الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

لماذا يا خديجة؟




أحاول أن أتصور ما حدث في ذهن و وجدان فتاة نتحدث عنها اليوم بضمير الغائب، دون ان نكون واثقين تماما من الغائب في هذه الحكاية.
أحاول ان أتذكر معنى ان تكوني مراهقة تتوق الى الاستقلالية والى ان تعيش بشكل مختلف،ان تتشكل في ذهنك صورة تدريجية عنه وعن ملامحه،  عن ذاك الذي سيجعل منك بطلة مسلسلك الخاص و توقعين معه تلك النهاية السعيدة التي لطالما حلمت بها.
 هل هذا ما جعلك تغادرين منزل والدتك في سن يافعة جدا يا خديجة؟ احاول ان اتخيل ما شعرت به و انت تكتشفين لأول مرة قسوة العالم عندما نواجهه بعقول ساذجة، عزلا تماما من كل معرفة أوخبرة.
قصص الواقع مؤلمة يا خديجة لأنها حقيقية،مع بطلات  التلفزيون هناك دوما طريق للسعادة يقرره المخرج وكتاب السيناريو في نهاية المسلسل، أما أنت  فضِعتِ مبكرا في تفاصيل قصتك دون ان ينجدك كاتب او مخرج بنهاية سعيدة.
ماذا عن قطيع الذئاب؟ هل وقع اختيارهم عليك عشوائيا ام كنت الضحية المثالية؟ الفتاة التي سبق لها التعرض للاغتصاب، الأم العازبة التي تقيم بعيدا عن عائلتها والتي فقدت طهرها الى الأبد هي ضحية مثالية لاغتصاب جماعي يتم توثيقه بالفيديو لابتزازها لاحقا..
بت تعرفين معنى ان تتعرضي للاغتصاب مرة، وان تحملي بطفل مجهول الأب مرة، في هذا المجتمع الغارق في تناقضاته، صرت حرثا محتملا لكل الجياع الذين تصادفينهم،دون ان يكون من حقك -و انت الموصومة المدنسة الى الأبد- حق الرفض.
لكنهم لم يكتفوا من اغتصابك و شرعوا يبتزونك، ما الذي دار بخلدك ساعتها يا خديجة؟
في عالم آخر كنت ربما لتنجحي بتدخل طبيب او اخصائي في تضميد جراح الروح قبل الجسد
في عالمنا تُركتِ للملمة شظايا روحك،كما يفعل الضحايا دوما في كل قصة موجعة من أخبار الوطن،تهترئ أرضه كل يوم تحت أقدامكم و تضيق سماؤه بكم،وهو في دعوى كل منكم قاض وطرف.
في عالم آخر كنت ربما لتحظي بفرصة ثانية، بداية أخرى تجعل منك ببعض الصبر والمثابرة المرأة التي تستحق كل أنثى ان تكونها.
في عالمنا عاجلوك بسكاكينهم،فكل امرأة بالنسبة إليهم مجرد بقرة ينتظرون سقوطها لكي يجهزوا عليها.
بت تعرفين هذا العالم جيدا يا خديجة،فقد خبرت أسوأ ما فيه مبكرا جدا،بت تعرفين كم يمكن لضحية الاعتداء ان تعاني من ألسنة الناس ونظراتهم كل يوم، فهم يبحثون طوال الوقت عما يدينك في الاعتداء عليك.
و مغتصبوك يبتزونك بفيديو الاعتداء، كنت تعرفين كم نحن شرهون عندما يتعلق الأمر بأخبار الفضائح، وكيف يمكن ان تتحولي الى نجمة في فيلم إباحي بنقرة، كنت تعرفين ان الذين سيرون الفيديو على تطبيقات الواتساب او الفيسبوك لن يترددوا لحظة في نشره وقد يجودون عليك بتعليق متحسر و إيموتيكون حزين،كنت تعرفين ان المعتدين قد أطلق سراحهم في حين سجنتِ الى الأبد في قذارة الاعتداء عليك، كنت تعرفين أن يومين من الاعتداء المدمر ستصبح عمرا من الاحتقار و الوضاعة،كنت تعرفين انه لا بدايات جديدة بعد الاعتداء والفضيحة، فالموصومة لا تثير اهتمام الا المزيد من الجياع، كنت قادرة على قراءة هذا المستقبل في عيون من عرفوا بحكايتك و لذلك اخترت المغادرة و قد حرقت بقايا ذلك الجسد الذي تم تدنيسه..الا يقولون أن آخر الدواء الكي؟ انت لم تتركي شبرا في جسدك بدون كي يا خديجة..كي عميق بعمق آثارهم عليه.
لو كنا في عالم إنساني لوجدنا الكلمات المناسبة لكي نخبر المغتصبة ان المعتدي و قد نال من جسدها لا ينبغي ان ينال من روحها أيضا، وأنه و قد جعلها وعاء لرغبة حيوانية بهيمية  في لحظة او لحظات لا ينبغي ان ينجح في اغتيال إنسانيتها، لو كنا في عالم إنساني لقلنا لها: "ما فعله بك لا يعكس من أنت،بل يعبر عما هو عليه، عن حيوانيته المنحطة، ارفعي رأسك وانهضي و قاومي وانتصري على هذا المسخ بأن تعيشي كامرأة كريمة قوية، اصرخي في وجه من يمططون شفاههم أسفا عليك بأن ينشغلوا عنك بتربية أبنائهم على احترام كرامة و إنسانية الإنسان فلربما قل عدد المغتصبين والمعتدين، انظري بثبات في عيون كل متحرش  وانطقي "لا" بكل ثقتك في قيمتك الانسانية" ،لو كنا في عالم إنساني، لوجدنا صعوبة في إيجاد كلمات نضمد بها ما فعلته بك تلك الذئاب الجائعة، لوجدنا صعوبة في فهم سلوكهم الذي لا نظير له حتى في عالم الحيوان.
في عالمنا هذا يا خديجة، تركناك لمصيرك، لم يتطوع أحد للدفاع عنك فأنت لست صاحبة التنورة،مثل الكثيرين على هذه الارض انت كنبتة نمت من تلقاء نفسها بدون رعاية من صاحب الحقل، انت واحدة من الذين حلوا بهذا الوطن خطأ، فهو ليس مهيئا لاستقبالكم ولا لوداعكم كما تستحقون.





