استلقى على أريكة بجانب من المكتب الضيق..نظرت اليه المعالجة النفسية وعلى
وجهها اكثر من سؤال..صحيح ان لها خبرة لا يستهان بها في مجال عملها..وانها تعاملت
مع مرضى بطباع وشخصيات متنوعة بل و غريبة احيانا..لكن هذا الشخص يظل حالة
مختلفة..فهو يعترض على كل ما تقوله، ولا يمتثل لأي مما تطلبه منه..و لا يحضر في المواعيد
المحددة..بل يطلب مقابلتها كلما عن له ذلك..من الناحية المهنية كان ذلك مربكا
لها،اذ كانت بحاجة الى الاشتغال على برنامج قار كي تتمكن من مساعدته..وان كانت الى
حد الآن لم تفهم بوضوح ما يعانيه..او فيما اذا كان بالفعل بحاجة الى تدخل معالجة
نفسية..في جميع الاحوال نظرت اليه وهو يستلقي بهدوء على الأريكة، لم تطلب منه ان
يفعل لكنها تعودت منه ان يتصرف في مكتبها
بعفوية، كان شخصا تلقائيا ومسالما..قال لها في احدى المرات انه يدفع من اجل ان
تستمع اليه، وانه لا يتوقع منها حقا ان تساعده في شيء..اخبرها بان لديه الكثير جدا
من الاقارب و الاصدقاء ، وانه لا يحب ان يتحدث اليهم بما في نفسه لأنهم منشغلون
جدا بأنفسهم..وقلما يرون او يسمعون بعضهم بعضا وهم مجتمعون يثرثرون ويملأون الدنيا
صخبا بضحكاتهم، لم تستغرب كلامه ساعتها، كانت تدرك بالفعل ان جزء من متاعب زبائنها النفسية كان ليحل تلقائيا لو
توفر حولهم اشخاص يهتمون لأمرهم حقا..لكنها ارتبكت قليلا عندما تفرس في ملامح
وجهها قبل ان يضيف ببساطة:
-
بالمقابل..انت
الشخص الوحيد الذي اضمن انه يستمع الي و يحاول استيعاب ما اقول..من واجبك ان
تفعلي..فأنا ادفع لقاء ذلك..
تذكرت انها حاولت، ساعتها، متابعة الاستماع الى هذا الرجل بمهنية ، مغالبة
احساسا بغضب مفاجئ اعتراها بسبب كلامه..اعترفت لنفسها على مضض بأن طريقته في
التعبير عن الأمر فجة الى حد ما لكنها تصف
الحقيقة الموضوعية: هو يدفع وهي تستمع...جلست
قبالته على كرسي صغير عندما افلحت اخيرا في طرد كل افكارها السابقة،وقالت له
بهدوء:
-
حسنا، مضى زمن
طويل منذ آخر مرة حضرت فيها لزيارتنا..
-
كان علي ان اخوض
بعض المعارك وحيدا..
جوابه الشارد ولد
لديها بعض الامتعاض..لم تكن ترغب حقا في مواصلة حديث مليء بالألغاز،لكنها سألت:
-
و بماذا انتهت
معاركك؟
-
هي معركة واحدة..تخلصت من الإدمان ..
فاجأها جوابه،
فلم يتحدث من قبل عن اي نوع من انواع الادمان،وشيء ما في نبرة صوته أوحى لها بصدقه
فيما يقول..شعرت بشيء من الانزعاج لكنها خاطبته بابتسامة مهنية باهتة:
-
حسنا، حدثني عن
الامر
-
تعاطيت للخمر مدة
طويلة جدا..لكن لم اصف نفسي يوما بالمدمن
عليها..لطالما اعتقدت اني اعاقرها باختياري..كنت احيانا اشرب فقط بالقدر الذي
يشعرني ببعض الاسترخاء، احيانا اخرى كنت افرغ في جوفي كأس الخمر تلو الاخرى الى ان
افقد الشعور بأطرافي، وكان هذا هو المطلوب..ان احلق..عاليا.. حيث لا اسمع ولا ارى
مخلوقا غير ما يثيره خيالي..كنت افيق في اليوم الموالي بصداع فظيع في رأسي..لكن
ذلك كان الجزء المفضل من طقوسي..الالم في رأسي كان يمنعني من ان ارى او اسمع اي
شيء اخر..
-
لا تبدو ممتعضا
من ذلك ،ما الذي جعلك تقرر الاقلاع عنها؟
-
بيني وبينها منذ
البداية شيء اشبه بتعاقد ضمني..الجأ اليها عندما احتاج ان اخرج عن ذاتي
قليلا،فتمنحني اسما غير اسمي،وشكلا غير شكلي،و عالما غير عالمي..لكني معظم الوقت
بحاجة الى ان اكون ذاتي..ما حصل هو انها استحوذت علي..وأرادتني في عالمها طوال
الوقت..عاقبتني بقسوة كلما ابتعدت عنها..
