الثلاثاء، 25 أبريل 2017

قضايا عادلة



أستغرب من الذين يبذلون مجهودا كبيرا في السجال حول ما إذا كانوا يريدون البلاد علمانية أو دينية، أستغرب  منهم و هم يتمترسون خلف حججهم التي تفحم الخصوم، و وقائع التاريخ التي تصد كل هجوم، كيف يختار هؤلاء معاركهم؟ و بأي مقياس يتعرفون خصومهم؟ و أين بالضبط يحصلون على كل هذا الاطمئنان الى عدالة قضاياهم؟
أينما وليت وجهك وجدت استعدادا لإقصاء الآخر، و ممارسة الوصاية على العقول و الأرواح، يبحث الجميع عن أرضية لتحقيق مشاريعهم الفكرية او العقدية و لا يبحثون بالضرورة عن أرضية للتعايش المشترك، يجمعهم سقف الوطن الذي يهوي من حين لآخر على رؤوس الجميع بخبر مفجع من هنا و هناك،  يتأوهون لبضعة أيام متحسرين ثم يعودون لشن هجوم جديد على معسكر العدو.
البسطاء في ربوع الوطن لا يحفلون كثيرا بالتأصيل النظري لطروحات هؤلاء و أولئك، و غالبيتهم العظمى لن تميز في الخطاب بين الحقيقة والمغالطة، لأن رهانات اليومي لا تمنح للواحد منهم ترف التأمل والتفكير.
أستغرب كيف لا تراجع المعسكرات المتعادية أولوياتها أمام ضحكة الطفلة "إيديا" التي سرقت من ذويها إلى الأبد بسبب قلة التجهيزات في المستشفيات العمومية، هل سنختلف بشدة حول حق الإنسان في الرعاية الصحية الملائمة ؟ في كل مستشفى يكون على الناس ان ينتظروا طويلا كي يحظوا بفرصة للفحص على جهاز دائم العطب،ينتظر مريض السرطان موعدا للفحص قد يأتي بعد عدة أشهر أو عام أو أكثر،ينتظر مريض بالربو او التهاب الكبد على رصيف المستشفى البعيد بمئات الكيلومترات عن مدينته او قريته، ينتظرون ، بينما أمراضهم التي تقتات على صحتهم كل لحظة لا تعرف الانتظار.
يقدم البعض دفوعاتهم المنادية بالمساواة في الإرث من أجل إعادة الاعتبار للمرأة،في هذه الأثناء تقفز سيدة ستينية الى عمود اتصالات و تتسلقه و تهدد بالانتحار محتجة على محاولة سلبها أرضها،لكي يذكر جسدها الضئيل و وجهها المتغضن بمعضلة ضخمة و خطيرة: ما جدوى ان تمتلك شيئا – رجلا كنت أو امرأة- إذا كان ما تمتلكه عرضة للنهب بوثائق رسمية؟ لصوص العقار لا يأبهون لمعتقدات الضحايا، فلتكن مملكة الله او مملكة الشياطين او حتى مملكة العدم، مادام بإمكان الواحد منهم ان يحصل على اي عقار شاء و يحظى بآخر التشريعات الوطنية في صفه فوق ذلك.
يتحدث البعض بكل ثقة عن هذا الذي يستحق الجلد و تلك التي يجب أن تقر في بيتها، وعن المنكر الذي يجب تغييره باليد أولا، و ينسون أن العالم لم يخترع بعد جهازا لقياس الإيمان لكي يرفع الأكثر إيمانا من الناس الى مقام محاسبة البعض الآخر، وأن الاولى ان نمنح للنساء بيوتا ومساكن تليق بآدميتهن قبل ان نتوقع منهن ان يقرن فيها، و ان اليد التي لا تدرك أو لا  تنجح في تغيير المنكر الذي تأتيه بنفسها لا يحق لها ان تمتد لتغيير المنكر الذي تأتيه يد الغير.
أستغرب كيف ينظر هؤلاء وأولئك بعين الى مشاهد "الحكرة" والتهميش والهشاشة، ثم يتأملون بأخرى الوجه البشع للنفوذ والزبونية،و لا تتأجج فيهم مع ذلك الا الرغبة في تنحية المعسكر الايديولوجي الخصم والقضاء عليه !!
أيها الباحثون عن قضايا عادلة اجعلوا الإنسان قضيتكم و تكاثفوا من اجلها و ستجدون ان كثيرا من أعدائكم الحقيقيين او المفترضين قد استحال حليفا، وان صوتكم سيكون قويا لدرجة لن تحتاجوا معها الى شن حرب بعد ذلك لإسماعه.

السبت، 4 مارس 2017

مزرعة الحيوانات



رواية تعيد قراءتها أكثر من مرة،دون ان يفتر مع ذلك انبهارك ببراعة و ذكاء جورج اورويل في بناء عالمها السردي.
تبدو الفكرة بسيطة، فكرة التعبير عن واقع المجتمعات البشرية على لسان الحيوانات، ولكن ليس هذا ما يستوقف في "مزرعة الحيوانات"، انها فكرة الثورة، مبرراتها، أحداثها، آثارها على الذين خاضوها ايمانا بجدواها، مسارها الذي قد يسير في اي اتجاه  الا ذلك الذي اندلعت لأجله، لا تستطيع ان تفصل هذه الرواية عن عالم النصف الاول من القرن العشرين، ذلك العالم الذي استفاق فيه الناس من احلام العدالة و الرفاهية والحرية لكل البشر- وعود المجتمع الصناعي التي لم تتحقق- ليجدوا  أنفسهم يعيدون انتاج العبودية و القهر باشكالها الصريحة و المتخفية.ذلك العالم الذي خيب آمال الكثيرين و اسقطهم في قلق وجودي عن جدوى كل ما يحدث حولهم.
تبحث في ذاكرتك و انت تقرأ مزرعة الحيوانات عن الاحداث التاريخية التي يمكن ان تكون قد ألهمت جورج اورويل في كل التفاصيل التي يقف عندها بعناية:
-         الشعوب التي تستجمع بصعوبة شجاعتها لكي تثور على مستغِليها و لا يفيض كأسها الا قمة الجوع والقهر.
-         الصعود التدريجي لقادة و زعماء أسوأ من الذين قامت الثورة للاطاحة بهم
-         قيام هؤلاء بابعاد من ينافسهم على السلطة او يحمل رؤية اصلاحية حقيقية
-         التلاعب بالذاكرة الجمعية من خلال البروباغاندا و الاعلام المأجور الذي يجعل من الهزيمة نصرا و يحرف الاحداث والوقائع بحيث لا يعود التأكد من اي واقعة ممكنا بالنسبة للناس
-         التعديل المتواصل للدستور او القوانين بدون الرجوع الى الشعوب بحيث تصبح الدساتير مفصلة بالمقاس على مزاج الحاكم
-         بناء عالم مزيف من التطور الاقتصادي و الرفاه والامن والحرية في الخطاب الرسمي و تكراره الى ان يصدقه الناس مع انه يتناقض تماما و واقعهم المعيش
-         اشاعة جو من الخوف من خلال تنفيذ احكام اعدام و اقامة محاكمات صورية لخونة مفترضين
-         تحصين الحاكم و حاشيته لأنفسهم بجيش شرس لقمع اي عصيان
-         تمكن الفئات المتنفذة من عدد كبير من الامتيازات التي لا تتاح لغيرهم
-         واخيرا و بعد مضي زمن كاف على ترسيخ العهد الجديد لدعائمه و تأكده من انعدام اي مقاومة من قبل الشعب يسمي الاشياء بمسمياتها و يكشف عن وجهه الشمولي دون اكتراث.
أتأمل كل هذا و لا املك الا ان اعجب ببراعة جورج اورويل و نفاذ بصيرته، فقد يكون  استلهم تفاصيل ما كتبه مما عاصره ( ثورة البلاشفة و نظام لينين و بعده ستالين) وهذا في حد ذاته يشهد بذكائه إذ ليس كل من عاصر نظاما شموليا يستطيع ان يتنبه الى الطرق والآليات التي يتغلغل بموجبها في كل مظاهر المعيش، وفي هذا الشأن نجد تحليلا اعمق و اكثر ابهارا في رائعته "1984"  
من جهة ثانية يمكن للقارئ و هو يقرأ الروايتين ان يستعيد احداث من التاريخ القريب(نظام كاستور في كوبا مثلا) ، فيلح على ذهنه السؤال: هل هي نبوءة تتحقق هنا وهناك على خريطة العالم؟ ام ان جورج اورويل في قالب روائي استطاع ان يلخص عددا من الوقائع المنتظمة التي تشكل جوهر الانظمة الشمولية فيما يشبه القوانين؟

