الاثنين، 31 أغسطس 2015

أليس من الرائع ان تكوني امرأة؟



تحكي الأساطير اليونانية عن ظهور المرأة الأولى على الأرض كعقاب وانتقام من الآلهة،فخلق المرأة كان بأمر من كبيرهم زيوس وذلك بهدف الانتقام من بروميثيوس الذي منح البشر قبسا من النار المقدسة،وتصف اسطورة باندورا (والكلمة تعني الموهوبة) كيف خلقت المرأة من الماء والتراب ثم منحت الجمال والنطق والذكاء والقدرة على الاغراء،قدرة جعلت شقيق بروميثيوس يقع تحت سحرها و يقرر الزواج منها، ولكي يكتمل انتقام زيوس فقد أهدى لباندورا –حسب الاسطورة دائما-  صندوقا وطلب منها عدم فتحه لكن المرأة بسبب فضولها استغلت نوم زوجها و فتحت الصندوق لتتحرر كل الشرور والآلام وتكتسح عالم البشر،فيكتمل بذلك انتقام الآلهة.
بالنسبة للاغريق القدماء اذن،فالعالم كان رجاليا آمنا و سعيدا الى ان حلت المرأة.وبوسعنا ان نقرأ كل ذلك مبتسمين (او بالاحرى مبتسمات) ونحن نفكر انها مجرد أساطير الاولين.من يأخذ أساطير أقوام وثنيين على محمل الجد على أي حال؟
على بعد أزيد من  ألفي سنة على المخيال الذي أنتج باندورا،مخيال آخر نشأنا في كنفه أنا و أنتِ، يحكي قصة الخلق، يخبرنا أن المرأة هي في تاريخنا أيضا و بشكل ما مصدر كل الشرور،مادامت أمنا حواء قد تسببت بطردها و آدم من الجنة و حكمت على بني آدم الى اليوم بشقاء العيش في هذا العالم.
ربما لا تتذكرين من بالتحديد اخبرك مثل هذه القصص،لكنك تعرفين كم وصفوا المرأة بالكيد والخداع بشكل يجعلها اسوأ  من ابليس وانه لا سبيل الى الاصلاح من حالها مادامت ضلعا أعوج،وانها مهما فعلت تبقى ناقصة عقل و دين.
منذ وقت مبكر،كان علينا ان نعيش واقع انوثة لم نخترها بطعم خطيئة لم نرتكبها،لكن ينبغي ان نقول أننا - مع ذلك - محظوظات لكوننا ولدنا في عصر يسمح فيه للفتيات بارتياد المدارس و قراءة الكتب: الشهود المستعدة للبوح متى تجشمنا عناء سؤالها.وهي بالمناسبة تخبرنا أن الكثير من الأساطير التي نسجت حول النساء عندنا  لا تقل خرافة عن أسطورة بندورا ولا تجد لها سندا لا في كتاب الله ولا في سنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام.الرجل الذي اختار لنا وصفا بديعا: القوارير،و ترك لنا في سيرته كثيرا من القصص عن نبي مؤيد بوحي من الله عز وجل،وزعيم دولة ناشئة و قائد عسكري يتصرف بالنبل الذي يجعله يتفهم غيرة هذه الزوجة و رغبة الاخرى في اللعب وبكاء ثالثة لسبب لا يستحق ويجد مع كل مشاغله وقتا ليكون حاضرا في بيته يساعد أهله.
لن نفهم أبدا على نحو علمي دقيق لماذا بالتحديد تجنح ذاكرة بعض الشعوب (او اغلبها ؟ !!) الى التنقيص من المرأة أو شيطنتها ؟ وبنوع من الدهشة سنراقب كيف لازال  بعض رجال الالفية الثالثة يستقبلون خبر المولودة الانثى بنفس وجوه الجاهليين المتجهمة زمن الوأد.
