الأحد، 8 ديسمبر 2013

"لقهيوة" التي تخفي غابة بن




لا احد يعرف كيف بدأت قصتنا مع الرشوة،لكن من المؤكد انها ظاهرة قديمة في مجتمعنا والا لما افردنا لها مثلا شعبيا ( دهن السير اسير)،ربما بدأت بالتغلغل في حياتنا اليومية عندما قررنا ان نعطيها تسميات اخرى تتخفى وراءها،تسميات تدعي ان هناك نية حسنة في كل مشهد رشوة وان الامر برئ تماما،تسميات من قبيل: "الهدية" التي يراد لها ان تدخل في باب مضمون الحديث النبوي تهادوا تحابوا،او "قهيوة" التي يراد لها ان تدخل في باب حسن الادب والتعاطف مع الموظف الذي يعمل بكد ويتقاضى القليل، "لحلاوة" وهذه يعبر بها المعني بالامر عن فرحته بقضاء حاجته، والتعبير عن الفرحة في موروثنا الثقافي مقرون بصرف الاموال هنا وهناك،اليس هذا ما نفعله في حفلات الزفاف عندما يتباهى الناس برمي الاوراق النقدية على الراقصين والراقصات؟
تختلف السيناريوهات والبطلة واحدة: الرشوة، قد يطالب بها الموظف وقد يقدمها المواطن طواعية من اجل اغرائه،قد تكون من اجل انهاء اجراءات ادارية في وقت اقل،او من اجل الحصول على امتيازات غير مشروعة،وفي جميع الحالات فانها في المغرب وجدت بيئة مناسبة لتتحول من مجرد "قهيوة" الى غابة بن يضيع المواطن بين اشجارها  أومعمل قهوة  ضخم يفرم كل مواطن لا يجيد التحرك بين آلاته.
هذا لكي نقول ان اجتثاث الرشوة او تفكيكها ليس بالأمر الهين،ولا يمر عبر القوانين وحدها وان كانت جد ضرورية ، فجعل الغابة مكانا محظورا لا يمنع من التسلل اليها و اغلاق معمل لا يمنع عماله من الاشتغال تحت جنح الظلام. لهذا فان تفعيل القوانين التي تجرم وتحارب الرشوة يبقى رهينا ليس بنزاهة القيمين على تطبيقها،اذ لا يمكن ان نبني مصلحة وطنية على النزاهة المفترضة لشخص على كرسي،والا لكان نصيبنا وافرا من خيبات الامل،بالمقابل فتوفير اليات محاسبة ومراقبة يعد امرا حيويا للقضاء على الرشوة،اذ كلما كان الموظف - ايا كان منصبه-  متأكدا من انه سيتعرض للمساءلة والمحاسبة بصرامة كلما غامر اقل بالمطالبة بالرشوة او قبولها.
في قلب الحديث عن الرشوة يبرز المواطن احيانا كضحية واحيانا كشريك واحيانا اخرى كجان، فالنفوذ مقترنا بالمال يجعل بعض المواطنين يفرض الرشوة كطريقة في التدبير.مع ذلك فهذا ليس حال غالبية المواطنين الذين لا نفوذ ولا مال لديهم ، فقط صفة المواطنة التي تجعلهم يدخلون ادارة عمومية لانهم لا يعرفون مكانا لتلبية حاجياتهم غيرها.بالنسبة لشريحة واسعة من المغاربة الذين تعودوا على سوء المعاملة منذ الصغر-عنف لفظي وجسدي في البيت والمدرسة والشارع-ليس سوء خلق الموظف امرا متطرفا،فهو يدخل في باب المتعود عليه،وبالنسبة لمن تعودوا على بناء علاقاتهم الاجتماعية على اساس التفوق والهيمنة،فهم مستعدون لطأطأة الرأس في حضرة المخزن (الذي يمثله الموظف بالنسبة اليهم) والقبول بقواعد التعامل التي يقول بها دون اعتراض او نقاش.من هنا ينبع لدى المواطن الاستعداد النفسي-الاجتماعي لتقبل واقع الرشوة والتعايش معه بل وتكريسه بتقديم الرشوة طوعا اوالمطالبة بها في مجال عمله الخاص.لهذا فالرهان الحقيقي هو الاشتغال على زبون الرشوة،فهي تندثر تلقائيا اذا ما انقرض زبناؤها.
في مجتمع لا زال للدين فيه دور في تأطير الافراد يكون من المهم الاشتغال على تنمية وتقوية الوازع الديني في التوعية بتبعات الرشوة واخطارها،وفي صلب ذلك وبالتوازي معه تبرز مقاربة مهمة جدا وهي المقاربة الحقوقية،اذ نتصور انه لو كان لدى المواطن-الضحية وعي تام بطبيعة العلاقة التي تربطه باجهزة الدولة لما قبل بالرشوة كخيار له، فصفة المواطنة لديه تجعل تلك الاجهزة في خدمته وليس العكس،وتعطيه الحق بالاحتجاج على سوء الخدمة او التدبير،وبفتح نقاش ضاغط لتطوير أداء الادارات العمومية بما يسهل تلبية حاجياته وبشكل يحترم انسانيته.
ان الصورة الغائبة عن ذهن المواطن ضحية الرشوة هي صورة علاقة سوية بالدولة التي يحمل صفة المواطنة فيها،علاقة مبنية على واجبات يؤديها وحقوق اذا لم تقدم له بشكل يحفظ كرامته فمن حقه ان يناضل من اجلها.غير ان النضال بالنسبة للكثيرين درب طويل ومتعب ومحفوف بالمخاطر لهذا يفضلون طريق الرشوة رغم كونها تسبب حالة من الأرق الدائم والذي  يبدأ بمجرد استهلاكهم ل"قهيوة".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق