من بين كل الأشياء الكثيرة التي قد تملأ
وجودك من ضجيج حضورها، لا ترى عيناك الا ما غاب عنهما في الغالب.لا تنصت أذناك في
صخب الحياة الا الى السكون القادم من مكان عميق في فؤادك.
هي لحظة-وربما لحظات- بطعم الفقد.
لا يهم بأي لسان تتحدث، لا يهم كم الكلمات
التي تستعمل، لا يهم ان كانت الكلمات نفسها التي يستعملها الآخرون كل يوم بشكل اعتيادي،
عندما تتحدث لغة لا يتحدثها غيرك ممن علموك استعمال الكلمات والحروف اول مرة، عندما
تستخدم بشكل عفوي لسانا لا يفهمه غيرك ممن تضع عليهم في شبكة علاقاتك علامة
"اصدقاء" ،عندما ترتب كلماتك على نحو فريد استجابة للحن لا يسمعه
غيرك،وانت في قمة التيه بما تسمع، تشعر بطعم الفقد.فهم يغيبون الواحد تلو الآخر
متى واصلت البوح.
عندما تضطر لاتخاذ قرارات مصيرية وتعرف ان
نتائجها قادمة لا محالة،وان عليك وحدك ان تتحمل تبعات القرارات الخاطئة،ستشعر حتما
بطعم الفقد، الطفل الذي كنته يوما ما لم يعد له وجود،لا يمكنك ان تدع احدا آخر
يقرر بدلا عنك،ولا يمكنك ان ترمي بمسؤولية وجودك على شخص غيرك.
عندما ترى الجميع يعرقون ماء و دما لأجل بناء
صروح من أشياء، تتلاقى نظراتكم، تتلامس أياديكم، تنساب اصوات بعضكم الى آذان بعض، تتحدثون،
تضحكون، ترسمون صورا عن المستقبل، كل شيء يؤكد بأنكم هنا، بأن وجودكم معا شيء حقيقي،
مع ذلك يغالب كل منكم شعورا متأصلا بالعزلة، شعورا غير مفهوم بأن كلا منكم
ينظر الى الآخر طيلة الوقت دون أن يراه،حينها يتعمق لديك شعور فظيع بالفقد.
روابط غريبة تجذبك الى تذكر من غادروا هذا
العالم الى غير رجعة، كل تفاصيل حضورهم في وجدانك تعمق احساسك بغيابهم،تستنجذ
عيناك بالحاضرين الذين لم يغيبهم الموت عنك و لم يغيبك عينهم،لكن لا يبدو ان ثمة
رابطا يذكر بتواجدكم في العالم نفسه.
يتوالى الحضور و الغياب، يتزامنان،تعيش
احدهما بالرغم من الآخر، واحيانا تعيش احدهما بفضل الآخر،إلم تعلمك لحظات الفقد
درس الامتنان فلاشيء سيفعل، كلما عشت الفقد مجددا ستتذكر ان تثمن ما لديك بشكل
افضل، كل ما هو هنا،يمكن في لحظة ان يكف عن الوجود،وان حرصت بما يكفي الا تفقد
ذاتك عندما تعصف بك رياح الخسارات،ستدرك بما يكفي ايضا انك الجذر،وكلما انكسرت منك
اغصان او ذبلت اوراق أزهرتَ غيرها يانعة مبهجة مفعمة بالحياة.