رواية تعيد قراءتها أكثر من مرة،دون ان يفتر
مع ذلك انبهارك ببراعة و ذكاء جورج اورويل في بناء عالمها السردي.
تبدو الفكرة بسيطة، فكرة التعبير عن واقع
المجتمعات البشرية على لسان الحيوانات، ولكن ليس هذا ما يستوقف في "مزرعة
الحيوانات"، انها فكرة الثورة، مبرراتها، أحداثها، آثارها على الذين خاضوها ايمانا
بجدواها، مسارها الذي قد يسير في اي اتجاه الا ذلك الذي اندلعت لأجله، لا تستطيع ان تفصل هذه
الرواية عن عالم النصف الاول من القرن العشرين، ذلك العالم الذي استفاق فيه الناس
من احلام العدالة و الرفاهية والحرية لكل البشر- وعود المجتمع الصناعي التي لم
تتحقق- ليجدوا أنفسهم يعيدون انتاج
العبودية و القهر باشكالها الصريحة و المتخفية.ذلك العالم الذي خيب آمال الكثيرين
و اسقطهم في قلق وجودي عن جدوى كل ما يحدث حولهم.
تبحث في ذاكرتك و انت تقرأ مزرعة الحيوانات
عن الاحداث التاريخية التي يمكن ان تكون قد ألهمت جورج اورويل في كل التفاصيل التي
يقف عندها بعناية:
-
الشعوب التي تستجمع بصعوبة شجاعتها لكي تثور
على مستغِليها و لا يفيض كأسها الا قمة الجوع والقهر.
-
الصعود التدريجي لقادة و زعماء أسوأ من الذين
قامت الثورة للاطاحة بهم
-
قيام هؤلاء بابعاد من ينافسهم على السلطة او
يحمل رؤية اصلاحية حقيقية
-
التلاعب بالذاكرة الجمعية من خلال
البروباغاندا و الاعلام المأجور الذي يجعل من الهزيمة نصرا و يحرف الاحداث
والوقائع بحيث لا يعود التأكد من اي واقعة ممكنا بالنسبة للناس
-
التعديل المتواصل للدستور او القوانين بدون
الرجوع الى الشعوب بحيث تصبح الدساتير مفصلة بالمقاس على مزاج الحاكم
-
بناء عالم مزيف من التطور الاقتصادي و الرفاه
والامن والحرية في الخطاب الرسمي و تكراره الى ان يصدقه الناس مع انه يتناقض تماما
و واقعهم المعيش
-
اشاعة جو من الخوف من خلال تنفيذ احكام اعدام
و اقامة محاكمات صورية لخونة مفترضين
-
تحصين الحاكم و حاشيته لأنفسهم بجيش شرس لقمع
اي عصيان
-
تمكن الفئات المتنفذة من عدد كبير من
الامتيازات التي لا تتاح لغيرهم
-
واخيرا و بعد مضي زمن كاف على ترسيخ العهد
الجديد لدعائمه و تأكده من انعدام اي مقاومة من قبل الشعب يسمي الاشياء بمسمياتها
و يكشف عن وجهه الشمولي دون اكتراث.
أتأمل كل هذا و لا املك الا ان اعجب ببراعة
جورج اورويل و نفاذ بصيرته، فقد يكون استلهم تفاصيل ما كتبه مما عاصره ( ثورة البلاشفة
و نظام لينين و بعده ستالين) وهذا في حد ذاته يشهد بذكائه إذ ليس كل من عاصر نظاما
شموليا يستطيع ان يتنبه الى الطرق والآليات التي يتغلغل بموجبها في كل مظاهر
المعيش، وفي هذا الشأن نجد تحليلا اعمق و اكثر ابهارا في رائعته "1984"
من جهة ثانية يمكن للقارئ و هو يقرأ
الروايتين ان يستعيد احداث من التاريخ القريب(نظام كاستور في كوبا مثلا) ، فيلح
على ذهنه السؤال: هل هي نبوءة تتحقق هنا وهناك على خريطة العالم؟ ام ان جورج
اورويل في قالب روائي استطاع ان يلخص عددا من الوقائع المنتظمة التي تشكل جوهر
الانظمة الشمولية فيما يشبه القوانين؟