب)، فإنها تنفتح على العديد من التأويلات، حسبنا ان نقول ان الفهم الموضوعي للمتن الروائي لا يتم الا بربطه بالشروط الذاتية والموضوعية لإنتاجه، فالقضايا التي يطرحها وطريقة تناولها ترتبط بالسياق التاريخي ليس فقط لمصر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولكن ايضا بسياق تطور الفكر البشري عموما،كما ان اي كاتب وهو يهتم بالاشتغال على موضوع ما ،بشكل ما، يحاول احيانا الحسم مع مشكلات تؤرقه شخصيا،ويعكس أفكارا قد تتغير مع مرور الوقت فتصبح اكثر نضجا، و  قد تتحول المواقف الفكرية لتصبح أكثر تطرفا او اكثر هدوء ومهادنة ، ولهذا يلحظ المتتبع لمسار بعض المفكرين تغير افكارهم عبر السنين.
نعود الى اولاد حارتنا- موضوع هذه القراءة- دعنا نصفها بانها محاولة جريئة، ونبتغي ان يكون وصفها بالجرأة محايدا، لا يصفق مع من وصفوها بالشجاعة بالضرورة ولا ينجر الى مشاطرة من نعتوها بالوقاحة موقفهم من جهة ثانية.
تضعنا  رموز الرواية امام اسئلة دقيقة و حرجة تتعلق  بالابداع، فهل يجب ان يكون لحرية الابداع حدود؟ و ان كان الجواب بنعم، فما الذي يرسم تلك الحدود؟ واين تتوقف؟
وتضعنا معانيها امام اسئلة اخرى، فهل يمثل "عرفة" في الرواية العلم والمعرفة بوجه عام ام يمثل الاشتراكية العلمية والماركسية؟ هل تعلن الرواية انتصار العلم على الاديان؟ ام انها مجرد تأريخ ورصد لواقع معطى؟
بسبب روايته وقف نجيب محفوظ بأعين البعض موقف اتهام، فهل يصدر ما صدر عن مؤمن ام عن كافر ملحد؟
نشير في البداية الى ان الرواية كتبت كما ذكرنا اواخر الخمسينيات من القرن الماضي،و نال صاحبها جائزة نوبل للآداب عام 1988 (بفضل "اولاد حارتنا" الى جانب روايات اخرى)، وتعرض لمحاولة اغتيال عام 1994 بسبب اعتقاد مهاجميه بكفره والحاده لكنه نجا من الهجوم ولم يتوف الا سنة 2006.تبين المعطيات السابقة بان محفوظ عاش طويلا بعد كتابته لروايته، وشهد الجدل القائم حولها،و تنسب له بعض التصريحات تنازله عن بعض مما جاء في مضمونها بالقول ان شخصية الجبلاوي تمثل الدين وليس الذات الالهية وان الرواية تقدم قطبي الدين والعلم الذين تقوم عليهما المجتمعات،ولان قارئ الرواية لا يقنعه مثل هذا الكلام فإن اسئلة اخرى تتولد في ذهنه: ان صحت التصريحات فما الذي يدفع نجيب محفوظ الى التنازل عن ما جاء في روايته؟ هل هو الندم على خوض مغامرة  ابداعية غير مأمونة العواقب؟ هل هو الخوف المشروع على سلامته وسلامة افراد اسرته؟ ام شعر محفوظ ان روايته كتبت في غير وقتها وان الناس في جميع الاحوال لن يفهموا ولذلك فضل مهادنة معارضيه؟ ام ربما يكون قد رفض ان  يتحمل وحده  المسؤولية الفكرية للتأويلات التي انفتحت عليها روايته؟  ام هل يعود السبب ببساطة الى انه عبر من خلال روايته عن اسئلة وشكوك ساورته في لحظة ما من حياته قد يكون قطع معها لاحقا وبقيت الرواية شاهدا على بداية رحلته؟
اسئلة كثيرة يترك لنا نجيب محفوظ مهمة عسيرة في الاجابة عنها وتحمل مسؤولية اجوبتنا،فرغم انه عاش بعد كتابة روايته بما يقارب النصف قرن الا ان الاسئلة ظلت بعد وفاته ملحة وبلا اجوبة، لا يبقى امامنا اذن الا متن الرواية لقراءته و البحث فيه وفي سياق كتابته عن اجابات ممكنة لأسئلتنا.
