وصلت الى عيادة طبيب الأسنان على الساعة الثامنة والنصف صباحا،لم اكن قد طلبت موعدا من قبل،وزيارتي هذا الصباح أمر لم اخطط له،بل أرغمني عليه ألم فاجأني في ساعات الصباح الاولى وحرمني نعمة النوم..نظرت الى باب العيادة المغلق في ضيق...لم يضايقني كونه مغلقا فقد لمحت لافتة تعلن مواعيد العمل التي لن تبدأ الا عند الساعة التاسعة صباحا..لكن مصدر ضيقي هو الزيارة نفسها،وانا التي احاول دوما تجنب زيارة طبيب الاسنان...وتلك قصة اخرى !
على الساعة التاسعة فتحت امرأة الباب وشرعت تنظف الأرضية والسلالم..همهمت سيدة كانت واقفة بالقرب مني: ألم يكن هذا العمل لينجز قبل وصول الزبائن بوقت كاف..بمجرد انتهاء المرأة من التنظيف دعتنا باشارة من يدها الى الدخول وكنا خمسة اشخاص..فكرت فورا ان خطواتنا سترسم اثارا على الارضية المبللة..
تحدثت الى مساعدة الطبيب التي اخبرتني ان الطبيب يرى زبائنه من الذين لديهم مواعيد مسبقة اولا ثم طمأنتني الى انه سيصل خلال دقائق وان دوري لن يتاخر كثيرا...
في قاعة الانتظار جلست اتصفح احدى المجلات..حين دخل عامل يحمل عدة تصليح...توجه نحو احدى نوافذ القاعة من اجل اصلاحها..اعتذر بأدب عن الازعاج ثم باشر عمله..قبل ان تتدخل مساعدة الطبيب فتطلب من بعض الجالسين التنحي لمنح العامل مجالا اوسع للعمل في ركن القاعة الضيق..لم يستغرق عمله اكثر من ربع ساعة..فكرت انه كان بوسعه القدوم بوقت ابكر وانهاء عمله قبل وصول الزبائن..
بعد انصراف عامل التصليح وعودة الهدوء الى قاعة الانتظار انتبهت الى ان التلفاز الذي كان مشغلا على "قناتنا الثانية" كان يبث حلقة من مسلسل مدبلج الى الدارجة المغربية..الحوارات التافهة نفسها عن الحب الذي يعمر اطول من الدهر،وعن فتاة تسرق خطيب اخرى،عن أطفال يسأل بعضهم بعضا فيما اذا كان للواحد منهم صديقة سرية،او فيما اذا كانت الواحدة منهن ترغب بخطيب...شعرت بالغيظ !! بعد اكثر من عقد من الزمن من البث المستمر والمنتظم لهذا النوع من الانتاجات يبدو لي واضحا ان امورا كثيرة تغيرت في نظرة المغاربة وحكمهم على الامور..انهم فجاة شعب سعيد بالتئام شمل بطلة وبطلة المسلسل "أ" وينتظرون بشوق ان تبدأ حكاية المسلسل "ب" لكي يتتبعوها بكل اخلاص..وبين البداية والنهاية هناك دوما الكثير من المشاهد التي باتت مألوفة لدى المغربي والكثير من السلوكيات التي لم يعد يستهجنها بدافع من التعاطف مع البطل او البطلة "مسكينة" !!
توجهت الى مساعدة الطبيب وطلبت منها ان تضع الجهاز على قناة وثائقية او اخبارية،ردت بابتسامة فيها من اللطف بقدر ما فيها من الغيظ أنه بامكاني تغيير القناة وان اختار القناة التي اريد..
عدت الى القاعة لكي اتنبه الى عدم وجود مستقبل رقمي..ترددت للحظة ثم سألت الحاضرين محرجة ان كانوا يتتبعون مشاهد المسلسل،فاجاب الجميع بالنفي،قلت لهم اني اريد تغيير القناة فبدا الارتياح على وجه شاب وجد نفسه وحيدا بين السيدات...اقتربت من الجهاز فوجدت انه لا يلتقط غير قناتين..الثانية وميدي 1 الفضائية،اخترت الاخيرة وكانت تبث برنامجا وثائقيا باللغة الفرنسية عن التصحر الذي اصاب قرى كثيرة في المكسيك فدفع بسكانها الى الهجرة السرية الى الولايات المتحدة الامريكية..كان البرنامج يصف معاناة الفلاحين وظروف سكنهم وعيشهم العصيبة،وتتبع أهم ممرات عبور مرشحي الهجرة السرية في الصحراء وعبر مسالك جبلية وعرة أو عبر الحدود البحرية المؤدية الى بلاد العم سام...بين بؤس مرشحي الهجرة السرية و موت العديد منهم في محاولات العبور،وبين معاناة أقاربهم في القرى حيث لا مال ولا عمل ولا أمل، فكرت ان معاناة البشر هي نفسها في كل مكان: فقر وحرمان وجوع البعض من اجل ترف ومتعة وبذخ البعض الاخر..
بين الفينة والاخرى توقف بعض الحاضرات أحاديثهن عندما تلفت انتباههن أصوات الموسيقى الحزينة او مشهد احد المكسيكيين يغالب دموع القهر..لكنهن سرعان ما يعدن لاحاديثهن..افترضت ان ذلك بسبب جهلهن للغة الفرنسية..سالت نفسي ساعتها: هل من باب الصدفة ان تكون المسلسلات العاطفية( حيث العالم مكان جميل الكل فيه فاتنون وفي قمة الاناقة لا هم لهم سوى مشاكل الحب) ووصلات الاشهار والشعارات الديماغوجية الشعبوية للكثير من الساسة تقدم باللهجة الدارجة بحيث يضمن القائمون على كل ذلك النفاذ الى فهم المتلقي مهما كان سنه او مستواه التعليمي..بينما يظل بث المواضيع الجادة او النقاش في القضايا الهامة حكرا على نخبة من المتفرنسين في هذه البلاد؟ !!
كنت اعرف ان لا صدفة في الامر فلست ممن يؤمنون بالصدف،لكن الاجوبة المحتملة أرهقت ذهني...قرأت في مكان ما ان في العالم نخبة من الاشخاص يعتقدون ان الشعوب اغبى من ان تسير نفسها بنفسها..وانها تحتاج دوما الى من يقودها..لذلك يرى هؤلاء انهم الاجدر بالقيادة...
وبقدر ما اؤمن بحرية البشر وقدرتهم على رعاية شؤونهم بدون وصاية من بشر اخرين،بقدر ما يزعجني ان أرى سهولة تعبئة الناس من اجل قضايا مزيفة او اهتمامات سطحية...مهما كانت اهمية قضايا الفقر والجريمة والادمان والاستغلال والنهب والحريات المفقودة..فان اعداد الذين يبحثون عن تذاكر لحضور مهرجان "فن" كذا او كذا، واعداد الذين يصطفون باخلاص كمشجعين لفريق كذا او كذا،واعداد الذين يتتبعون بلهفة اخر موديل لهذا المحمول او ذاك او اخبار الفنانين والفنانات، اعداد كل هؤلاء هي دوما اكبر بكثير جدا من اعداد من يبحثون عن فهم ومعالجة مآسي الانسان المعاصر وأشكال استعباده المعلنة والخفية باسم عالم متحرر...
" استاذة...تفضلي حان دورك !" قاطع صوت مساعدة الطبيب حبل افكاري فنهضت وانا اشعر بالضيق مجددا...