الأحد، 12 فبراير 2017

قبور



أتأمل ما تبقى من العام و هو ينسحب إلى الماضي ببطء كما تتسرب الحبات بهدوء الى أسفل ساعة رملية.ما إن تستقر في القعر لا يعود في إمكانك تمييز أي منها سقطت أولا، وأي منها قاومت إلى آخر لحظة...كذلك لحظات وجودك عندما تستقر في الماضي، تبهت جميعا،وتشبه الأفراح و المصائب بعضها بعضا، تصير مشاهد من زمن آخر فقدت كل قدرة على إثارتك،بوسعك للحظات أن تتأملها كما لو أنها تخص شخصا آخر غيرك لولا أن ملامحك تطالعك بإلحاح في كل مشهد منها.
ما الحكم التي نجنيها مقابل المكوث طويلا في عالم غريب كهذا؟
في كل انتصار هناك هزيمة كامنة، لن يطول انتشاؤك كثيرا فالانكسارات تتكشف بتشف متحدية قدرتك على تدبيرها.
الأفراح، مثل طرود بلا عنوان، تدفع الكثير من أجلها احيانا، فلا تصلك أبدا، كما لو ان الطرد أخطأ وجهته،هكذا بكل بساطة، ثم من حين لآخر تطرق بابك متلهية بتعابير المفاجأة على محياك، بابتهاجك الأبله بسعادة غير متوقعة.
الحب يأتيك معبأ مع كل نواقضه التي يمكنك ان تتخيلها، مع شيء من الكراهية، قليل من التشفي، بضع جرعات من القسوة و كثير..كثير جدا من التملك.
قلبي تلك الأرض التي تجد نفسها من حين لآخر مسرحا لحروب لا تعنيها في شيء، هي دوما بلا اي سياج يحمي حدودها، تتأملهم و هم يدخلون ترابها ، يعمرون زمنا، يطيب لهم المقام فيعتقدون ان لهم صك ملكية  يحاجون به الملاك الآخرين.عندما يغادرون و قد فهموا - أو لعلهم لم يفهموا أبدا- أن الأرض لم تكن يوما ملكا لأحد، تبهت ذكراهم و لا يتبقى منها غير شاهد غرس نفسه بعمق خذلانهم.
امتلأت جنبات أرضك يا قلبي بالكثير منها،شاهد هنا،شاهد هناك،  "أصدقاء وعائلة" تجندوا لتحيين فهمك لمصطلحات : التعاطف، المحبة، العطاء. صرت تجيد الامتنان للجرعات القليلة من كل ذلك في سيل اللامبالاة و البغض المجاني و الانانية التي تهدد باغراق روحك على الدوام.
"ثمة الكثير من الحواجز إليك" يقول القادمون الجدد، هل يكون من اللطيف إخبارهم انها ليست حواجز و إنما قبور؟

الأربعاء، 19 أكتوبر 2016

لو تعرفين...