ملخص الرواية
تحكي الرواية قصة رجل قوي وغني( الجبلاوي)، يجمع ابناءه الذكور في اول مشهد من مشاهد الرواية لكي يخبرهم انه سيكلف اخاهم ادهم بإدارة املاكه (الوقف)،ويدخل في مشادة كلامية مع ابنه ادريس الذي يعترض على قرار الأب، فيغضب هذا الاخير و يطرده من البيت، تتوالى احداث الرواية الى ان يخدع ادريس اخاه ادهم فيتسبب بطرده هو و زوجته اميمة من بين الجبلاوي، ويعيش الجميع خارج البيت الكبير حياة تعيسة، يطبعها الكد بالنسبة لادهم و تتسم بالفتونة والبلطجة بالنسبة لادريس.في هذا الفصل ايضا يقوم ابن ادهم قدري بقتل اخيه همام.
يخصص الكاتب بعد ذلك فصلا اخر لشخصية " جبل" القوي الذي ينشأ داخل بيت ناظر الوقف وفي رعاية زوجته لكنه ينحاز الى اهله "بني حمدان" ويدخل معركة لتحريرهم من بؤسهم وقهر الفتوات لهم.
اما الفصل الموالي فيتحدث عن شخصية "رفاعة" الطيب والخلوق الذي يحاول تخليص الناس من عفاريتهم لكي يجدوا السعادة الحقيقية لكن ينتهي به الامر الى القتل على ايدي الفتوات بعد ان خانته زوجته.
ويخصص محفوظ فصلا لشخصية قاسم الذي يظهر في حي "الجرابيع" وينجح مع اصدقائه في تخليص الحارة بجميع احيائها من الفتوات ويستلم نظارة الوقف لكي يوزعه بالتساوي على جميع الاحياء، بما فيهم حي جبل وحي رفاعة باعتبار انهم جميعا ابناء جد واحد (الجبلاوي).
في الفصل الاخير من الرواية تظهر شخصية عرفة، الساحر الذي يريد ان يغير معالم الحارة بسحره،يعود الى الحارة في البداية من اجل الانتقام لامه، لكنه يغرم بفتاة ويتزوجها ويغير اهدافه صوب التخلص من الفتوة الذي يتهدد زواجه ومن جميع الفتوات، غير ان مغامرته في اكتشاف البيت الكبير والوصول الى الجبلاوي، تسفر عن موت هذا الاخير وتنتهي بجعله تحت رحمة ناظر الوقف الذي يبتزه للحصول على ابتكاراته سيما منها الزجاجة المتفجرة والتي انهت زمن الفتوات وجعلت كل السيطرة لناظر الوقف،و عندما يحاول عرفة التخلص من تلك السيطرة يعاقبه ناظر الوقف بدفنه حيا.
تنتهي الرواية باكتشاف الناس لسر عرفة وحديثهم عن كراسته واشتداد الامل حول ثورة جديدة يقودها حنش(شقيق عرفة) والشباب معه ليخلصوا الحارة من الظلم بسحرهم.

رموز الرواية:

لا يحتاج القارئ جهدا كبيرا لفك الرموز التي تستخدمها الرواية في قالب درامي، فالمتن الروائي يقدم رؤية شمولية لمسار المجتمعات البشرية عبر الاديان السماوية الثلاث : اليهودية، المسيحية، والاسلام،فضلا عن العصر الاخير الذي يحكمه تطور العلم والمعرفة والذي عرفته المجتمعات جميعا على اختلاف اديانها.اضافة الى ذلك  فاختيار نجيب محفوظ لاسماء شخصيات روايته لم يكن اعتباطيا:
ادهم / ادم، ادريس/ابليس، اميمة (تصغير ام وهي امنا جميعا حواء)، قدري/قابيل، همام/هابيل، جبل( كناية عن قوة وشدة موسى عليه السلام)، (رفاعة في اشارة الى قدرة  عيسى عليه السلام على شفاء الناس)، قاسم/محمد عليه الصلاة والسلام،قنديل/جبريل، عرفة/ العلم والمعرفة.
ان اول ما اثار الجدل في الرواية هو شخصية الجبلاوي ، والد ادهم وادريس وجد كل من سيعمر الحارة من بعدهما.فالمشاهد الاولى في الرواية تذكرنا بشكل واضح بما حصل مع ابليس عندما رفض السجود لسيدنا ادم فاستحق بذلك غضب الله تعالى عليه.