الأربعاء، 3 أغسطس 2016

بقعة ضوء



أتأمل صغار مختلف الأنواع الحيوانية وأفكر أن ثمة سببا لمشاعر العطف التي تنتابنا تجاههم، نحن نستشعر تلقائيا ضعفهم إزاء المخاطر التي يعج بها العالم الخارجي،وإذا كان صغار الحيوانات يولدون جاهزين تقريبا للمضي في الطبيعة وفق ما تمليه عليهم برمجتهم البيولوجية، فإن صغار البشر يولدون أكثر ضعفا و هشاشة، ويكون عليهم -وهم يكبرون شيئا فشيئا- التعامل مع عالم يتداخل فيه الإرث البيولوجي بالإرث الثقافي ،عالم تختلط فيه نجاحات البشر الباهرة بإخفاقاتهم الذريعة، وخبراتهم المتراكمة  التي لا تمنع مع ذلك من تكرار الأخطاء نفسها عبر تاريخ البشرية الطويل.
يكون كل بشري مدفوعا بشكل غريزي لإيجاد شريك،فهو مبرمج بيولوجيا على التناسل من أجل إعادة انتاج نوعه مثل اي حيوان آخر، لكنه خلافا لأي حيوان آخر يقوم بتنشئة صغاره و تربيتهم، إذ أي معرفة يملك الطفل حديث الولادة عن الخير والشر؟ عن الخطأ و الصواب؟ عن حقوقه ؟ عن واجباته تجاه الآخر؟ عن موقعه في الوطن؟ عن موقعه في الوجود؟ عن دوره في كل ذلك؟
عندما نقوم بالتنشئة فإننا في الواقع نمرر لصغارنا صورة عن العالم كما صنعناه نحن، كما صنعته خياراتنا اليومية، بنفس ترتيب أولوياته،من الأكثر اهمية الى الأقل اهمية وصولا الى الأمور غير المفكر فيها أصلا، ولأن طبيعة العالم المعاصر بتقنياته الحديثة وطرق التواصل فيه هدمت الخصوصية التي كنا نتخفى بفضلها و كشفت الجميع للجميع،فقد انكشف الكبار امام الصغار مبكرا،قبل أن يستطيع هؤلاء الصغار فهم او تفهم خيارات الكبار،و قبل ان يحظوا بفرصة لكي يتعلموا ان هناك عوالم أخرى ممكنة.
عندما كان الناس أكثر حساسية تجاه الأحاديث التي يسمح للأطفال بالاستماع اليها او المشاركة فيها او تجاه الصور والأحداث التي يسمح لهم بأن يكونوا شهودا عليها،لم يكن الأمر يتضمن مجرد وصاية الراشدين على الأفراد الأصغر سنا، لم يكن الأمر يتعلق فقط بحمايتهم من خوض تجارب لا قبل لهم بفهمها او استيعابها لحداثة سنهم، جزء من هذا السلوك الحمائي يتعلق بمنحهم الحق في نمو فيزيولوجي و نفسي طبيعي و سوي، بمنحهم الفرصة لاكتساب مبادئ و معايير يرتكزون عليها في خياراتهم المستقبلية، وبها يتعرفون ما هو خطأ و ما هو صواب، ما هو عدل وما هو ظلم، ما هو حق لهم وما هو حق للغير.
في واقعنا المعيش نجد المزيد من الآباء يتكشفون أمام صغارهم بكل التيه والضلال الممكنين، فالصغار يعرفون منذ البداية كل شيء عن كل شيء، عن الكذب،عن الخيانة،عن العلاقات غير الشرعية، عن صنوف المواد المخدرة،عن العنف،عن السرقة، واللائحة تطول...
ما هي حظوظ طفل ولد لأب او لأبوين مدمنين في ان يعيش طفولة سوية؟ بأي تعاقد نقنع مراهقا نشأ في محيط ذوي السوابق الجنائية أن ملكية الآخر و حياة الآخر و أمن الآخر حقوق مقدسة؟ كيف نشرح له وجود حرمات لا ينبغي انتهاكها اذا كانت حرمة جسده قد انتهكت مبكرا جدا و قبل حتى ان يعي ما يحدث معه؟
يرتكب الكبار الأخطاء،فالخطأ بشري، يمكن للضعف البشري ان يسقط الإنسان في الحضيض، لكن ما معنى ان ننتج شهودا صغارا على سقوطنا؟ حتى ان كنا قد وجدنا أنفسنا بلا اختيار في بيئة هشة و غير آمنة لنا نحن الكبار، لماذا نقحم فيها أطفالا صغارا عن سبق إصرار؟
ليست هذه دعوة للامتناع عن الإنجاب، لكنها دعوة لمساءلة الذات قبل اتخاذ قرار الإنجاب، "يمكن لأي معتوه ان يجعل المرأة تحمل طفله، لكن ان تكون أبا فهذا يتطلب رجلا حقيقيا" هي عبارة سمعتها في احد الافلام السينمائية وهي في الواقع تصدق على الرجال كما تصدق على النساء، قدرة الشخص على الانجاب لا تعني بالضرورة انه مؤهل لنقل الارث البشري الى الأجيال القادمة،لا تعني أنه يصلح أبا أو أما،جزء من المسؤولية الأخلاقية التي نحملها إزاء الأبناء قبل إنجابهم هو أن نسائل أنفسنا بصراحة: أي عالم أعددنا لقدومهم؟ وأقصد هنا عالمنا الخاص، حيث خياراتنا اليومية، فالعالم الكبير الذي يبدو  كما لو كان مستقلا و مفروضا علينا هوفي الواقع مجموع العوالم الصغيرة التي يصنعها البشر هنا وهناك على رقعة هذا الكوكب.فهل اختار كل واحد منا أن يكون إنسانا أفضل قبل ان يبحث عن شريك و يشرع في بث سلالته؟

