يعد النقاش المطروح حول المناصفة في الإرث من
المواضيع المثيرة للجدل في أوساط الرأي العام المغربي، و الحقيقة أننا - قبل اتخاذ
أي موقف بشأن توصية المجلس الوطني لحقوق
الإنسان- بحاجة إلى ترسيخ ثقافة الحوار الهادئ و الابتعاد عن اختلاق معارك شرسة
بصدد كل شيء و أي شيء. إن الجهد الذي نبذله في سبيل الدفاع عن موقف جاهز يمكن ان
نصرفه في تجميع المعطيات الكافية التي تسمح لنا
بترجيح موقف على حساب آخر وبشكل موضوعي ودون تهافت،لهذا فالمقال التالي
يدعو قارئه الكريم الى التفكير في السؤال التالي: هل نملك من المعطيات ما يجعلنا
متأكدين من خوض النقاش السليم و اتخاذ الموقف السليم؟
يمكن للمواطن العادي ان يلاحظ ان النقاش
الحالي حول الإرث يتقاطع مع مواضيع أثيرت ولا زالت تثار ( من قبيل النقاش حول
الحرية الجنسية، الاجهاض،حقوق المثليين...الخ) ونقطة التشابه هنا هي في كون كل تلك
القضايا تسائل ما يعتبر بالنسبة للمغاربة (أو على الاقل بالنسبة لشريحة منهم)
مرجعية دينية، قيمية و أخلاقية، فهي – وخصوصا فيما يتعلق بالإرث – تقترح تعديل (أو
تجاوز) ما تشرعه نصوص قرآنية قطعية و صريحة، لهذا السبب تستعر المعارك سريعا بين
فريقين أحدهما يدعي تمثيل الحداثة و الآخر يدعي الحديث باسم التراث وثوابت الأمة
الدينية، و هي معركة استقطاب تضيع على الجميع فرصة النضال جنبا الى جنب من اجل
انتزاع المزيد من الحريات السياسية و المطالب الاجتماعية المشتركة.
إذا كان هذا النقاش آت لا محالة،فهل توقيته
مناسب لا سيما انه يخلق من الخصوم (الفكريين في أحسن الأحوال) أكثر مما يقدم من
الأجوبة؟
هل نملك معطيات احصائية علمية موضوعية
ومستقلة عن توجهات عموم المغاربة كي نحسم فيما إذا كانوا أكثر توجها نحو الخيارات
"الحداثية" او انهم لايزالون شعبا "محافظا" ؟
يمكن للمرء ان يكرر مقولاته في كل الندوات و
المؤتمرات،وان يدعي الحديث باسم المواطنين من منابر إعلامية متعددة، لكن ذلك لن
يكون أساسا منصفا لمشروعية أي موقف. عندما نتحدث باسم المغاربة دون ان نملك معطيات
دقيقة حول آرائهم فنحن نمارس نوعا من الوصاية والحجر على إرادتهم.وفي هذا الصدد
ليست هناك وصاية جيدة و وصاية سيئة،هناك وصاية وهي دوما مرفوضة، لأن الطريق الآمن
نحو مجتمع ديمقراطي سليم يمر أساسا عبر تمكين الناس من القدر الكافي من المعطيات
التي تسمح لهم بالحكم بأنفسهم بشكل واع و مسؤول.
تستند الدعوة الى تحقيق المناصفة في الإرث
على مصادقة المغرب على الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الانسان ،و بالعودة الى
نصوص الشرعة الدولية مجتمعة وتحديدا اتفاقية سيداو حول مناهضة كل أشكال التمييز ضد
المرأة ،لا نجد ما يمكن الاستناد عليه بشكل موضوعي للقول بتعارض التقسيم الشرعي
للإرث و البنود المنصوص عليها في هذه الاتفاقيات، ففي المادة الاولى من اتفاقية
سيداو تعريف للتمييز على انه كل "تفرقة او استبعاد او تقييد يتم على أساس الجنس
و يكون من آثاره أو أغراضه النيل من الاعتراف للمرأة على أساس تساوي الرجل والمرأة
بحقوق الانسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية و
الثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر،أو إبطال الاعتراف للمرأة بهذه الحقوق او
تمتعها بها او ممارستها لها بغض النظر عن حالتها الزوجية" بينما تذهب باقي مواد
الاتفاقية الى تأكيد المبدأ الأساسي في سيداو وهو المساواة بين المرأة والرجل في
الحقوق والواجبات،مع الاعتراف لها بحقوق استثنائية خاصة بوظيفة الامومة.