شخصية الجبلاوي ستعمر طويلا جدا في الرواية لدرجة انها ستعاصر اجيالا متعددة تتجاوز بها عمر البشر في العالم الواقعي، لكنها تموت في عصر عرفة.وهنا تثير الرواية جدلا واسعا: فهل من حق الروائي تجسيد الذات الالهية في شخصية بشرية تمثلها؟ واذا كانت الرابط  واضحا بما لا يمكن انكاره بين شخصية الجبلاوي والذات الالهية، الا يعني موت الجبلاوي تجسيدا لفكرة موت الاله؟
انها مغامرة يخوضها نجيب محفوظ  على كل حال، فهل كان ذلك لتأثره بالفكر الماركسي و تعبيرا عن قناعاته ؟ ام كان هاجسه الاساسي هو التعبير عن رؤية شمولية للمجتمعات وكانت الشخصيات والاحداث مجرد ادوات فنية وروائية لا بد منها؟
لا تقطع الرواية بجواب نهائي حول ذلك بل تؤرجح  قارئها طوال الوقت بين قطبي الرمزي والواقعي، المتخيل والتاريخي، فإذا كان القارئ يلتقط بسهولة الاشارات الواردة بخصوص الذات الالهية وشخصيات الانبياء والاحداث الكبرى التي عرفتها مجتمعاتهم فإن فهمه يبقى ملتسبا بخصوص العديد من التفاصيل الاخرى، وجود اب لرفاعة، زواجه من مومس، طريقة قتله، ميل قاسم الى الغناء والشراب، فهل يقصد محفوظ ان ينسج احداث روايته و شخصياتها بشكل مبالغ فيه يبتعد بها احيانا عن الشخصيات الواقعية وذلك لكي يذكرنا انها في الاخير رواية وفيها من المتخيل اكثر مما فيها من الواقعي؟
في مطلق الاحوال فان رواية محفوظ تقدم صورة ايجابية عن الجبلاوي بوصفه قويا ،شديدا، عادلا ورحيما،رغم الظلم الذي يحيق باحفاده في كل عصر فهو يترك لهم تدبير شؤونهم حتى و ان صاح كل من ضاقت به السبل : يا جبلاوي، وتظهر شخصيات جبل، رفاعة وقاسم تباعا لكي تغير الاوضاع بأمر من الجبلاوي، فجبل يكلمه شخصيا وان كان هذا الاخير لا يراه، ورفاعة يصله صوت الجبلاوي بينما يرسل خادمه قنديل الى قاسم،وتصف احداث الرواية اخلاص كل من هؤلاء واستماتتهم في تنفيذ رغبة ووصايا جدهم في احقاق العدل وتخليص الناس من الظلم.

"اولاد حارتنا"  رؤية انسانية شمولية :

بغض النظر عن النقاط التي تثير اختلافا وجدلا حول رواية "اولاد حارتنا" فإن هناك بعدا انسانيا حاضرا في احداثها،فالرواية تضع موضع تساؤل تعصب ابناء الحي الواحد لنسبهم (الجبليون والرفاعيون والقاسميون) رغم كونهم ينحدرون جميعا من اصل واحد، وان تفاصيل النسب لا تغير من امر واقعهم شيئا، فالجميع يعيش تحت وطأة قهر الفتوات والفقر والحرمان و احتكار ناظر الوقف للخيرات،و هو واقع يتكرر في كل عصر ولا يستثني احدا،ورغم وجود فترات مضيئة ترتبط في زمن الرواية بظهور جبل، رفاعة وقاسم الا ان الحياة سرعان ما تعود الى ما كانت عليه من ظلم واستغلال.
تسير الرواية بهذا في اتجاه  اقرار ما جاء في قصص الاديان السماوية الثلاث والدعوة الى التسامح بين الاديان ونبذ التعصب، من جهة ثانية فإنها تعمل على رصد واقع مجتمعات ترزح الاغلبية فيها تحت نير اقلية مهيمنة وطاغية،وبشكل ما فان الناس في كل الازمنة يستسلمون امام هذا الواقع ولا يسعون الى نغييره الا بقدر ما يتمكن البعض منهم من الالتفاف حول الرؤية الاصلاحية لاحد احفاد الجبلاوي المكلف بقيادتهم.
 "عمد الاقوياء الى الارهاب والضعفاء الى التسول والجميع الى المخدرات" . يقول نجيب محفوظ هذا (ص 117)، فيستوقفنا التعاطي اللافت والمنتشر  للحشيش  في كل فصول الرواية، فهل كان المقصود بحضور المخدرات استخدامها كرمز للدين إقرارا بما جاء في قول ماركس: "الدين افيون الشعوب"؟ سنلاحظ ان تعاطي الحشيش لم يقتصر في الرواية على فئات معينة دون اخرى، بل شمل الجميع وان اختلفت جودته ما بين الناس البسطاء والفتوات وناظر الوقف، لكن يبقى ان الجميع يدخنه،الارجح اذن ان  الخلفية الفكرية التي تؤسس قولة ماركس  لا تتفق  و سياق ورود الحشيش في الرواية،فإذا كانت الاديان والمذاهب والنظم الاخلاقية بنظر الفكر الماركسي انتاجا ايديولوجيا توظفه بعض الفئات الاجتماعية مدافعة عن مصالحها وامتيازاتها، فان هذا لا يتفق واقرار نجيب محفوظ بكون الاديان السماوية تنفيذا لارادة الخالق عز وجل، وهو ما سبق توضيحه من خلال قصص كل من جبل ورفاعة وقاسم.
الحشيش حاضر اذن لكنه ليس من اختراع ناظر الوقف ولا فتوات الحارة بل هو موجود والجميع يتعاطاه على حد سواء، فهل يشير به نجيب محفوظ الى ما يغيب العقل البشري عن سعادته الحقيقية؟ ما يجعل الانسان قاصرا عن ادراك سر وجوده وكيفية تحقيقه لهذا الوجود، هذا القصور الذي لا يرجع الى طبيعة الانسان بقدر ما يرجع الى تاثير ما يخدر عقله (قد يكون في الواقع الفعلي افكارا او غيرها).
كانت الرواية سببا في الحاق تهمة الكفر والإلحاد بصاحبها نجيب محفوظ ، والواقع انه من السهل ان نتسرع الى حشر الرواية  في خندق الكفر والالحاد، لكن ذلك لن يجيب بحال من الاحوال عن الاسئلة التي تطرحها غير عابئة بحكم من يصفق او من يستنكر،ليس في الرواية ما يسمح بتبرير تهمة الكفر أو الالحاد، فالكاتب أقر بما جاءت به الاديان السماوية وبصدورها عن ارادة الهية،وكانت الاحداث التي تؤثث فضاء الرواية اقرب احيانا كثيرة الى الرصد والتأريخ لواقع معطى.
يصدم نجيب محفوظ القارئ بموت الجبلاوي، ويتوقف البعض عند دلالة الموت في حد ذاتها قبل ان يتوقفوا عند سياقه ، كان موت الجبلاوي نتيجة لزيارة عرفة السرية للبيت الكبير والتي قتل فيها من فرط هلعه خادما عجوزا وعاد منها جريحا دون ان يظفر برؤية الجبلاوي او كتاب شروطه العشرة.
ماذا أراد نجيب محفوظ بكل هذا؟ اذا عدنا الى الفصل الخاص بعرفة سنجد ان هذا الاخير عاد في البداية الى الحارة وبداخله رغبة في الانتقام من سكانها،كان شديد التركيز على تطوير سحره ولم يبد اهتماما او احتراما خاصا للجبلاوي، لكن بعد مغامرته وتسلله الى البيت الكبير تغيرت نظرته،واصبح يعاني أزمة ضمير يحتاج للتحرر منها الى رضا الجبلاوي ميتا وهو الذي لم يهتم برضاه حيا،جريمته في حق الخادم الحقت به تهمة قتل الجبلاوي وبذلك وضعته تحت قبضة ناظر الوقف المستفيد الحقيقي والوحيد من كل ما حصل.
تخبرنا التفاصيل السابقة بأنه في المرحلة الراهنة من مسار المجتمعات الانسانية، يضطلع العلم الحديث بمهمة الكشف عن الحقائق بعيدا عن قداسة كل ما هو ديني،لكن مغامرة العلم ليست انتصارات على طول الخط،لان هناك جانبا من الوجود حتى عند المجازفة  بالبحث فيه فإن الباحث  يخرج منه خاوي الوفاض.في البداية  لم تكن مشكلة العلم تتعلق بالايمان بالدين من عدمه، مثلما ان عرفة لم يأبه كثيرا لما يحكى عن الجبلاوي، فالمشكلة الحقيقية هي معرفة ما كان مجهولا،ايجاد المفاتيح اللازمة للتعامل مع واقع مأزوم. ان محاولة المعرفة هاته هي ما يجعل العلم في مواجهة الدين،جرأة العلم وجرأة عرفة تضعهما في المواجهة،لكنها مواجهة لا تسفر عن التعارض كما هو متوقع،فعرفة يكن احتراما كبيرا للجبلاوي والجبلاوي يوصي خادمته بابلاغ عرفة انه راض عنه، لذلك فإن وقوف العلم الحديث عند مسائل غيبية وميتافيزيقية لا يفهمها لا يمنعه في نهاية الأمر من احترام الاديان والاعتقاد بوجود الخالق.