القوارير،ذلك التوصيف الذي اختاره لنا النبي مرفقا بالرفق،لأنه عليه السلام أدرى بطبيعة المرأة الحساسة،الشفافة و سهلة الكسر،لكنه توصيف يجد في الحقيقة معناه لأكثر من سبب،للقوارير بحكم الغاية من صنعها قدرة على الاستيعاب والاحتواء، وهي تحيل الى قدرة المرأة على احتواء الأسرة بكل مكوناتها،زوجا و أبناء،لهذا خلقت من ضلع لا يحقق الغاية من وجوده الا بالالتفاف لحماية الاعضاء الحيوية في القفص الصدري من قلب وكبد ورئتين وغيرها.
في مجتمعات أقل ما يمكن قوله عنها انها حبلى بالتناقضات،كثيرا ما تقف المرأة على طرفي نقيض،فهي مثار تقديس و تكريم فتشن من أجلها الحروب تارة،وهي جسد الغواية والعار الذي ينبغي قمعه واخضاعه تارة أخرى،هي الكائن الناقص الذي يتم تعريفه بالسلب،فهي ليست الرجل ولن تكون أبدا الفحولة والقوة و"لْكْلْمَة" والبطولة...وهي أيضا الكائن المتعدد المهام من انجاب للأطفال الى الاهتمام بالمواشي  وصولا الى الزراعة،وليس حال ساكنات الحواضر بأحسن من القرويات،فلو اختصت الواحدة منهن بتدبير شؤون البيت لما عد ذلك عملا ذا شأن، ولو جمعت بينه وبين العمل خارج المنزل،لاستفاد كل أفراد الاسرة من اجرتها ولاعتبرت مع ذلك مسؤولة بغيابها عن أي خلل في تربية الابناء.
عبر تاريخ هذه المجتمعات تعلمت النساء معان أخرى لأن تكون المرأة قارورة: أن تكفهر جنباتها من الداخل بسواد الغضب من صنوف الحيف والتنقيص فتفقد شفافيتها، أن تتعرض للخدش بسبب الأيدي التي تتقاذفها بلا رحمة، فتتعمد النيل من كل من يلمسها وتصيبه بندوب دائمة،وان تنكسر أحيانا فيضيع بانكسارها كل من احتواهم صدرها كأم،كابنة،كزوجة،كأخت او كمجرد امرأة.
ان تكوني قارورة اليوم لا يعني فقط أن تملكي وعيا بطبيعتك المختلفة عن طبيعة الرجل،ولكن أيضا ان تملكي وعيا بتاريخهن،تاريخ الاجوبة التي خلفتها النساء قبلنا عن أسئلة لماذا؟ وكيف؟ تاريخ البصمات التي خلفتها النساء بكل أنوثة عبر التاريخ الانساني المشترك.
في النهاية انت لست مضطرة لادعاء ما لست إياه،بإمكانك ان تكوني عاطفية وحساسة وأن تتخذي القرارات السليمة،بامكانك ان تملكي جسدا انثويا  و ان تبهري الجميع بجمال عقلك و روحك،بامكانك ان تقولي "لا" عندما يحاول الإخضاع النيل من انسانيتك.اختاري في كل وقت ان تكوني امرأة لأنه من الرائع ان تكوني كذلك.
ولحديث القوارير بقية...

الخميس، 13 أغسطس 2015

قراءة في "الهويات القاتلة"

يطرح أمين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة" مسألة شائكة احتفظت براهنيتها رغم مرور ما يقارب العقدين على تأليفه لهذه "الشهادة" كما يصفها في آخر الكتاب وهو بالمناسبة ليس رواية كما يشير الى ذلك غلاف النسخة العربية منه.