تحكي أسطورة يونانية قديمة عن بطولة إله غامر بتقديم النار المقدسة الى البشر و واجه مصيرا مأساويا كعقاب له على إنهاء احتكار الآلهة للحكمة و المعرفة،أسطورة بروميثيوس هذه لا تكشف فقط عن تفسير الاغريق القدماء لمنشأ المعارف بل تشير ايضا الى حقيقة تدعمها الكثير من الوقائع التاريخية: هناك دوما من يسعى الى حماية أسرار  المعرفة  و جعلها حكرا على قلة قليلة من الناس.حتى مع مرور قرون على ظهور الكتابة و التدوين لم يتم كسر هذا الاحتكار بشكل كلي، و هو ما يشير إليه امبرتو ايكو في روايته  "اسم الوردة" التي  تحدثت عن  سعي بعض رجال الكنيسة  الى منع انتشار محتوى بعض الكتب والمخطوطات بما يجعلهم المرجع الوحيد لتفسير الكتب المقدسة.
من الواضح إذن ان المعرفة تتيح شكلا من السلطة و السيطرة، وهي سلطة تتجاوز حدود ما أشار اليه الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون عندما تحمس الى بناء معرفة دقيقة عن الطبيعة من أجل تسخيرها لخدمة الجنس البشري، إذ بالنسبة للكثيرين يتعلق الامر بما هو اكثر من تسخير الأشياء، اي تسخير بشر لخدمة بشر آخرين.
في مجتمعاتنا الحالية حيث تتوفر وسائط الحصول على المعلومة أكثر من أي وقت مضى يبقى احتكار المعرفة  واقعا ملموسا أكثر من أي وقت مضى أيضا، يمكن للحقيقة ان تضيع بسهولة في زخم التصريحات والتحليلات والأفكار،كما انها توجد طوال الوقت جنبا الى جنب مع الأوهام و الأخطاء والافكار المزيفة بإتقان، إنها ضوضاء عارمة مغايرة تماما لما كان عليه الأمر قبل قرون، حيث كانت المواضيع المحرمة تناقش بسرية و تكتم شديدين، وكان المسكوت عنه بمجرد طرحه للنقاش يكشف عن أوجه الحقيقة الغائبة.
اليوم، تتيح التقنيات الحديثة امكانيات واسعة لنشر و تداول المعرفة،و يمكن لأي فرد ان يدلي برأيه في اي قضية،وإذا كان هذا يوحي للوهلة الأولى بتحرر المعرفة من أشكال الوصاية و السيطرة فإنه في العمق و بشكل مفارق يعكس الحاجة الى تحرير المعرفة،تحريرها من أشكال التبسيط والاختزال والتضليل، نحن في عالم يمكن فيه للأشخاص ان يتحدثوا كثيرا و يناقشوا -بكل حماس- موضوعا ما وذلك تحديدا بنية عدم قول أي شيء.ابسط مثال على ذلك ما تفعله وسائل الاعلام غير المحايدة عندما تحلل  قضية ما من جميع الجوانب و تتيح منبرا لكل من لا منبر له مع كامل الحرص على ان تظل الحقيقة المنشودة من طرف المواطن هي بالضبط الاقل حظا بالظهور على السطح.
ان كان انتاج ونشر و تداول المعارف يقع في صلب انشغال المهتمين بتحقيق الديمقراطية و منح الشعوب معطيات كافية لاتخاذ قرارات حرة عن بينة و دراية كافيين، فإن الامر لا يختلف كثيرا على مستوى الفرد المتعين، على مستواكِ انتِ.ما تعرفينه يمنحك خيارات أكثر لكي تقرري اي حياة تريدين، و مع من و كيف تريدينها.و رغم أن المعرفة تأتي أحيانا في نفس الطرد مع شقاء الوعي ببعض المشكلات التي نرتاح أكثر لو كنا على جهل بها، فإن متعة إيجاد المعنى، وخلقه عندما لا يوجد لا يمكن ان تقارن بحالة السلام الساذج التي يعيشها البعض الى ان تكسرها  أحداث تتجاوزهم و تضعهم بشكل غير مفهوم (لهم) تحت رحمتها.
ان تعرفي يعني ان تكوني قادرة على فعل شيء بما يُفعَل بك، لا شيء ولا أحد قادر على تطويعك لمصير حتمي، لا سبيل الى جعلك فردا في قطيع يردد لازمة ليست من تأليفك ولا من تلحينك، لازمة حتى عند أدائها يضيع صوتك بين جموع المغنين، ان تعرفي يعني ان تكوني حرة و حاضرة بشكل أصيل يعبر عنك.
تذكري و انت تقطعين كل يوم طريقك الى الثانوية او الجامعة حيث تدرسين أن الطريق الى الحرية و الكرامة قد تكون صعبة و موحشة وقاسية لكنها ليست طريقا للجهال بأي حال.وحدهم من يغالبون ضعفهم أمام سلطة العادة والسطحي من الافكار والتعبية للآخرين يصلون الى تذوق حلاوة الانتصار فيها، لهذا "متعطيش عقلك لغيرك".
تذكري و انت في منزلك او مقر عملك او اي مكان آخر تصطبرين على فهم غموض الأفكار، وانت تغالبين رغبتك ب" قتل الوقت" في الاهتمام ب"لاشيء" و تقررين بدلا عن ذلك تشذيب حديقة معارفك ، ان العالم ملك لمن يعرف أكثر، وان كنت لا تطمحين الى امتلاك العالم، فمن المؤكد انك لن تتخلي عن امتلاك الحق في أمورك الخاصة البسيطة، كأن تكوني واحباؤك بمأمن وبصحة جيدة، وان ينتج ما تستهلكونه بطرق آمنة و عادلة، و سيكون عليك ان تقرئي في مجالات الاقتصاد والسياسة و البيئة وغيرها  لكي تعرفي لماذا ليس من السهل إحقاق حقوق بسيطة كهذه.ان تعرفي يعني-من ضمن ما يعنيه- ان تضمي صوتك لمن ينادون بعالم أفضل، عالم تسخر خيراته للإنسان وليس عالما يسخر فيه الإنسان لخدمة جشع و نزوات الإنسان.
تذكري فقط عندما يشتد ضجيج التحليلات و الافكار وأشكال الإلهاء القادمة من هنا وهناك ان توفري لعقلك مساحة كافية لكي يفكر بهدوء واستقلالية،فهو يحتاج الى هذا لكي يبهرك بألمعيته.
وتذكري ان لحديث القوارير بإذن الله بقية