ومثلما ان عرفة انتهى به المطاف الى وضع اختراعاته في يد ناظر الوقف، فان الرواية تضع العلم المعاصر والتقنية النابعة عنه موضع تساؤل لانها عوض ان تحرر البشرية من الاستغلال والحرمان، منحت للفئات المهيمنة سبلا وأدوات جديدة للاستعباد أشد فتكا وخطورة،وبهذا تتقاسم الرواية  مع الكثير من المفكرين الغربيين نفس خيبة الامل تجاه العلم  والتقنية التي انطلقت من وعود بالرفاهية لتنتهي الى المزيد من الاستعباد.وسواء كان التواطؤ مقصودا أم لا فإن النتيجة واحدة.
ماذا عن نهاية الرواية ؟ إذا فهمنا المنطق الذي يحكم الرواية فانه من السهل جدا ان نتوقع نهايتها، فمن حيث هي تأريخ ورصد لمسار المجتمعات لم تكن لتنتهي الا بوضعية مفارقة تسجل فيها نكسة العلم التي كانت وبشكل مفارق سببا في تزايد الايمان به، ففي نهاية الخمسينات (في عالم لا يزال يحصي قتلى الحربين،و تجاهد فيه بعض الشعوب للخروج بشكل نهائي من وضعية الاستعمار، عالم فتح عينيه على الافاق اللامحدودة للعلم والمعرفة) لم يكن بالامكان ان تنتهي الرواية الى غير ما انتهت اليه.
لكن استحضار ثنائية الدين والعلم يلزمنا بتسجيل معطى اخر يفسر نهاية "اولاد حارتنا" فبعد موت الجبلاوي لم يعد الناس يأملون في ظهور منقذ جديد، وتيقنوا اكثر من اي وقت ان تحسين اوضاعهم راجع الى مجهودهم هم لا غيرهم، ورغم ان هذه كانت رسالة الجبلاوي منذ البداية الا ان احفاده لم يستوعبوها الا بعد موته( مثلما ان المعطى الواقعي يضعنا امام الحقيقة التي يؤمن بها المتدينون بالاديان السماوية وهي ان الرسالة المحمدية هي اخر الرسالات السماوية،و ان اخر خطاب الهي يوحى الى بشر هو القرآن الكريم). بذلك تقع مسؤولية التغيير على كل فرد في الحارة وعلى كل انسان في المجتمع البشري، ربما لهذا عبر عرفة في الرواية - قبل ان يتم دفنه حيا- عن ضرورة احياء الجبلاوي وذلك بتنفيذ وصاياه وجعله يعيش فينا.
نهاية الرواية تعبر عن الامل في العلم كمخلص من الظلمات، العلم الذي يقدم نفسه كأداة للتحرر وليس كبديل عن الديانات، لكن يبقى رهانه الاساسي والذي تتركه الرواية سؤالا اخر بلا جواب هو هل سيحرر نفسه من المتحكمين في مساره ومصيره لكي يساعد هو غيره في تحرير انفسهم؟


الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

تحت وصاية الجدران


استيقظ على صوت جلبة كبيرة.. فكر ان حركة المرور الصباحية مزعجة اليوم اكثر من المعتاد...فتح عينيه ببطء محاولا التخلص من احلام غريبة تراوده بين الحين والاخر..ترك فراشه غير واع تماما بما حوله..اجال عينيه نصف المغمضتين بين اشياءه المبعثرة بلا مبالاة هنا وهناك محاولا العثور على خفيه...رفع بصره قليلا ثم اتسعت عيناه فجأة و ارتسمت  دهشة شديدة على ملامح وجهه..من المكان الذي يقف فيه، في غرفته،في شقته الصغيرة ،من  الطابق الرابع كان بوسعه ان يرى غرفة معيشة الجيران في العمارة المقابلة...حرك رأسه وهو ينظر الى ستائرها التي بدت معلقة الى فراغ على جوانب نافذة بدت معلقة بدورها الى لا شيء..نظر غير مصدق ما يراه امامه...لا جدار..او على الاقل هذا ما استنتجه عندما لاحظ ان بوسعه ان يرى كل محتويات تلك الغرفة و منها كل غرف البيت الاخرى...اجال عينين حائرتين فاكتشف ان كل طوابق العمارة وكل منزل فيها اصبح مكشوفا امامه..وفهم مصدر الجلبة...اناس كثر في منازلهم وفي الشارع يتحركون في فزع ويتحدثون الى بعضهم بأصوات مرتفعة..لم يتمكن من فهم ما يقولون..جال بخاطره انه ربما لا يزال نائما وان هذا واحد من احلامه الغريبة..تحرك الى الامام فتعثرت  قدمه بالسرير وتأوه متألما: اللعنة ! هذا ليس حلما ! تقدم الى نافذة غرفته وانتبه فجأة انه لا ينظر الى منازل الحي من النافذة بل من الجدار...مما يفترض انه مكان الجدار..اقترب في بطء..حاول ان يطل الى الاسفل فاصطدم رأسه بشيء ما...مد يديه دون تفكير وبدأ يتحسس امامه... "يا الهي ! لم يختف الجدار انه هنا...لكنه شفاف تماما.." فكرة قرت في ذهنه قبل ان يكتشف شيئا اخر اربكه اكثر، بوسع كل الجيران ان يروه من داخل منازلهم تماما كما يستطيع هو ان يراهم !! ارتدى ملابسه مسرعا..جلس للحظات قبل ان يقرر الخروج الى الشارع ليشارك الناس ذهولهم وحيرتهم امام ما يحصل...
