الاثنين، 19 سبتمبر 2016

ثورات صغيرة


 
ننظر أحيانا الى ما يحيط بنا و نشعر أن كثيرا من الأشياء بحاجة الى تغيير،تغيير حقيقي، تغيير عميق و جذري،نتأمل كل شيء و بشكل ما، ننتهي احيانا كثيرة الى قناعة مفادها ان هذا التغيير يحتاج الى رياح قوية تعصف بكل شيء،الى طوفان يقتلع كل شيء و ننسى أن أبهى الحقول قد تثمر من زخات مطرية خفيفة،و أن أعظم الثورات تبدأ حيث يقف كل واحد منا، و أنها لا  تكون بالضرورة ثورة واحدة كاسحة بل قد تتحقق على شكل ثورات صغيرة.
يتوجه رجل الى أقرب مدرسة لتسجيل ابنته الصغيرة، و لأنه في مجتمع متشدد إزاء تعليم الفتيات فإن سلوكه هذا ثوري بالقدر الذي ينتزع فرصة للتعلم ليس لابنته فقط و لكن لكل بنات جنسها.
عندما تصبح المزيد من النساء قادرات على القراءة و الكتابة و ترتدن مؤسسات التعليم بما فيها الجامعية منها، تدرك البعض منهن ان حقهن في المعرفة لا يقف عند شهادة جامعية و قد لا يتطلبها بالضرورة، فتجعلن من القراءة سلوكا يوميا لأن المعركة التي تبدأ ضد الأمية و الجهل تظل قائمة دوما ضد الكسل الفكري و صناعة الجهل و صنوف التضليل.
في الفضاء العام، تتناول سيدة وجبتها في مطعم، وتحتسي أخرى فنجانها في مقهى، و تقرأ ثالثة كتابها مقتعدة كرسيا في حديقة ، لا تقوم كل واحدة من هؤلاء النسوة بتكسير النمط التقليدي الذي يجعل الفضاء العام حكرا على الرجال فقط، فالمرأة في كل منهن حررت نفسها -الى جانب ذلك- من اعتبارها موضوعا جنسيا،إذ بإمكانها التواجد في الفضاءات العامة كمواطنة يحق لها التنقل والترويح عن نفسها دون أن تبحث أو تتوقع لفت انتباه أحدهم.
في البيت، تعيد النساء  انتاج نفس نمط ربة البيت التقليدية التي تفني وقتها في خدمة الجميع و عدد منهن يدربن بناتهن لكي يصرن جاهزات لأداء الدور نفسه في منازل أزواجهن المستقبليين، نساء أخريات يحاولن تحطيم هذا التوزيع التقليدي للمهام بجعل أزواجهن و أبنائهن الذكور يساعدون في امور البيت، والرهان الحقيقي في هذا الباب ليس جعل الرجل يحمل مكنسة ولكن ترسيخ مبدأ التعاون في الحياة المشتركة، إنها معركة ضد اتكالية و أنانية البعض و نزوعهم الى استغلال البعض الآخر بغض النظر عن الجنس.
في سن الخمسين أو أكثر وبعد تجربة زواج أو أكثر تعثر سيدة أخيرا على الشريك المناسب ثم تبدأ من جديد، فالحق في السعادة ليس حكرا على شريحة عمرية معينة،وأهم من ذلك:ليس هناك سن محددة تتوقف فيها أنوثة المرأة عن الوجود. تحتفي شابة بزفافها دون حفل فهي ليست بحاجة الى فرقة موسيقية او "نكافة" لإعلان فرحتها وليس لديها ما تثبته لأحد.وتفضل ثالثة لقب العانس على زواج تعيس أو شراكة غير مرضية،فما يعتقده الآخرون في النهاية يعبر عنهم لا عنها.
عندما تخططين لثورتك الصغيرة،تذكري أن معركتك ليست ضد الرجل فهو في مجتمع كالذي نعيش فيه،كائن هش وقلق مثلك تماما،و ليست ضد الآخرين أيا كانوا، إنها معركة ضد سلوكات معيبة،وتحديدا ضد المبادئ التي تحكم تلك السلوكات، وإذا لم تتصرفي وفق مبدأ مختلف و منصف ستنتجين سلوكات مماثلة لما انتقدته في البداية، في العلاقة بين الحماة و زوجة الابن مثلا استطاعت الزوجات التحرر من علاقة تنمحي فيها شخصية الواحدة منهن، علاقة تقضي بأن لا يكون لها رأي في شؤون منزلها ولا ينتهي إقصاؤها إلا بوفاة حماتها، غير أن البديل بالنسبة للكثيرات هو إقصاء الحماة من حياة ابنها لدرجة تصل معها أحيانا الى وضعها في دار للرعاية الاجتماعية للتخلص منها نهائيا،ومن المؤكد أن زوجة الابن هنا لا تفكر في احتمال تخلص فلذة كبدها منها هي نفسها بالطريقة ذاتها لاحقا،ومن المؤكد أيضا انها لا تطرح ثورتها موضع تساؤل.
من السهل أن يتيه المرء عن الطريق التي خطط للمضي فيه بكل ثقة، ننتقد الأزياء التي تصمم وفق مبدأ يجعل المرأة مجرد موضوع للإشباع الجنسي،إذ يعاب على البرقع مثلا كونه صمم لحجب جسد المرأة باعتبارها موضوع فتنة،لكن المبدأ نفسه يحضر في تصميم الملابس الأكثر "حداثة" والتي صممت لتحقيق ثورة تحرر النساء، فهي تعرض لكل سنتمتر في جسد المرأة بشكل يجعله يؤدي غرضا واحدا: الفتنة و الغواية.و من ثمة فالملابس الأكثر حجبا و الاكثر عريا تتفق حول المبدأ نفسه: هذه المرأة بالأساس موضوع إثارة وإشباع جنسي.
يقال أن الثورة تأكل أبناءها و الثوارت الصغيرة ليست استثناء فهي ايضا قد تبتلعك في بحر من التفاصيل ان لم تكوني بالحكمة الكافية لكي تذكري نفسك في كل لحظة: أين بدأت وإلى أين أريد الوصول؟
قد تعتقدين أن ثورتك تبدأ بكلمة "لا"  شجاعة و جريئة،لكنها في الواقع تبدأ بشجاعتك وجرأتك مع ذاتك أولا، فنحن لا نستفيد دوما وبشكل مباشر من التغيير الذي يحصل حولنا،وكلما دربت نفسك على الإنصاف كانت شرارة الثورة الصغيرة كافية لكي تلهم الآخرين بعوالم أخرى ممكنة،عوالم أفضل مما كان.
تذكري وانت تخططين لثورتك الصغيرة ان تصمميها ليس لجعل حياتك وحدها أفضل بل لجعل الحياة بعدك أفضل، فأنت ستفتحين طريقا سيسلكها حتما أناس آخرون بعدك،فإن كانت طريقا للتيه تاه معك الجميع، وإن كانت طريقا نحو إنسانية أرقى ترقى بفضلك الجميع.















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق