الجمعة، 15 نوفمبر 2013

سؤال التغيير


 

انطلقت هذه الايام بمبادرة من احد النشطاء على الفيسبوك حملة  "من انتم؟" وهي مبادرة تهدف الى القاء الضوء على العديد من السلوكات الخاطئة وغير المسؤولة التي تصدر عن الكثير منا بشكل يومي..
حملة "من انتم؟" هي تعبير رمزي عن ارادة التغيير في مجتمع يعرف الكثير منه لكنه تغيير لا يسير في الاتجاه الصحيح دوما،وسؤال التغيير يطرح نفسه وبإلحاح منذ عقود، متى؟ كيف؟ وبأي الادوات والوسائل؟ كتب عنه الكثير جدا لدرجة ان المرء يتسائل فيما اذا كان الحديث عن التغيير يغير من واقع اللاتغيير شيئا.لكن السؤال الاستنكاري الساخر في حملة "من انتم؟" يغري بالحديث عن بعض الظواهر المرتبطة بالتغيير او على الاقل ارادة التغيير.
سأبدأ بالحديث عن التغيير نحو المزيد من التدين، كلما رأينا اعداد الملتحين والمحجبات والمنقبات في تزايد خلق لدينا اعتقاد بان مجتمعنا يتجه نحو المزيد من التشبت بالدين او ما يسميه البعض ب "الصحوة"، لكننا نعرف جيدا ان الامر لا يتعلق بلباس الشخص ومظهره بل وحتى طبيعة انشطته الاجتماعية،لا زلت اتذكر صدمتي عند باب المسجد قبل سنة عندما شتمتني شابة منقبة ونعتتني ب"المعاقة" - رغم سلامتي ولله الحمد من اي نوع من الاعاقات- فقط لاني طلبت منها بأدب  ألا ترتدي حذاءها داخل المسجد وعلى سجاده حيث يضع المصلون جباههم.لكنت اعتبرت هذا الموقف من قبيل الشاذ الذي لا حكم له لولا اني كنت شاهدة على مواقف كثيرة يتصرف فيها اشخاص بزي "اسلامي" بشكل بذيء جدا يتنافى مع ابسط قواعد اللياقة،هل يتعلق الامر باشخاص بسطاء (بساطة في الفهم) يكتفون من التدين بزيه ولا يقوون على التحلي بما يفترضه من جهاد وتأديب للنفس؟ ربما لكن الامر يتجاوز تلك الفئة من الناس فقد حضرت محاضرات و جلسات دينية لرجال ونساء يفترض ان لهم نصيب من الثقافة والوعي لكن يأخذهم العجب بما يقولون وما يعتقدون لدرجة لا يقدرون معها على تحمل وجود منتقد او مخالف في الرأي في نفس مكان تواجدهم.
التغيير: ليس ان نكتفي من التدين بزي معين او ان نجند انفسنا من اجل دعوة الغير ليكونوا بدورهم "متدينين"،انه عمل شاق ويومي يفترض ان تعلم نفسك كيف تخاطب الاخرين بادب مهما  قل شأنهم (في نظرك) ومهما كان الخلاف او موضوعه،ان تقبل بان للآخرين اراؤهم وان تحترم اختلافها،ان تعبر حركات جسدك وعيونك عن الحياء- مثلا- قبل ان تنطق به ملابسك وكلماتك الذاكرة لله..واللائحة طويلة.
قبل ان ينعتني القارئ الكريم بالتحامل على المتدينين الفت الانتباه الى ان الامر لا يختلف كثيرا مع  البعض من غير المتدينين (كما يفضلون ان يصفوا انفسهم)،البسطاء منهم (بساطة في الفهم مرة اخرى) يذكرونني بشخص  صرح لي قائلا:
"انا شخص منفتح وحداثي اشاهد المسلسلات المدبلجة مع زوجتي وابنائي واناقش معهم القضايا الاجتماعية والعاطفية المهمة التي تطرحها،لا اقبل بوجود الطابوهات او القيود على الابداع الفني".