افكار كثيرة جالت بذهنه وهو يحاول ان يستوعب ما يحصل..كأن كل الجدران قررت ان تتخلى عن سمكها و تعرض ما يختفي وراءها بلا اكتراث...
قطع اثاث فاخرة على مساحات شاسعة في هذا الحي..وغرف ضيقة وعارية الا من اثاث قديم  بالكاد يغطي الارضيات الباردة في احياء اخرى كثيرة..وفي كل مكان تتجاور منازل نظيفة ومرتبة واخرى تعمها الفوضى ..
في منزل "سي المختار" نرجيلة مخبأة ما بين الدولاب وجدار الغرفة،قنينات خمر اسفل السرير،أشياء اصبحت معروضة على أعين المارة كما كانت يوما في واجهات المحلات التجارية...من كان ليظن ان الشيخ يتعاطى لهذه الأشياء على كبر؟ !!
من داخل منزلها جلست "وفاء" زوجة الجزار تنظر الى بعض السكان المتجمهرين في الزقاق..كان بصرها مركزا على وجه احدهم..كان ينظر اليها بدوره..وعلى ملامحهما تواطؤ يعرف سكان الحي مغزاه.. تواطؤ التقطته عينا الجزار الذي انقض على الرجل يلكمه في شراسة..بينما التقطت زوجته رداءها في رعب واندفعت خارج منزلها وعلى ملامح وجهها خليط من شحوب الاموات ورعب الاحياء امام اشباحهم...
ترك المكان محاولا الابتعاد عن جلبة الجاني والمجني عليه،لكن اصوات المتناحرين لاحقته في كل مكان..فاضت المنازل بوابل من القصص..وعلى غير عادة راقبت الاعين وامتنعت الألسنة عن التعليق.
لم يدر كم مضى عليه من الوقت يسير من حي الى اخر تنتقل عيناه بين حكايات المنازل كمن يقلب محطات التلفزيون في ضجر..توقف امام مركز الشرطة..كان الموظفون جالسين الى مكاتبهم في هدوء وترقب..في زنزانة بجانب من المكان قبع اشخاص يفترض انهم متهمون في قضايا متفرقة..كان المكان هادئا بشكل غير متوقع..فجأة توقفت امامه شاحنة صغيرة.. ترجل منها اربعة عمال اخذوا يفرغون حمولة الشاحنة داخل المركز..خلال لحظات كانت جدران المكان تختفي كليا خلف حاجز سميك من الستائر...بعدها بساعات حذت بعض المنازل حذوه..ثم بدأ الجميع يتسابق من أجل ستائر للستر..ونشبت معارك ضارية من أجل قطعة ثوب..الى ان خيم الظلام وستر الجميع تحت جنحه..
بزغت شمس اليوم الموالي على مدينة بمظهر جديد..واجهات منازل مغطاة بأقمشة من الوان مختلفة كأنها رقع على بذلة بهلوان..بعض المنازل لم تجد من القماش ما يكفي الا لستر غرفة او غرفتين..وفي مدينة لا تحفل كثيرا بطرح الاسئلة..لماذا؟ و كيف؟ كانت الاقمشة جوابا كافيا اعاد بعض الهدوء الى شوارعها و الحركة في متاجرها و ورشاتها..وتناقلت الالسن من جديد ما حدث مع فلان وفلان وفلان...
 وحدها حياة من لا يملكون قماشا كافيا صارت الاكثرة شهرة، ضرب من الصراحة الاجبارية  تحولت شيئا فشيئا  الى تخل طوعي عن كل التحفظات..لم يعد هؤلاء يستودعون اسرارهم احدا فحتى الجدران خانت الوصية واصبحت وصية على حياتهم تعرضها بلااهتمام..
هل كان قرارا للجدران ام ان ما يحدث مجرد كابوس لعين اخر ؟!!  لم يحفل كثيرا بالتوقف عند الاجابة فقط غاصت أفكاره بعيدا وهو يفكر في اقنعة سقطت واخرى ازدادت سمكا وتمسكا بالاقناع،يتأمل حدودا انمحت واخرى حميت  و رسمت بعناية اكثر وبخطوط حمراء عريضة...




الاثنين، 16 ديسمبر 2013

رفيقة العمر

عندما ترافقها لمدة من الزمن،سنة بسنة،شهرا بشهر، ساعة بساعة،لا تغيب عنك لثانية...تعتقد انك تعرفها بما فيه الكفاية...تعتقد انك تعرف ما يفرحها وما يغضبها،ما يحمسها وما يحبطها،تعتقد انك على علم بأسوأ مخاوفها، واعلى طموحاتها...تعتقد انك رأيتها في كل المواقف وفي جميع حالاتها بما يسمح لك بأن تتوقع مسبقا ردة فعلها ازاء أي شيء..تاريخك معها يعطيك ثقة كبيرة في انك ترى ما بداخلها كما لو كانت شفافة تماما امام عينيك..

ثم يحدث ان تنكسر تلك الثقة الساذجة في يوم ما،وتستحيل تلك الشفافية المزعومة ضبابا قاتما...ليس لانها لم تعد صريحة معك،ولكن لان ما يحدث معها احيانا قد لا تحتويه مجرد الكلمات..ثم تنظر اليها تناضل من اجل العودة شفافة كما كانت... تحاول ثم تخطئ...تنظر اليها وهي تتعلم تقبل الاخطاء على انها جزء من مغامرة الحياة..تنظر اليها  وهي تتعلم المشي مجددا... ليس لديك ذكرى عنها وهي تتعلم المشي صغيرة...لكنك تنظر اليها الان وهي تتعلم المشي بلا تعثر في دروب الحياة...ثم تصبح رفقتها فجأة وبسبب ما يحدث من حين لآخر ممتعة الى حد كبير...تتساءل: ماذا بعد؟ كيف تراها تتصرف؟ ماذا عساها تتعلم من هذه التجربة او تلك؟ هل ستبقيها الحياة هي نفسها ام ستستسلم يوما لسلطة التيار الجارف حولها؟ تنظر اليها وتتساءل:كيف تكون بهذا التناقض العجيب؟ في قوتها ضعف وفي ضعفها قوة...وما يقويها يضعفها،وما يضعفها يقويها....تتابعها في اهتمام كما لو كنت ازاء شخصية في برنامج للتلفزيون الواقعي...تنظر اليها في حنو ومحبة وتبتسم عندما تتذكر انك معها لست ازاء شخصية تلفزيونية...تضع المرآة جانبا وتنهض مفكرا انك تحبها وتحتاج ان تحبها...نعم تحتاج ان تحب ذاتك ونفسك بما يكفي لكي تكون مستمتعا و راضيا برفقتها مزيدا من العمر.

الأحد، 8 ديسمبر 2013

"لقهيوة" التي تخفي غابة بن




لا احد يعرف كيف بدأت قصتنا مع الرشوة،لكن من المؤكد انها ظاهرة قديمة في مجتمعنا والا لما افردنا لها مثلا شعبيا ( دهن السير اسير)،ربما بدأت بالتغلغل في حياتنا اليومية عندما قررنا ان نعطيها تسميات اخرى تتخفى وراءها،تسميات تدعي ان هناك نية حسنة في كل مشهد رشوة وان الامر برئ تماما،تسميات من قبيل: "الهدية" التي يراد لها ان تدخل في باب مضمون الحديث النبوي تهادوا تحابوا،او "قهيوة" التي يراد لها ان تدخل في باب حسن الادب والتعاطف مع الموظف الذي يعمل بكد ويتقاضى القليل، "لحلاوة" وهذه يعبر بها المعني بالامر عن فرحته بقضاء حاجته، والتعبير عن الفرحة في موروثنا الثقافي مقرون بصرف الاموال هنا وهناك،اليس هذا ما نفعله في حفلات الزفاف عندما يتباهى الناس برمي الاوراق النقدية على الراقصين والراقصات؟
تختلف السيناريوهات والبطلة واحدة: الرشوة، قد يطالب بها الموظف وقد يقدمها المواطن طواعية من اجل اغرائه،قد تكون من اجل انهاء اجراءات ادارية في وقت اقل،او من اجل الحصول على امتيازات غير مشروعة،وفي جميع الحالات فانها في المغرب وجدت بيئة مناسبة لتتحول من مجرد "قهيوة" الى غابة بن يضيع المواطن بين اشجارها  أومعمل قهوة  ضخم يفرم كل مواطن لا يجيد التحرك بين آلاته.
هذا لكي نقول ان اجتثاث الرشوة او تفكيكها ليس بالأمر الهين،ولا يمر عبر القوانين وحدها وان كانت جد ضرورية ، فجعل الغابة مكانا محظورا لا يمنع من التسلل اليها و اغلاق معمل لا يمنع عماله من الاشتغال تحت جنح الظلام. لهذا فان تفعيل القوانين التي تجرم وتحارب الرشوة يبقى رهينا ليس بنزاهة القيمين على تطبيقها،اذ لا يمكن ان نبني مصلحة وطنية على النزاهة المفترضة لشخص على كرسي،والا لكان نصيبنا وافرا من خيبات الامل،بالمقابل فتوفير اليات محاسبة ومراقبة يعد امرا حيويا للقضاء على الرشوة،اذ كلما كان الموظف - ايا كان منصبه-  متأكدا من انه سيتعرض للمساءلة والمحاسبة بصرامة كلما غامر اقل بالمطالبة بالرشوة او قبولها.
في قلب الحديث عن الرشوة يبرز المواطن احيانا كضحية واحيانا كشريك واحيانا اخرى كجان، فالنفوذ مقترنا بالمال يجعل بعض المواطنين يفرض الرشوة كطريقة في التدبير.مع ذلك فهذا ليس حال غالبية المواطنين الذين لا نفوذ ولا مال لديهم ، فقط صفة المواطنة التي تجعلهم يدخلون ادارة عمومية لانهم لا يعرفون مكانا لتلبية حاجياتهم غيرها.بالنسبة لشريحة واسعة من المغاربة الذين تعودوا على سوء المعاملة منذ الصغر-عنف لفظي وجسدي في البيت والمدرسة والشارع-ليس سوء خلق الموظف امرا متطرفا،فهو يدخل في باب المتعود عليه،وبالنسبة لمن تعودوا على بناء علاقاتهم الاجتماعية على اساس التفوق والهيمنة،فهم مستعدون لطأطأة الرأس في حضرة المخزن (الذي يمثله الموظف بالنسبة اليهم) والقبول بقواعد التعامل التي يقول بها دون اعتراض او نقاش.من هنا ينبع لدى المواطن الاستعداد النفسي-الاجتماعي لتقبل واقع الرشوة والتعايش معه بل وتكريسه بتقديم الرشوة طوعا اوالمطالبة بها في مجال عمله الخاص.لهذا فالرهان الحقيقي هو الاشتغال على زبون الرشوة،فهي تندثر تلقائيا اذا ما انقرض زبناؤها.
في مجتمع لا زال للدين فيه دور في تأطير الافراد يكون من المهم الاشتغال على تنمية وتقوية الوازع الديني في التوعية بتبعات الرشوة واخطارها،وفي صلب ذلك وبالتوازي معه تبرز مقاربة مهمة جدا وهي المقاربة الحقوقية،اذ نتصور انه لو كان لدى المواطن-الضحية وعي تام بطبيعة العلاقة التي تربطه باجهزة الدولة لما قبل بالرشوة كخيار له، فصفة المواطنة لديه تجعل تلك الاجهزة في خدمته وليس العكس،وتعطيه الحق بالاحتجاج على سوء الخدمة او التدبير،وبفتح نقاش ضاغط لتطوير أداء الادارات العمومية بما يسهل تلبية حاجياته وبشكل يحترم انسانيته.
ان الصورة الغائبة عن ذهن المواطن ضحية الرشوة هي صورة علاقة سوية بالدولة التي يحمل صفة المواطنة فيها،علاقة مبنية على واجبات يؤديها وحقوق اذا لم تقدم له بشكل يحفظ كرامته فمن حقه ان يناضل من اجلها.غير ان النضال بالنسبة للكثيرين درب طويل ومتعب ومحفوف بالمخاطر لهذا يفضلون طريق الرشوة رغم كونها تسبب حالة من الأرق الدائم والذي  يبدأ بمجرد استهلاكهم ل"قهيوة".