-
افهم انك صرت
تعاني من اعراض الانسحاب
-
لا يهم كم انفق
من المال لأجلها..لا يهم كيف اؤجل كل شيء كي ابقى في عالمها..كلما اشتد ولعي بها
استنزفتني اكثر..مرضت..ورغم نصائح الطبيب لم استطع الابتعاد عنها..كانت ملاذي..وفي
صباح احد الأيام وقد افقت على صداع مؤلم في رأسي، حاولت ان اصل الى الحمام كي اغسل
وجهي..توقفت امام المرآة وانا بالكاد ارى من شدة الالم..فجأة رأيت نفسي..رأيتني
رجلا مريضا و بائسا..ليس بسبب ما شخصه الطبيب لدي..ولكن بسبب عشقي لعدوة
مماثلة..مهما احببتها..مهما أوقفت كل شيء في حياتي لأجلها فهي لن تفعل الا ما تجيد فعله بحكم طبيعتها :
تحويل كل من يقترب الى حطام..تماما مثل نار لا توجد الا بإحراق ما يقترب منها..رأيتها تستنزفني وتخيلتها
تتحول- بعد ان توقع نهايتي- الى رجل اخر كي تغريه بمعاقرتها فشعرت بالخيانة..شعرت
بالمهانة..شعرت باني صرت عبدا مملوكا لها..وانا الذي لجأت اليها متمردا وثائرا..
-
انت تصورها كما
لو كانت إنسانا..
-
لأنها اضحت كذلك
استطعت التخلص منها..فيها من بعض البشر الشيء الكثير..الحدود ليست واضحة وقاطعة دوما
بين عالم الاشياء والاشخاص..نتخلص من الاشياء كما نتخلص من الاشخاص، ونشفى من
الامراض كما نشفى من الاشخاص..
-
كم مضى على اخر
كأس خمر شربتها؟
-
ما يكفي من الوقت
لأتيقن اني صرت رجلا حرا مجددا..ليست الخمر ما يخيفني الان
-
وما الذي يخيفك؟
-
غضبي..بالأحرى ما
يفعله بي غضبي..هو قادني الى اول كأس خمر،و جعلني اغضب حتى الثمالة..
-
بالاجمال تبدو
شخصا هادئا..
-
عندما اغضب لا
يكون اسوأ ما فِيَ ملامح وجهي المتجهمة..عليك ان تعرفي ما يدور بخلدي عندما اغضب
لكي تقدري اني احاول قدر المستطاع ان ابدو لطيفا ومسالما...
دعك من موسيقى الروك الصاخبة أو موسيقى الميتال
الكئيبة و العدوانية ، جموح صرخاتي لا يعادله شيء الا جموح رغبتي في التكسير...في
لحظات مماثلة اتفهم رغبة مظفر النواب في ان يتقيأ شعره في وجه من يقرفونه... لكني
عندما اغضب لا افكر في نظم الشعر...الشعر مهما بدا غاضبا وسيلة مهذبة للتعبير عن
الغضب... السحر الاسود فقط هو ما يشفي غليلي...عندما اغضب اشتهي قوة ارفع بها السيارات فأضرب بعضها ببعض واستمع بنهم الى الصخب الذي يصدره
ارتطامها وانظر في شزر الى شظاياها..عندما أغضب اشتهي ان يتجمع غليان جسمي في قبضة
يدي شهبا نارية اقذفها على كل الاشياء من حولي وانظر اليها بتلذذ تنفجر وتحترق
شيئا فشيئا الى ان تستحيل رمادا تذروه زوبعة انفاسي في كل الاتجاهات...
استمعت اليه
منذهلة من انسياب سيل الكلمات من فمه و تلاحق انفاسه وهو ينطقها كما لو كان في
عالم يخول له بالفعل ان يحقق ما يتخيله..كانت تبحث عن الكلمات المناسبة للتعليق على
ما قال عندما تابع بهدوء:
-
عندما اغضب لا
اسمح لنفسي بقذف الكأس الزجاجي في يدي..لاني –وانا في قمة غضبي- استسلم لصوت لعين
في عقلي يحذرني من ان شظايا الزجاج قد تسبب عاهة ما لشخص أوجده سوء حظه هناك في
اللحظة غير المناسبة..لا اقلب مكتبي رأسا على عقب..لان نفس الصوت يخبرني متشفيا:"ذلك
لن يحل شيئا من مشاكلك سيكون عليك فقط
اعادة ترتيب المكان لاحقا"..لا اسمح لنفسي بلكم رجل تواقح امامي مهما رغبت
بشدة في ذلك لاني ادرك جيدا ان ارتجاجا قويا قد يزلزل دماغ الرجل وقد يغير معالم
وجهه لكنه لن يغير شيئا من أفكاره وأفعاله..عندما اغضب اعدل عن فعل كل ما تصرخ به
نفسي..و عوضا عن ذلك كله امارس ما تسمونه "تواصل"...
ساد الصمت
للحظات،عدلت من جلستها اخيرا قبل ان تقول :
-
التواصل هو
الخيار الانساني الأنسب دوما ..
قام فجأة و بدا
انه يستعد للمغادرة،و قبل ان تستوعب الامر كان قد وصل الى باب المكتب و قال
مغادرا:
-
البشر خارجا
منشغلون معظم الوقت عن ممارسة التواصل
الانساني..لهذا يحضر امثالي الى هنا
ويدفعون لامرأة غريبة عنهم كي تلعب دور انسان يستمع ..