ينطلق معلوف في بناء نصه من سؤال كثيرا ما وجه له: هل يعتبر نفسه لبنانيا ام فرنسيا؟ باعتباره كاتبا لبنانيا هاجر الى فرنسا و استقر فيها ازيد من عشرين عاما(الى حين تأليف الكتاب)،و يؤسس معلوف بناء على حالته الخاصة و على العديد من الامثلة التي قدمها لاحقا الاطروحة المركزية التي جاءت "الهويات القاتلة" لتدافع عنها وهي ان الهوية ليست معطى قبليا ونهائيا بل تتشكل بالتدريج في التجربة الخاصة و الحميمية لكل فرد على حدة،و لا يمكن الارتكاز الى احد انتماءات الفرد (سواء كانت جسمانية،دينية،عرقية،لغوية،ثقافية..) للحكم على هويته و مصيره.
لا يمكن للقارئ ان يكون محايدا تماما ازاء قراءة نص معلوف، فكل قارئ يتمثل نفسه تحديدا من خلال هوية معينة،و يفهم ما يقرأ –بوعي او بدون وعي- من خلال خلفية نفسية اجتماعية وفكرية ما،ومعلوف نفسه وان تحرى بمجهود واضح حدا معينا من الموضوعية والحياد في طرحه لافكاره فإن بعضا منها أبى الا ان يضعه في نفس الخندق الذي يسعى الى تحرير الهوية منه،خندق الرؤية الأحادية و المتمركزة حول الذات égocentrique.
عندما تبدأ بقراءة الكتاب يشدك التحليل الهادئ والرصين لموضوع شائك و ملغم مثل موضوع الهوية،وبالامثلة المتنوعة التي يسوقها معلوف تبدو اطروحته المركزية متماسكة جدا،إذ توجد في التاريخ الفردي لكل شخص الكثير من المكونات التي تحدد هويته وهو ليس مضطرا الى انكار البعض منها من اجل الانتصار الى البعض الآخر،فكل منها بنسب متفاوتة تحدد شخصيته و لكل منها اهميته.
في الفصل الاول والمعنون ب "هويتي انتماءاتي" ،وفي الجزء الذي يحاول فيه معلوف تحديد مفهوم الهوية،استوقفتني اشارته الى الميول الجنسية باعتبارها انتماء من الانتماءات التي تحدد هوية الفرد(ص17 من النسخة الفرنسية)،ولم اجد في الاسطر التي تلت شرحا لما قصده معلوف بهذا،فهل المقصود الميول الجنسية التي تجعل النساء تملن الى الرجال والعكس ام يقصد الميول الجنسية باطلاق والتي تتضمن ايضا ميل الافراد الى اشخاص من نفس جنسهم؟ إذ أن قراءة الفكرة على ضوء الشق الثاني من السؤال تنفتح على إشكال اوسع واكثر اثارة للجدل يتعلق بالهوية الجنسية،و هو النقاش الذي يتجاوز احد طرفيه القول بالجنسين (الذكر والانثى) ليقول بوجود جنس ثالث يتأسس وجوده على الميول الجنسية للافراد فيما يرفض الطرف الثاني (لاسباب دينية من ضمن اسباب اخرى) الاعتراف بمشروعية العلاقات المثلية باعتبارها شذوذا.
عدا هذا نجد في كل باقي الفصل الاول الكثير من الامثلة التي تسعى الى اقناعنا بالطابع المتعدد والمتغير لمفهوم الهوية وكيف ان الوعي بمختلف مكوناتها هو خطوة في طريق الاستفادة من غناها،بينما التوقف عند احد تلك المكونات بشكل متعصب يحولها الى هويات قاتلة تسعى الى تأكيد وجودها من خلال نفي الآخر.يحسب لمعلوف هنا دقته في اختيار امثلة متنوعة و محاولته التفكير في المواقف المتخذة من مسألة الهوية من خلال منظور الآخر،فكل طرف يبني مواقفه على مبررات محددة،والتحليل المنصف يقتضي استحضار مختلف الرؤى.
في نهاية الفصل الاول نجد اشارة انسانية عميقة مفادها انه ينبغي دوما التقدم نحو الاخر برأس مرفوع وايد مفتوحة،وانه لكي يفتح الانسان ذراعيه لاحتضان الاخر يحتاج اولا الى ابقاء رأسه مرفوعا،اي الى احترام الاخر لهويته وانتماءاته،لكن معلوف يفاجئ القراء (المسلمين تحديدا) عندما يحكم مباشرة بعد ذلك على ارتداء الحجاب بانه سلوك "ماضوي و رجعي" مشيرا الى ان بوسعه ان يوضح اسباب هذه القناعة مستندا على اطوار مختلفة من تاريخ البلدان الاسلامية ومعركة النساء من اجل التحرير (ص 54 من النسخة الفرنسية)،لكن السؤال الاهم في نظره يتعلق بالحداثة ولم احيانا يتم رفضها.
سؤال الحداثة مرتبط بسؤال الهوية في نظر معلوف لذلك يفرد له الفصل الثاني من الكتاب،و يحتفظ الكاتب بنفس أسلوبه الهادئ والرصين في التحليل،و يطرح اسئلة تدفع القارئ للتفكير معه في اعادة قراءة التاريخ مرة تلو الاخرى من اجل الفهم.لكن الموضوعية في هذا الفصل تحديدا تخون الكاتب الذي تمنى في اخر كتابه ان يكون قد توفق في التحليل بشكل لا يكون شديد الفتور ولا شديد الحماس(اي منصفا بما يكفي).
عندما نقتنع مع معلوف بان الهويات متعددة و متغيرة،وانها تغتني بالروافد المختلفة والمتنوعة عبر التجربة التاريخية،فإن ذلك لن يصح فقط بشأن هوية الفرد وانما أيضا بخصوص الهوية الجماعية (ان صح الفصل بينهما)،بهذا المعنى فقبولنا مع الكاتب ان الفرد الماثل في كل منا حصيلة تراكمات وتفاعلات طويلة،يعني ايضا القول بان الجماعة او الامة حصيلة تراكمات تاريخية وتفاعلات تقدمها كنتيجة لما هي عليه بين الجماعات او الامم، من هذا المنطلق يبدو من غير الموضوعي ان ينظر الى الحداثة ( ويركز معلوف فيها على مفهومي الديمقراطية وحقوق الانسان) على انها معجزة اوروبا المسيحية التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية والتي جعلت منها على خلاف كل الحضارات التي سبقتها حضارة مهيمنة(ص 82) ،ويفسر معلوف الامر بمماثلة يشبه فيها اوروبا المسيحية بالحيوان المنوي الذي يندفع مع باقي الحيوانات المنوية الى الرحم لكنه وحده يستطيع تخصيب البويضة،واي ثمرة لهذا الاخصاب ستكون شبيهة له وحده (الصفحة نفسها)،وهو ما يمكن تبريره حسب معلوف بعوامل متعددة يعود البعض منها الى كفاءة اوروبا المسيحية،والظروف المحيطة بها و قد تعود ايضا الى بعض الصدفة.
ينبغي ان اقول ان قراءة هذه الاسطر بالنسبة لي كانت اشبه بصرخة مرعبة وبشعة تشق اسماع شخص استغرق من مدة في سماع سمفونية هادئة،منسجمة ومتناغمة.لا يمكن الربط بينهما،ولا يمكن ان نصدق ان الصرخة جزء من الأداء،في الوقت الذي يتابع عقل القارئ تلاحق الافكار وتطورها في النص،تنبني لديه قناعة بان اسباب العداء مع الاخر تنتفي ما دمنا نشاركه دوما الانتماء الى شيء ما،وان الافراد المعزولين يساهمون في بناء موروث انساني فسيفسائي يغتني بتجربة كل منهم.فكيف يستقيم هذا و اعتبار مشروع الحداثة مشروعا خاصا تنفرد به اوروبا المسيحية كما لو انها ابدعته من لا شيء و غزت به العالم؟ هل كانت الاختراعات التي تحمس معلوف للاشارة اليها ابداعا اوروبيا مسيحيا خالصا؟ام ان علماء اوروبا مثل العلماء في كل زمان و مكان استرشدوا بشكل او بآخر بابحاث من سبقوهم؟ هل نتصور ان الحداثة طفرة حدثت هكذا دون توقع ام انها مرحلة توجت تراكمات تاريخية متعددة الروافد؟هل يحق لحضارة ما ان تنسب لنفسها وحدها "التقدم" وان تنكر اسهام الحضارات التي سبقتها او التي عاصرتها؟ هذا القول بتفوق الغرب المسيحي(او اروبا المسيحية) بالمناسبة امر غير مبرر بالنسبة لعدد من علماء الغرب انفسهم على سبيل المثال لا حصر نذكر عالم الانثربولوجيا كلود ليفي ستراوس.
بعد هذه الصرخة تعاود الاذن الاستماع الى السمفونية ببعض الريبة،و يتابع القارئ باقي فصول الكتاب متشككا خصوصا ازاء استخدام مصطلح "هيمنة" عند الحديث عن الحضارة الغربية كما لو كان امرا طبيعيا،لنذكر فقط ان كل هيمنة تتناقض مع النظرة الانسانية التي يسعى الكاتب الى اقرارها،الافراد المتساوون في الكرامة لا يهيمن بعضهم على بعض،والحضارات المبنية على قناعة عميقة بتساوي جميع البشر في الكرامة والحقوق لا يهيمن بعضها على بعض،لذلك يبقى حماس معلوف إزاء العولمة موضع تساؤل،و افكاره بهذا الصدد لا تعطي طرقا مقنعة نحو الحلول،في العالم الذي نؤمن فيه بتعدد الهويات وحقها في الانوجاد ونتخذ بناء على هذه القناعة سلوك الانفتاح على الاخر ينبغي ان يكون للآخر نفس القناعة ونفس السلوك،لكي تكون علاقتنا به متوازنة مبنية على التلاقح والتفاعل السوي،والا سيصبح للحضارة المهيمنة طرقا متعددة لممارسة الاستيعاب والوصاية على الشعوب بفرض رؤية وحيدة،رؤية مهما بدت جذابة (بحيث ينجذب اليها الافراد والجماعات احيانا بشكل تلقائي) فإنها تحرم الجميع من التفكير في ممكنات اخرى في احسن الاحوال،وتحكم على الاجيال المقبلة بان تعيش نفس اخطاءنا وترث نفس اعطابنا.
اشارة انسانية عميقة و جميلة ينهي بها الكاتب نصه،ولا نملك الا ان نشاطره اياها وهي امنيته ان يعيد احفاده "الهويات القاتلة" الى الرف بمجرد الاطلاع على محتواه،امنية بان يصبح هذا الموضوع الملغم يوما ما متجاوزا بان يعيش الناس هوياتهم في سلام بعد ان يتم ترويض الفهد بتعبير امين معلوف.

الفن كوسيلة لبناء الوعي الجمعي


بعد كل نقاش عن المنتوج التلفزيوني و السينمائي المغربي اصل دائما الى القناعة نفسها، كمشاهدة غير متخصصة اعتقد ان ما يعوزنا هو كتاب نصوص جيدة بالاضافة طبعا الى مخرجين مثقفين يملكون رؤية فنية حقيقية،لا ادري ان كان المتخصصون يشاطرونني هذا الرأي لكن اعتقد ان النص يكتسي اهمية كبرى (القصة، السيناريو والحوار)، في بعض المنتجات التلفزيونية و السينمائية الغربية يجعلك الحوار تنفتح على قضايا وتفكر و انت تتابع في الحلول الممكنة ثم تتأمل في حدود القراءة التي يقدمها المنتوج،حتى في الحوارات التي تجرى مع المخرجين و الممثلين تجد عبارة "نريد ان نجعل الناس يفكرون " تتكرر،بما يعني أن المنتوج الفني في النهاية وسيلة لتبليغ فكرة معينة و جعلهم بتفاعلون معها و ليس وسيلة لتكريس ثقافة الاستهلاك البليد، طبعا لا يعني هذا ان المنتجات الفنية الاجنبية تخلو من طابع تجاري او تتعالى عن الاسفاف دائما،لكنك تجد الى جانب المنتوج المبتذل منتجات اخرى تقع في مستوى تطلعات المتتبع الناقد والباحث عما هو هادف.
