الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

تحت وصاية الجدران


استيقظ على صوت جلبة كبيرة.. فكر ان حركة المرور الصباحية مزعجة اليوم اكثر من المعتاد...فتح عينيه ببطء محاولا التخلص من احلام غريبة تراوده بين الحين والاخر..ترك فراشه غير واع تماما بما حوله..اجال عينيه نصف المغمضتين بين اشياءه المبعثرة بلا مبالاة هنا وهناك محاولا العثور على خفيه...رفع بصره قليلا ثم اتسعت عيناه فجأة و ارتسمت  دهشة شديدة على ملامح وجهه..من المكان الذي يقف فيه، في غرفته،في شقته الصغيرة ،من  الطابق الرابع كان بوسعه ان يرى غرفة معيشة الجيران في العمارة المقابلة...حرك رأسه وهو ينظر الى ستائرها التي بدت معلقة الى فراغ على جوانب نافذة بدت معلقة بدورها الى لا شيء..نظر غير مصدق ما يراه امامه...لا جدار..او على الاقل هذا ما استنتجه عندما لاحظ ان بوسعه ان يرى كل محتويات تلك الغرفة و منها كل غرف البيت الاخرى...اجال عينين حائرتين فاكتشف ان كل طوابق العمارة وكل منزل فيها اصبح مكشوفا امامه..وفهم مصدر الجلبة...اناس كثر في منازلهم وفي الشارع يتحركون في فزع ويتحدثون الى بعضهم بأصوات مرتفعة..لم يتمكن من فهم ما يقولون..جال بخاطره انه ربما لا يزال نائما وان هذا واحد من احلامه الغريبة..تحرك الى الامام فتعثرت  قدمه بالسرير وتأوه متألما: اللعنة ! هذا ليس حلما ! تقدم الى نافذة غرفته وانتبه فجأة انه لا ينظر الى منازل الحي من النافذة بل من الجدار...مما يفترض انه مكان الجدار..اقترب في بطء..حاول ان يطل الى الاسفل فاصطدم رأسه بشيء ما...مد يديه دون تفكير وبدأ يتحسس امامه... "يا الهي ! لم يختف الجدار انه هنا...لكنه شفاف تماما.." فكرة قرت في ذهنه قبل ان يكتشف شيئا اخر اربكه اكثر، بوسع كل الجيران ان يروه من داخل منازلهم تماما كما يستطيع هو ان يراهم !! ارتدى ملابسه مسرعا..جلس للحظات قبل ان يقرر الخروج الى الشارع ليشارك الناس ذهولهم وحيرتهم امام ما يحصل...
افكار كثيرة جالت بذهنه وهو يحاول ان يستوعب ما يحصل..كأن كل الجدران قررت ان تتخلى عن سمكها و تعرض ما يختفي وراءها بلا اكتراث...
قطع اثاث فاخرة على مساحات شاسعة في هذا الحي..وغرف ضيقة وعارية الا من اثاث قديم  بالكاد يغطي الارضيات الباردة في احياء اخرى كثيرة..وفي كل مكان تتجاور منازل نظيفة ومرتبة واخرى تعمها الفوضى ..
في منزل "سي المختار" نرجيلة مخبأة ما بين الدولاب وجدار الغرفة،قنينات خمر اسفل السرير،أشياء اصبحت معروضة على أعين المارة كما كانت يوما في واجهات المحلات التجارية...من كان ليظن ان الشيخ يتعاطى لهذه الأشياء على كبر؟ !!
من داخل منزلها جلست "وفاء" زوجة الجزار تنظر الى بعض السكان المتجمهرين في الزقاق..كان بصرها مركزا على وجه احدهم..كان ينظر اليها بدوره..وعلى ملامحهما تواطؤ يعرف سكان الحي مغزاه.. تواطؤ التقطته عينا الجزار الذي انقض على الرجل يلكمه في شراسة..بينما التقطت زوجته رداءها في رعب واندفعت خارج منزلها وعلى ملامح وجهها خليط من شحوب الاموات ورعب الاحياء امام اشباحهم...