لدينا إرث بشري ضخم من التقنيات والأدوات تجعل حياة ملايين البشر أسهل لكنها لا تجعلهم اناسا أفضل.لهذا فالإنسان الأفضل لا يتعلق بكم نمتلك ولا ماذا نمتلك؟
ربما يتعلق أساسا بقدرتنا على تدبير الضعف البشري،و على الخروج منتصرين من معاركنا ضده، فالضعف أمام مشاعر التملك والغضب والأنانية والكراهية و الغيرة والانتقام والخوف ينتج الكثير من السلوكات المعيبة، انها مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه الأجيال المقبلة، ان نكون قادرين على كبح جماح انانيتنا كي يحظى الآخر بما هو حق له، أن ننتج الأشياء و نبقيها دوما أشياء نتملكها ونسخرها لخدمة الانساني فينا لا ان نسمح لها بتملكه وتسخيره، ان نوجه الغضب للتغيير وليس للتدمير، ان نقف على الحياد عندما نعجز عن الحب والا نتخطى الحدود نحو كراهية الآخر،ان نتجاوز الخوف وذلك بفعل ما ينبغي فعله وقول ما ينبغي قوله.
ان ما يحتاجه منك العالم الإنساني الكبير هو ان تشيد في عالمك الصغير منارة قادرة على ان  تضيء العتمة الأخلاقية التي غرقنا فيها جميعا، بقعة ضوء تجذب اليها التائهين عن إنسانيتهم، كل ما عليك هو ان تتذكر ان مولد الطاقة في هذه المنارة ليس إلا انت، فإن نظرت داخلك و لم تجد إلا العتمة، فأنت لست جاهزا بعد لإنارة الطريق لأطفالك.
حديثنا اليوم لكِ كما لكَ، لأن نقل الموروث البيولوجي مهمتكما معا و صنع ونقل الموروث الإنساني مسؤوليتكما معا.
و يبقى لحديث القوارير بإذن الله بقية