يمكن للفن ان يكون أداة قوية لتثقيف المشاهد بطرق ممتعة وهم في الغرب يدركون هذا بشكل جيد، عندنا يتتبع الكثيرون المنتوج فاغرين افواههم و لا يستوعبون منه سوى احداث القصة دون ان يعرفوا ما هي القضايا التي تنفتح عليها تلك القصص في قالب فني،اتذكر مسلسل الكرتوني "هيه آرنولد" وافكر انه ولا شك مرر لأطفال امريكا الكثير من قيم المواطنة والديمقراطية و غيرها من القيم الانسانية والكونية من خلال يوميات الطفل آرنولد و اصدقاءه وجديه وجيرانهما.
وقد شاهدت افلام انيميشن كثيرة تناقش افكارا انسانية بطرق رائعة،و ساعطي هنا امثلة لبعض مما شاهدت:
chicken run (وفيه تقرأ كمشاهد فكرة عن الايمان بالحق في الحرية وتقرير المصير حتى عندما تبدو العبودية واقعا طبيعيا و حتميا)
happy feet (ان تكون مختلفا عن بني بيئتك ليس سيئا بل يمكن ان يكون اختلافك اضافة تغني جماعتك او تنقذها)
horton hears a who ( هناك من الحقائق ما لا ندركه بشكل محسوس بالضرورة لكن هذا لا يمنع من الايمان بها وهي الفكرة التي بدت انثى الكنغر في الفيلم معارضة شرسة لها،اضافة الى الفكرة التي رددها الفيل هورتون خلال الفيلم : الحياة حياة مهما كانت صغيرة وفي هذا اشارة الى قداسة الحق في الحياة)
حسنا اعرف فيم تفكرون كلها امثلة عن منتجات كرتونية،انا احب الرسوم المتحركة هذا ليس سرا! émoticône tongue
لكن لو اردتم مثالا عن تحفة فنية اخرى اقترح عليكم الفليم الايراني winter sleep لثلاث ساعات يمكنك ان تشاهد و تتأمل حدود مواقف كاتب مثقف ازاء واقعه وهو بالمناسبة فيلم يمكنك مشاهدته مع افراد عائلتك دون ادنى احراج. émoticône smile
لست هنا بصدد رسم صورة مثالية للمنتجات الفنية الاجنبية اعرف الكثير من الامثلة التي تشهد على التحامل والتضليل بل والدعوة الصريحة الى الكراهية والتي تمارسها بعض المنتجات لكن ليس هذا موضوع هذه التدوينة،ما اكتبه هنا تعبير عن رغبة عميقة و ربما هي دعوة للكتاب الجيدين ممن يملكون الخيال الخصب والثقافة الواسعة والقدرة الادبية الكبيرة لخوض غمار تجربة الكتابة للتلفزيون والسينما، لماذا لا نصنع لاطفالنا وشبابنا ايقونات نابعة من محيطهم تتحدث لغتهم ،ترتدي لباسهم وتفكر في همومهم وتقترح عليهم حلولا ممكنة وتدفعهم للتفكير في المزيد منها؟ لماذا لا يفكر كل المؤمنون بضرورة التغيير بخلق احدى لبناته على مستوى وعي المشاهد بحيث تغدو قيم الاخاء و المساواة والعدل والحرية والمواطنة الفعالة وغيرها من القيم الاخلاقية والانسانية طبيعية ونابعة من معيشه اليومي؟

الأربعاء، 5 أغسطس 2015

فوضى القصاص




تحكي بضع صفحات من رواية "زمن الأخطاء" لمحمد شكري عن تفاصيل مريعة للفوضى او "السيبة" التي اجتاحت  مناطق من المغرب فجر الاستقلال،حيث كان التخوين والتعذيب و التقتيل سلوكا ينخرط فيه الافراد بشكل عفوي و  دون ادنى تفكير.
اتذكر هذا وانا اقرأ على مواقع التواصل الاجتماعي -بالصور احيانا- أنباء من هنا وهناك عن مواطنين يضربون لصا  ويفقأون عينيه او يرجمون آخر حتى الموت. ربما تعودت أبصارنا على جثث القتلى و مشاهد الدماء المتناثرة على صفحات الجرائد و القنوات الفضائية لكن ضمائرنا ينبغي الا تطبع مع كل هذا و  ان تبقى دوما يقظة لتطرح التساؤل حول ما حدث و يحدث..
ان يتدخل المواطنون بأنفسهم جماعة لمعاقبة "مجرم" او "جان" في دولة لها مؤسساتها و قوانينها فهذا مما يجب التوقف عنده بالكثير من الجدية،ليس فقط لأن عقوبتهم تجاوزت بكثير طبيعة الاعتداء (فقأ العينين والقتل من أجل سرقة) ولكن لأننا بصدد سلوك يفرغ الدولة من كل معنى و يغيب صفة المواطنة ليجعل الافراد تحت رحمة بعضهم بعضا.
ولا أكتب هذا لكي أسجل شكلا من أشكال التعاطف مع اللصوصية او الاجرام،بعيدا عن هذا على العكس من ذلك،لكنها دعوة للتفكير في مسببات سلوك المقتصين و أبعاده.دعوة الى التفكير كمواطنين في صورة أقل وحشية لمغرب لم نرد له ان يكون هكذا لكن مازال بإمكاننا ان نختار مغربا أفضل نعيش تحت حمايته.
عندما نحلل سلوك المقتصين نقرأ تعبيرا واضحا عن خوف ويأس و تفريغ لما احتقن من غضب  في شخص أول من شاء سوء حظه ان يصادفهم،ولا أدري الى اي حد يمكن ان نعتبر ما فعلوه سلوكا ثائرا لكن هيجانه امر لا شك فيه.
فلنتوقف عند الخوف أولا، المواطنون الذين لم يسبق لهم التعرض للسرقة تحت تهديد السلاح يعرفون على الاقل شخصا من ذويهم او معارفهم مر بتلك التجربة ،والذين ليسوا من هؤلاء ولا من أولئك يقرأون كل يوم على الجرائد و مواقع التواصل الاجتماعي أخبارا متنوعة عن حوادث اعتداء شنيعة.
 يتعمق الاحساس بعدم الامان كلما رأى الناس فيديوهات لضحايا غارقين في دمائهم بعد ان تم تشويه وجوههم او رأوا من جهة أخرى صورا وفيديوهات لمجرمين يتباهون بألبستهم وساعاتهم و سيوفهم دون ادنى اكتراث.يتعمق إحساس المواطنين بالخوف كلما ارتفعت مستويات الجريمة و تنوعت واغرقت في البشاعة،ومن البديهي ان تتعلق أعينهم بالقانون ومؤسسات الدولة لكي توفر لهم الحماية،ان كان بوعي منهم بمسؤوليتها الكاملة عن ذلك او عن جهل ممزوج بالعجز عن حماية انفسهم وذويهم و ممتلكاتهم في كل حين..وهنا ينبغي ان نتحدث عن تنامي شعور مقلق باليأس،يأس المواطنين من جدوى اللجوء الى الدولة ومؤسساتها،قصص كثيرة ترسخ هذا اليأس،قصص عن مجرمين عتاة حتى بعد القاء القبض عليهم وسجنهم لبضعة أشهر او بضع سنوات يخرجون ليعيثوا في الارض فسادا من جديد، وحتى عندما يقرر احدهم بعد عمر من الاجرام ان يتقاعد تكون شوارع الحي قد قدمت عددا من المراهقين اليافعين الذين التحقوا بقطار الجريمة للتو من أجل قيادته بكل عنف وعنفوان شبابهم..بقدر قتامة هذه الصورة بقدر ما يتنامى يأس الناس و يتضاعف قلقهم و توترهم.