اتذكر اني فشلت تماما في اقناع هذا الشخص ان الامر لا يتعلق بالحكم على هذا "المنتوج الفني الاعلامي" من زاوية التحريم او الاباحة ولكن من زاوية حق المواطن في تدبير الانفاق على الاعلام العمومي بما يخدم قضاياه ذات الاولوية وليس بتخديره بزخم لا ينتهي من القصص والنماذج البشرية التي لا توجد الا في المسلسلات.
الاكثر الماما يظهرون شراسة في مهاجمة ما يعتبرونه الوجه البالي لمجتمع متأخر،يحرص الرجال والنساء منهم في المؤتمرات والمحاضرات على تحية بعضهم البعض بقبل على الوجنتين،يتحدثون عن الحق في الافطار  خلال نهار رمضان علنا،الحق في الاجهاض و الحرية الجنسية والبعض منهم يذهب الى حد الحديث عن حق المثليين في ان يعيشوا "حياة طبيعية" على حد تعبيرهم.وكلها مواقف تجد سندا لها في المبدأ القائل بحق الشخص المقدس وحريته المطلقة فيما يتعلق بجسده.لكن بمجرد ان يتعلق الامر بحقوق وحريات المخالفين تسقط القداسة عن كل الحقوق والحريات وينهار كل ما حاضروا بشأنه حول فكرة الديمقراطية.
التغيير: ليس ان نكتفي من الحداثة بعرض الجسد وكشف عورته،ليس باستبدال اصنام المجتمعات المتأخرة علميا وتقنيا باصنام جديدة تصنعها ايقونات عالم الاستهلاك،التغيير الحقيقي نحو الحداثة هو ان تنتج بشكل اصيل وتتقن ما تقوم بانتاجه مهما كان موقعك بالمجتمع،ان يدفعك ايمانك بشروط اللعبة السياسية الديمقراطية-مثلا- الى القبول بنتائج الانتخابات مهما كانت وان تمارس حقك في المعارضة بشكل موضوعي دون سعي الى ممارسة الوصاية على الناخبين والتحدث باسمهم فيما لا يمثل الا احقادك او مصالحك.
التغيير ليس ان اتحدث كثيرا عن رمي الازبال في الشوارع واتذمر من سوء تدبير ذلك من طرف الجهات المسؤولة ولكن ان التزم بالتخلص من النفايات في الاماكن المخصصة لها،ان احمل اكياس القمامة التي يضعها الجيران -رغم احتجاجي- عند باب منزلي الى حاوية القمامة في هدوء وان اكرر ذلك متى لزم الامر لإفهامهم ان المسافة بين باب منزلي وحاوية القمامة ليس بعيدة الى هذا الحد.في كل الاحوال فالسلوك المنسجم مع الفكرة يدافع عنها افضل من الف محاضرة.
التغيير ليس ان انتقد المرتشين وارضخ لتقديم الرشوة عند اول مناسبة،ليس ان ادخل هذه الادارة او تلك المصلحة باعتزاز وانفة لان مديرها او موظفيها من معارفي،التغيير ان اتحرك فيها بخطى واثقة يدعمها الايمان بتساوي قيمتي بقيمة غيري وبكوني مواطنا ما وجدت تلك الادارة بموظفيها الا لخدمتي.
 التغيير ليس ان ارفض غش التاجر وغش المقاول وامارس الغش للحصول على شهادة او منصب عمل بل ان اشرع فورا في العمل الذي يمكنني من الحصول عليهما بشكل مستحق مهما كلف من جهد او وقت.
التغيير ليس ان انادي بالمساواة وابحث عن طريقة لتجاوز صفوف من ينتظرون دورهم..
التغيير يبدو شيئا سهلا عند الحديث عنه،فجميعنا ندرك بسهولة ما ينبغي تغييره،لكن الامر كثيرا ما يتوقف عند كونه حديثا عن التغيير،لان القليلين فقط يملكون من القوة والشجاعة ما يكفي لكي يشرعوا بتغيير انفسهم اولا وتدريبها على برمجة مغايرة لما تعودت عليه.

"وافقوا الوقفة توقف"



ما قادني الى وقفة يوم أمس أمام القنصلية الاسبانية كان إحساسا بالقهر والحرقة بعد أن علمت بأمر إطلاق سراح المغتصب دانيال رغم ادانته بهتك أعراض 11 طفلا مغربيا..شعرت ان أعراض المغاربة جميعا استبيحت.
رأيت من تعليقات أصدقائي على الفيسبوك أن هناك استعدادا لتنظيم وقفة أمام البرلمان بالرباط ،تمنيت لو كانت هناك وقفة باكادير لأخرج واحتج، سرعان ما وصلتني دعوات من بعض الصديقات للمشاركة في وفقة أمام القنصلية الاسبانية فاثلج ذلك صدري.
رأيت كما الجميع صورا وفيديوهات عن قمع وقفة الرباط مساء الجمعة الماضي..وازداد القهر قهرا..ماذا؟ !! لا يمكننا حتى ان نحتج بشكل سلمي؟ !!!
شعرت كما الجميع بالقلق على ملامح وجهي من ان تتغير معالمها فلا يعود تلاميذي قادرين على التعرف علي ،بعد أن رأيت أساتذة واطباء ومهندسين بوقفة الرباط تجذع انوفهم وتكسر جباههم وتدمي افواههم كي تخرس عن قول الحق،لكني قلت: وليكن،لا يمكن ان ألقى الله بالصمت على مثل هذا المنكر.
عندما وصلت الى مكان الوقفة قبل الخامسة بقليل، وجدت الكثير جدا من عناصر الأمن،عدد منهم بلباس مدني..كان عددهم أكبر بكثير من الشباب والشابات الذين حاولوا الوقوف امام القنصلية قبل ان يدفعهم رجال الامن الى الابتعاد الى الشارع المقابل حيث كنت اقف، تقدم مني رجل امن بلباس مدني وطلب الي بأدب اثار استغرابي (بعدما سمعته من سب المتظاهرين بالرباط) أن اغادر المكان كي لا "اختلط" مع الباقين،فأخبرته اني هنا من اجل الوقفة واني اريد الاحتجاج بشكل سلمي..دار بيننا حديث قصير عن جدوى الوقفة قبل ان أقول له انه لن يرضى شيئا مماثلا لابنائه،فاجابني بانه لو اعتدى شخص على ابن من ابنائه لقطع اوصاله بلا رحمة..قلت له اننا نعرف هذا الشعور بالغضب ايضا لكننا لا نستطيع الا الالتجاء الى القانون لذلك نحتج عندما لا ينصفنا..غادر رجل الامن مبتعدا وعلى وجهه ملامح رجل يضيق ذرعا بالمهمة الموكولة اليه..كما لو كان في داخله صراع بين ما يتوجب عليه فعله كأب وانسان وما يتوجب عليه فعله كرجل أمن.
سرعان ما تشكل تجمع للمتظاهرين في طرف من الشارع فركضت لكي انضم اليهم..تحركنا نحو الساحة المقابلة للقنصلية..وبدأ ترديد شعارات قوية..وارتفعت اصواتنا..واطلق الكثير منا العنان لحرقته وألمه على بلاده واطفالها..تجمع الكثير من الناس،وبدأت أرى أناسا من مختلف الأعمار ينضافون الى الشباب اليافعين الذين شكلوا النواة الاولى للوقفة..فوجئ الجميع بعد أقل من نصف ساعة على بدء الوقفة ان شبابا "من الجهة المنظمة" كما وصفوا أنفسهم يعلنون عن تعليق الوقفة بعد أن سجلوا موقف الرفض ضد العفو وأعلنوا مطالب تتعلق باستقلال القضاء..
انطلقت الاصوات بالاحتجاج على "وقف الوقفة"،وفهمت لماذا تسابق الجميع الى الصفوف الاولى..فعند انتهاء التقاط الصور بدأ الاستعداد للمغادرة نزولا عند أوامر رجال السلطة الذين وقفوا يراقبون في صمت..وبعد أن رفض المحتجون المغادرة واستمروا في ترديد الشعارات دخل احد رجال الامن بزي مدني وسط الحلقة التي شكلها المتظاهرون وهمس شيئا في اذن احد "المنظمين" وسرعان ما سمعنا اعلانا غريبا من احدهم يطلب من الاشخاص الذين جلبوا اطفالهم ومن النساء مغادرة الوقفة..فارتفعت الاصوات محتجة..في الدقائق التي ستلي سيختفي المنظمون تباعا..وستنشب مشادة كلامية بين أشخاص ينتمون الى احزاب وتيارات وفصائل متباينة..الكل يريد ان يزايد..والبعض هناك لينفذ مهمة تحويل الوقفة عن مسارها وعن موضوعها..وقد نجحت المهمة فعلا..فلم ينفع تدخلي ولا تدخل البعض لاعادة احتجاجنا الى صلب موضوعه الاصلي وهو العفو عن مغتصب اطفالنا..سرعان ما تعب الناس من الوقوف صائمين تحت حرارة الشمس المحرقة للاستماع الى مشادة كلامية فارغة بين فصائل وتيارات مختلفة..وبدأت اعداد الواقفين تقل تدريجيا..
استمرت وقفتنا تقريبا ساعتين..وعندما أقول "نا" اقصد نفسي ومجموعة من الاشخاص الذين قادهم الى امام القنصلية الاسبانية ليس انتماؤهم الى حزب اوحركة او فصيل – طالما معظم على الاغلب مثلي ينأون بانفسهم عن اي انتماء من هذا النوع- ولكن غيرتهم على عرض وطنهم ورغبتهم في التموقف ضد الاعتداء الشنيع على براءة اطفاله.
في وقفة اكادير لم يتدخل رجال الامن لقمع المتظاهرين،بل وقفوا يراقبون الوضع في صمت..لكان المشهد أثلج صدري لولا اني اعرف اني في المغرب حيث تتعدد الوسائل التي يلجأ اليها المخزن لكن النتيجة دوما لصالحه..
يبقى ان أقول: كل الخزي والعار لمن يسمحون لأنفسهم بالتشدق بشعارات لا يؤمنون بها ويرتدون زي النضال نفاقا لتلميع صورة فصيل اوتيار او حزب...كل الخزي والعار لمن يتواجدون في الوقت المناسب والمكان المناسب لاعلاء انسانيتهم وانسانية غيرهم فيلتقطون لانفسهم صورا لا تعبر الا عن حقيقتهم..مجرد صور..مجرد صور مزيفة...

الغش فيه...وفيه



غشنا وصل صداه الى قناة فرانس 24 او لنقل بشكل أكثر موضوعية "حملتنا على الغش" وصل صداها الى فرانس 24 التي اوردت في خبر لها امس خبر توقيف عدد من المتورطين في حالات الغش في اول ايام امتحانات الباكالوريا بالمغرب.
كأستاذة بالتعليم الثانوي أدرك جيدا مدى استفحال ظاهرة الغش في صفوف التلاميذ،لكن الحديث هنا ليس عن حجم الظاهرة ولكن عن محاولة لمقاربتها وفهمها،فمن الواضح ان التعامل مع الظاهرة تحليلا ومعالجة لا يمكن ان يقتصر على مقاربة أخلاقية محضة،لان الحديث عن الغش بمنطق الوعظ في مجتمع يعرف تحولا عميقا في منظومته القيمية حديث لا يِسمع احدا خاصة من فئة الشباب الذين يفقدون بشكل متزايد كل ثقة في جيل الكبار الذي لم يعد يحفل بتقديم القدوة الملائمة في العديد من السلوكات.
ويمكن ان نسجل عددا من الملاحظات حول مسألة الغش في الامتحانات:
-         أولها ان الظاهرة لم تعد منذ زمن  تهم بشكل حصري فئة التلاميذ الذين يعانون صعوبات او تعثرا دراسيا في مادة من المواد والذين يحاولون مثل غيرهم الوصول الى عتبة المعدل،بل اصبح يهم فئات واسعة جدا من التلاميذ سواء المتعثرين دراسيا او المتفوقين حيث يسعى الجميع الى الحصول على اعلى المعدلات من خلال الغش في الامتحانات.