ترك المكان محاولا الابتعاد عن جلبة الجاني والمجني عليه،لكن اصوات المتناحرين لاحقته في كل مكان..فاضت المنازل بوابل من القصص..وعلى غير عادة راقبت الاعين وامتنعت الألسنة عن التعليق.
لم يدر كم مضى عليه من الوقت يسير من حي الى اخر تنتقل عيناه بين حكايات المنازل كمن يقلب محطات التلفزيون في ضجر..توقف امام مركز الشرطة..كان الموظفون جالسين الى مكاتبهم في هدوء وترقب..في زنزانة بجانب من المكان قبع اشخاص يفترض انهم متهمون في قضايا متفرقة..كان المكان هادئا بشكل غير متوقع..فجأة توقفت امامه شاحنة صغيرة.. ترجل منها اربعة عمال اخذوا يفرغون حمولة الشاحنة داخل المركز..خلال لحظات كانت جدران المكان تختفي كليا خلف حاجز سميك من الستائر...بعدها بساعات حذت بعض المنازل حذوه..ثم بدأ الجميع يتسابق من أجل ستائر للستر..ونشبت معارك ضارية من أجل قطعة ثوب..الى ان خيم الظلام وستر الجميع تحت جنحه..
بزغت شمس اليوم الموالي على مدينة بمظهر جديد..واجهات منازل مغطاة بأقمشة من الوان مختلفة كأنها رقع على بذلة بهلوان..بعض المنازل لم تجد من القماش ما يكفي الا لستر غرفة او غرفتين..وفي مدينة لا تحفل كثيرا بطرح الاسئلة..لماذا؟ و كيف؟ كانت الاقمشة جوابا كافيا اعاد بعض الهدوء الى شوارعها و الحركة في متاجرها و ورشاتها..وتناقلت الالسن من جديد ما حدث مع فلان وفلان وفلان...
 وحدها حياة من لا يملكون قماشا كافيا صارت الاكثرة شهرة، ضرب من الصراحة الاجبارية  تحولت شيئا فشيئا  الى تخل طوعي عن كل التحفظات..لم يعد هؤلاء يستودعون اسرارهم احدا فحتى الجدران خانت الوصية واصبحت وصية على حياتهم تعرضها بلااهتمام..
هل كان قرارا للجدران ام ان ما يحدث مجرد كابوس لعين اخر ؟!!  لم يحفل كثيرا بالتوقف عند الاجابة فقط غاصت أفكاره بعيدا وهو يفكر في اقنعة سقطت واخرى ازدادت سمكا وتمسكا بالاقناع،يتأمل حدودا انمحت واخرى حميت  و رسمت بعناية اكثر وبخطوط حمراء عريضة...




هناك 6 تعليقات:

  1. نعم ، هي جدران وجدران وجدران .. تحبسنا عن رؤية كثيــر من الحقائق الزائفة ،و فور ما تنكشف هذه الجدران ، نتمنى لو أنها ما انكشفت !
    وكاني أجدني أمام لوحة فنية عميقة المعاني ، وأجدني مضطرة لأستعين بمن أبدعها كي يزيدني من بهاء الاستيعاب والتذوق .. أبدعتِ

    ردحذف
  2. ممتنة لمرورك وحضورك الدائم عزيزتي كريمة وسعيدة لان المعاني في قصتي استطاعت ان تصل الى قارئة حساسة ومبدعة مثلك خالص مودتي

    ردحذف
  3. أنا تلميذك كثير الكلام عزالدين أفرخان.على العموم قصة رائعة و أسلوب ممتاز.المزيد من الإبداع

    ردحذف
    الردود
    1. اهلا عز الدين، شكرا لمرورك وسعيدة لان القصة اعجبتك

      حذف