ولا يمكن القول بشكل موضوعي إننا بصدد وضع
تمييزي،فالمرأة في نظام الإرث الإسلامي لها الحق في الإرث بشكل مساو للرجل،والاختلاف
بينهما يكمن في نصيب كل منهما،وهنا تستوقفنا نقطة أساسية في الدعوة الى تحقيق
المناصفة في الإرث بين الرجل والمرأة، فهل يتعلق الأمر تحديدا بالآية القرآنية:
"للذكر مثل حظ الأنثيين" ؟ أم يتعلق بتحقيق المناصفة في جميع حالات الإرث؟
إذ ان الآية الكريمة تهم الذكور والإناث
الذين يتمتعون بنفس درجة القرابة من المتوفى، ولا يمكن الحديث هنا عن
"رجل" و "امرأة" بإطلاق،فكل منهما قد يكون من الأبناء أو احد
الزوجين،أو الأبوين،أو الإخوة..إلى غير ذلك من حالات القرابة،و قد خصص نظام الإرث
في الإسلام للمرأة في حالات متعددة نصيبا أكثر من نصيب الرجل (على سبيل المثال لا
الحصر :قد ترث أم المتوفى ثلث التركة و يرث والده السدس،و قد يرث زوج المتوفاة
الربع و ترث ابنتها النصف)، لهذا فتأسيس الدعوة الى تعديل او إلغاء العمل بالنص
الشرعي اعتراضا على حالة محددة لا يبدو منطقيا ولا متماسكا، لأنها تخرج الآية
القرآنية من سياقها العام و تعطيها أبعادا
تمييزية غير صحيحة وغير مبررة.
ولا اظن ان أنظمة الإرث الوضعية في الدول
الغربية تستجيب لهاجس المناصفة في كل الحالات،فعلاوة على فرضها ضرائب مرتفعة على
التركة في بعض الدول كفرنسا،فإنها في قوانين دول أخرى كالولايات المتحدة لا تسمح
بأن يرث الأبناء من الزواج الأول أي شيء من التركة سواء كانوا ذكورا او إناثا.
يبقى المبدأ الأساسي هو حق الإرث للرجال
والنساء على حد سواء،أما اختلاف ما يحصل عليه كل واحد فهو أمر لا مفر منه حتى لو
تجاوزنا النص الشرعي واعتمدنا اجتهادات وضعية صرفة،تماما كما ندافع عن تمتع الرجال
والنساء بالحقوق الاقتصادية نفسها،ثم نقبل دون تردد بالإجراءات التي تهدف الى
حماية النساء الحوامل والأمهات، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها إجراءات
تمييزية في حق الرجال.
وبناء عليه، لا يبدو الصدام المفترض بين
التشريع القرآني المتعلق بالإرث و نصوص الشرعة الدولية (لا سيما منها اتفاقية
سيداو) مؤسسا بشكل منطقي، إذ ليس في مقتضياتها ما يحرج المغرب و بالتالي يلزمه بإعادة النظر في قوانين الإرث بغض النظر عن
اختلافنا او اتفاقنا حول هذا التعديل من ناحية المبدأ.
أمر آخر غير متماسك يستوقفنا في هذه القضية،
وهو الاعتماد فيها على تزايد اسهام النساء
في إعالة الأسر المغربية، بحيث تصبح الدعوة الى المناصفة في الإرث اعترافا
بمساهمتهن في مراكمة الثروة و بالتالي في حقهن من نصيب مساو لنصيب الرجل
منها.والحقيقة ان ادعاء مماثلا فيه من الديماغوجية ودغدغة العواطف أكثر مما فيه من
الحجج المقنعة برغبة حقيقية في إنصاف النساء العاملات، فالتشريع القرآني يعترف
للمرأة بالأهلية القانونية للتصرف في أموالها و خيراتها بيعا و شراء،لذلك لا شيء
يمنعها من حماية أموالها و تسجيل الممتلكات باسمها وبالطرق القانونية اللازمة،وعوض
توعيتها بالمشاكل الناجمة عن الاستثمار في الأملاك المشتركة دون ضمانات كافية
نقترح تعديل نص شرعي و حرمانها بالتالي من الاستفادة من الحالات التي ترث فيها
أكثر من الرجل.
كل الملاحظات السابقة تبين أن النقاش حول
المناصفة في الإرث بني في الأساس على الكثير من المغالطات، افتراض الصدام بين
التشريع القرآني ونصوص الشرعة الدولية حول حقوق الإنسان، المطالبة بإعادة قراءة
النص الشرعي حول الإرث بناء على اجتزاء و اختزال لمعنى آية من آياته، تحويل النقاش
عن ظروف عمل المرأة و شروط الحماية الاجتماعية المتوفرة لها عند العمل، عند
المرض،وفي حالة الشيخوخة الى نقاش حول نصيبها من الإرث، و الحديث باسم شعب نعرف
انه يعيش تحولات عميقة لكن ليست لدينا معطيات دقيقة لقراءة اتجاهات هذه التحولات.
و بالتالي فالنقاش حول المناصفة في الارث
يضعنا أمام احتمالين،الأول :سوء فهم مطلب المناصفة في حد ذاته،بما يعني سوء اختيار
المعركة المؤدية الى تمكين حقيقي للمرأة و تعزيز دورها ومشاركتها في أوجه الحياة
الجماعية، الثاني: جعله عن قصد سلاحا للمزيد من الاستقطاب و خلق حالة تدافع وهمي
من شأنها توجيه أنظار الرأي العام عن القضايا الحقيقية و تنفيس غضب البعض في وجه
البعض الآخر.