-         ثانيها ان الوسائل والتقنيات المستخدمة في انجاح خطط الغش تطورت الى حد كبير وبشكل أصبح يفترض تدخل "مساعدين" من خارج قاعة الامتحان،اذ لم يعد التلميذ يستخدم "الحرز" الذي يكتبه بنفسه وبخط مصغر بل يحصل من محلات متخصصة في هذا المجال على تصغير متقن ومغلف بعناية لمختلف المناهج والمقررات،كما يمكن ان يلجأ الى استخدام هاتفه المحمول بكل ما يتيحه من اتصال عبر البلوتوث او الرسائل القصيرة او الانترنت للحصول على الاجوبة،وهنا ايضا فالتلميذ ليس المتدخل الوحيد في حالة الغش،اذ هناك من "يساعده" خارج قاعة الفصل باعطائه الاجوبة دون ان ننسى "مساعدة" الاهل بتمكين التلميذ من الاجهزة التي تتطلبها هذه العملية والتي يقدر ثمنها احيانا بمبالغ محترمة.
-         ملاحظة اخيرة تتعلق بنظرة التلميذ الى الغش،بحيث في العديد من الحالات لم يعد يتوارى عن الانظار لكي يغش او يركن الى الصمت في خجل اذا ما ضبط متلبسا،بل يدخل في مناظرة مع المراقب من اجل افحامه واقناعه بالعدول عن المراقبة بشكل صارم لان كل شيء يسير في اتجاه جعل غشه حقا مشروعا لا يمكن حرمانه منه لاي سبب.
ان الملاحظات السابقة مدخل اساسي لفهم مسببات الغش فهو ظاهرة مركبة تتدخل فيها العديد من العوامل اذكر منها في هذا المقال ما يتعلق بطبيعة نظامنا التعليمي وما يتعلق بالتلميذ نفسه وما يرتبط بالمجتمع ككل.
ولنبدأ اولا بطبيعة نظامنا التعليمي الذي يسمح للتلميذ بالانتقال من مستوى دراسي الى آخر دون امتلاكه للمؤهلات المعرفية والمنهجية الكافية لتمكينه من مسايرة زملائه في المستويات اللاحقة،وبذلك تتراكم تعثراته من موسم دراسي الى آخر بما يصنع منها حواجز اعلى من اي حافز او حماس او ثقة بالنفس يتحلى بها التلميذ.
اتذكر في هذا السياق حالة جد متطرفة لتلميذ درسته في مستوى الجذع المشترك( وهو اولى مستويات الثانوي التاهيلي)،وقد فاجأتني حالته كثيرا لانه لا يستطيع  قراءة الحروف باللغة العربية،بل كان يردد الجمل عن طريق السماع ويكتب ملخصات الدروس نقلا عن زملائه دون ان تعني له الخطوط شيئا.جعلني هذا اتساءل: لماذا لم يحظ هذا التلميذ –طفلا- بالمساعدة الكافية في المستويات الاولى من التعليم الابتدائي بما يجنبه –مراهقا- الاحراج الناجم عن صعوبة مماثلة في القراءة امام زملائه مع ما يترتب عن ذلك من اثر سلبي على تقديره لذاته.