لكن اسباب التوتروالغضب لا تقتصر فقط على السرقات التي تحدث هنا وهناك في احيائنا،لان الغضب الحقيقي الدفين ( دفين بسبب الجهل ممزوجا بالخوف) سببه سرقات اخرى تحدث على مستوى اعلى،على مستوى الاموال العمومية التي تعد بملايير الدراهم،سرقات اضحى المواطن المغربي اكثر وعيا بها مما مضى،بسبب ارقام تنشر من حين لآخر على وسائل الاعلام المختلفة حول اجورخيالية او امتيازات او تعويضات بغير استحقاق او نهب واختلاس مباشرين، يقرأ و يهتاج ثم يلزم الصمت دونما وسيلة للتأكد من صحة ما ينشر او نية للبحث والمطالبة بتفسير لما يقرأ،و ذلك طبعا مع يأس متجذر من اي تغيير،يقرأ المواطن عن مبالغ بملايير الدراهم تنهب او تبذر،ثم ينصرف في كمد الى هاجسه المعتاد في جعل راتبه او مدخوله الهزيل يسد حاجياته المتزايدة،وعندما يجد لصا في سوق او شارع عام او يسمع الاخرين يصرخون "لص !! لص !! " و ينهالون عليه ضربا او رميا بالحجارة ينخرط بكل غضب و حقد و يده مع يد الجماعة، وكأن الشخص الذي وقع بين أيديهم هو كل لصوص البلاد مجتمعين، وهم يهوون بقبضاتهم و حجارتهم لا يتساءلون: لماذا يسرق؟ كيف تحول الى لص؟ لماذا يعود الى السرقة وبشكل اعنف بعد مدة سجنه؟ أليس هناك ما يمكن فعله لمنع السرقات؟ والسؤال الاهم من كل سؤال اخر: هل سرق هذا الشخص فعلا؟
في السوق الشعبي حيث يقفون و في شارع المدينة حيث يقطنون،يشعر هؤلاء المواطنون ان لا تأثير لهم على ما يحدث في بلادهم،و انهم على بعد مسافات ضوئية من اللصوص الكبار،لذلك يصبون جام غضبهم على لص حقيبة وقع بين ايديهم،وفي العمق قد لا يكون هناك فرق بينه وبينهم، فمثلا عندما تسأل لصا لماذا تسرق؟فقد يبرر أفعاله بالفقر وضيق الحال وانعدام الافق،ولكي يحارب فقره يسرق من هم أفقر منه، كذلك المقتصون عندما يصبون غضبهم على مستضعف مثلهم.
العدالة لم تكن يوما ردود فعل انفعالية والا لما ارفق الله سبحانه وتعالى كل آية عن القصاص بأمر بالقسط والاحسان،وعظم اجر المحسنين،العدالة الحقيقية في احد أشكالها تقديم كل جان او معتد لمحاكمة عادلة،توضح فيها القرائن ويتحدث فيها الشهود ويمنح المتهم فرصة للدفاع عن نفسه و يصدر الحكم عن قاض مختص،وإذا كانت الاحكام غير زجرية او غير عادلة،ساعتها ينبغي النضال لتغيير القوانين ان كان ثمة قصور فيها،او النضال لمحاسبة القضاة ان كان ثمة شبهة فساد او الضغط على الحكومة بوزاراتها المختلفة للتعامل بشكل جدي مع الجريمة بشكل وقائي واستباقي.
ان لم تكن بالنضج والوعي والشجاعة الكافية لتنخرط في كل هذا فعلى الاقل لا تلطخ يدك بدم مواطن مثلك.فقد تفاجأ يوما ما بأحدهم يصرخ "لص !!لص !!" وقبل ان تجد متسعا من الوقت لتبحث عنه تنهال عليك الضربات من حيث لا تدري.