فئة من التلاميذ لا عذر لها عند ممارسة الغش الا لكون المعدلات المستحقة تتطلب حضور الدروس بشكل منتظم والعمل بشكل جدي،وهم يصرحون بان الدراسة تتطلب الكثير من الجهد لكي تعطي القليل من النتائج (وهي العبارة نفسها التي استخدمها تلميذ لي عندما ضبطته يغش بواسطة هاتفه المحمول) جعلني هذا افكر: مهلا ! الم يسمع هؤلاء عن قيم الكفاح والعمل والنجاح المستحق؟
ارجعني هذا مباشرة الى المجتمع الذي قام بتنشئتهم قبل ان يصلوا الى حصصي.كل شكل من أشكال الغش ينطوي على المبدأ نفسه: الوصول الى غاية ما بشكل غير مستحق،وهو مبدأ حاضر بقوة  لدى العديد من الناس،بدءا بالطبيب الذي يستخلص منك فاتورة الاستشارة ويصف لك علاجا غير مناسب بتاتا لحالتك ولا تكتشف قلة درايته بما يفعل الا بعد ان تزور طبيبا اكثر كفاءة منه،مرورا بالمنعش العقاري الذي لا يتورع عن استخدام مواد اقل جودة في البناء لتقليل التكلفة وتضخيم هامش الربح ولا يهتم كثيرا ان تهدمت المباني فوق رؤوس السكان لاحقا،او الاستاذ الذي يتغيب عن عمله بدون مبرر ويسمح لنفسه بالحصول على راتب غير مستحق ويعوض تلاميذه عن تغيبه بمعدلات عالية غير مستحقة ايضا !!
الغش في كل مكان حولنا،يغش البائع عندما يستغل جهلك بانواع السلع ليحصل منك على ثمن سلعة جيدة لكي يبيعك في المقابل سلعة أقل جودة.
تغش ربة البيت زوجها عندما تحصل على نفقتها كاملة دون ان تقوم بواجبها في رعاية الابناء وتربيتهم في غياب الزوج، ويغش الزوج أهل بيته عندما يحصل منهم على كل احترام وتقدير بينما يمارس عربدته ومجونه في السر دون ان ينتبه الى الاثر المدمر لسلوكه على حياة زوجته وابناءه (وهي حالة عايشتها مع احدى تلميذاتي)
عندما يتوغل الغش في عمق تعاملاتنا اليومية وعلاقاتنا الانسانية ينشأ جيل الصغار في تطبيع مع الغش،فيمارسونه بكل عفوية وتلقائية في البداية،وعندما يكتشفون  ازدواجية معايير الكبار ونفاقهم في ممارسة الغش سلوكا والتموقف ضده قولا يثورون و يدافعون عن مشروعية الغش بكل ضراوة ولسان حالهم يقول: المجتمع برمته غشاش..لماذا نحاسب نحن فقط؟ !!
أثناء احدى الحصص كنت اناقش مجموعة من التلاميذ حول مسألة الغش،في نهاية حديثنا قلت لهم: تخيلوا معي الان لو اتخذ كل تلاميذ البكالوريا هذه السنة خيارا طوعيا بالامتناع عن الغش والاجابة بما يعرفونه فقط؟ اجابني احدهم ضاحكا: لن ينجح احد..قلت: بل سينجح البعض،لكن الالاف من الذين سيجتازون الاختبارات سيرسبون..وسنكون امام مشكلة حقيقية في تدبير عدد الراسبين في الموسم اللاحق..سيضطر الجميع الى الحديث عن المشكلة: اسباب ضعف التحصيل،اسباب الرسوب،وستكون اطراف متعددة ملزمة بتحمل مسؤوليتها،بدءا بالاسرة التي يتعين عليها مساعدة ومتابعة تحصيل التلاميذ اولا باول،مرورا باعادة النظر في طبيعة وحجم المواد الدراسية المقررة،وتحميل الفاعلين التربويين مسؤولية الاداء الجيد والمبني على الكفاءة وذلك كله في اطار جعل التعليم اولوية وطنية تخطيطا،تمويلا،تنفيذا ومتابعة ومراقبة وبما يستلزمه ذلك من تدخل الجميع حكومة ومؤسسات مجتمع مدني وافرادا..
عندما انهيت كلامي كان كل التلاميذ ينظرون الي بصمت فقلت لهم: اعرف ان هذا لن يحصل..انتم تريدون النجاح هذه السنة..كل التلاميذ يريدون ذلك..لذلك فانتم تفضلون ان تتحملوا وحدكم المسؤولية وتساهموا في التستر على اخطاء الجميع عندما تلصقون بانفسكم صفة غشاش !!

مسألة عنف....مجددا



دفعتني حادثة الطفلة لمى -التي تم تعذيبها حتى الموت من طرف والدها- لكتابة مقالي السابق عن مسألة العنف،في ذلك الوقت لم اتخيل ابدا عن مقالي التالي عن العنف سيكون عن عنف مورس بوحشية على فرد من أفراد عائلتي..
لمدة لم أستطع الكتابة في الموضوع،وبعد مضي اكثر من شهر على مأساة زكرياء أجدني مدفوعة برغبة في المساهمة في جعل هذه القضية وكل قضية تشبهها محورا لنقاش عمومي وتفكير جماعي،عل هذا يفضي الى اتخاذ تدابير حقيقية لمحاصرة العنف بكل أشكاله.
صحيح أن ما حصل صعقنا  على اعتبار ان أثر جريمة تسمع عنها في وسائل الاعلام أو يخبرك عنها أحدهم مختلف تماما وبشكل جذري عن جريمة تخطف حبيبا من احبائك،لكن ليس هذا هو الدافع الوحيد لانشغالي العميق بقضية العنف قبل زكرياء وبعده، فمأساة زكرياء لم تكن الحادثة الاولى التي يستهدف فيها طفل بهذه الوحشية،فقبله اطفال كثر،ولم تكن مع الاسف الشديد المأساة الأخيرة فبعد مقتله بأيام قليلة تم تعذيب الطفلة الخادمة فاطمة  حتى الموت،وتوالت حوادث التعذيب والقتل والاغتصاب في حق اطفال آخرين،آخرها حادثة الطفلة وئام التي نجت بكل حبها للحياة من هجوم همجي بالمنجل واغتصاب من طرف رجل في الاربعينيات.
كل هذه الحوادث تفيد ان حالة زكرياء ليست استثنائية،انها فقط مؤشر وعرض من أعراض مجتمع يعاني خللا ما ويحتاج الى تشخيص أسباب مرضه والتدخل بشكل عاجل وسريع لعلاجه.
إن الكتابة أو الحديث عما حصل لزكرياء لن يعيده الى الحياة ولن يجبر الضرر النفسي الذي عانته وتعانيه عائلته بسبب ما حصل،لكن التفكير في زكرياء يولد قلقا عميقا على مصير أطفال آخرين يعيشون - كما كان يعيش - حياة طبيعية في منازلهم بين ذويهم،يقصدون المدرسة،يلعبون،يمارسون رياضتهم المفضلة،يخرجون فيباغتهم العنف بكل وحشيته وقسوته من حيث لا يدرون..
بكل حرقة الاهل المكلومين نسأل: لماذا؟؟ !! وبكل خوف وانشغال أهال آخرين على أطفالهم نطالب بالحل ونسأل: إلى اين نسير بهذا الوضع؟؟ إذ يصعب على الناس التعايش مع فكرة الخوف المستمر على انفسهم وذويهم وممتلكاتهم دون ان ينتج عن هذا الخوف آليات دفاعية عنيفة او اضطرابات نفسية.
والواقع ان هناك مجموعة من الاطراف التي يمكن أن تشكل في طرق اشتغالها دائرة تحاصر العنف وتضيق من آثاره،لكن تفككها أو ضعف أدائها أو استقالتها يفتح المجال لاتساع دائرة العنف أو انفلاته وخروجه عن السيطرة.و ترتيب هذه العوامل في المقال لا ينطلق من اهمية دورها أو تدخلها فلكل منها أهميته داخل مجاله الخاص.
نتحدث هنا عن دور الأحكام القضائية المخففة في حوادث سابقة في التساهل مع الجناة وتشجيع آخرين على ارتكاب المزيد من الجرائم،بينما يفترض أن تكون قسوة الحكم من قسوة الجرم المرتكب، مما من شأنه ليس فقط ردع و زجر مجرمين اخرين محتملين، ولكن ايضا اعادة الاعتبار للكرامة الانسانية والحياة الانسانية ولبراءة الطفولة باعتبارها حدودا لا ينبغي المساس بها وقيما يعلي المجتمع من شأنها.
لكن دور القضاء لا يأتي إلا بعد ان يضرب العنف ضربته،لذلك فإن آليات الوقاية مطلوبة لتامين الحياة الجماعية من أي تهديد وذلك من خلال  توفير دوريات أمن  ومراقبة منتظمة في كافة المناطق،بما يذكر الجميع في الحواضر والبوادي أنهم يعيشون داخل دولة محكومة بقوانين وان اي جرم يتم ارتكابه تنطوي عليه مسؤولية قانونية وجنائية.
ولا يمكن  لدور الدولة ان ينحصر فقط في المراقبة والعقاب،فبوسعها استغلال قنوات متعددة لخلق وزيادة الوعي بالحقوق والواجبات،من ذلك مثلا فضاء المؤسسة التعليمية والاعلام العمومي،والمفارقة ان هذين القطاعين اصبحا مسرحا لأشكال متعددة من العنف،يعبر عنه عنف التلاميذ ضد بعضهم البعض،وعنفهم ضد مدرسيهم ومؤطريهم،أو عنف هؤلاء المدرسين ضد تلاميذهم او عنفهم ضد بعضهم البعض !! هذا دون أن ننسى بالطبع العنف الذي يمارس على وعي وجيوب المغاربة عندما يتم تمويل اعمال تلفزيونية فارغة من اي مضمون قيمي او اي رسالة هادفة،وتخصيص ميزانيات ضخمة لتنظيم مهرجانات فنية ودعوتهم الى الرقص والغناء "العام زين" في الوقت الذي يحتاجون فيه بشدة الى تمويل برامج تمنح لأبنائهم الاستفادة المجانية من المساعدة الاجتماعية والإرشاد النفسي داخل المؤسسة التعليمية أو برامج لعلاج من ابتلي من فلذات اكبادهم بمحنة التعاطي والإدمان بكل أشكاله.
طرف آخر يتدخل لتقليص دائرة العنف وهو المؤسسة الأصلية التي تنتج الأبطال في كل قصة عنف،الجناة والضحايا، وأتحدث هنا عن الأسرة،هذه المؤسسة التي على ما يبدو تستقيل تدريجيا من مهامها،فتجعل من نفسها مجرد مؤسسة بيولوجية..
أمايزال البالغون يحملون قيما ومعايير يحترمونها في سلوكهم فيشكلون القدوة والنموذج لمن هم اصغر سنا؟
هل يحترم الأهالي قداسة الحياة والكرامة الإنسانية في خياراتهم اليومية فيعلون من شأنها بجعلها رسالة يمررونها بكل إخلاص في تربيتهم لابنائهم؟
هل يحرصون على مراقبة وتوجيه ما يستهلكه أطفالهم من أفكار وأذواق وتوجهات أثناء مشاهدتهم التلفاز أو استخدامهم لألعاب الفيديو أو لشبكة الانترنت؟
هل يعتبرون انفسهم معنيين بالتحرك في قضايا العنف والنضال للحد منها؟
انها الاسئلة التي يجب أن تطرحها كل أسرة لتحدد مسؤوليتها تجاه ما يجري،لتحدد فيما إذا قررت بمحض ارادتها للعنف ان ينتهي أو فيما إذا سمحت له  بالاستمرار  الى ان يحين دورها لتكتوي بناره..
أطراف أخرى مسؤوليتها ليست بأقل من مسؤولية الأسرة او الدولة،إنها المؤسسات غير الحكومية،دعنا نتحدث وبكل صراحة عن العنف الذي تمارسه بعض الجمعيات عندما تستفيد من الحق في التواجد والاشتغال والتمتع بالمنح والدعم المالي دون ان تحفل بتحديد رؤية توجه عملها و دون أن يسفر هذا العمل عن تأطير حقيقي للناس،أليس تواجدها بأعداد كبيرة وتشرذمها وعدم جدية الكثير منها في التعاطي مع تخصصاتها بعنف ضد القطاع الجمعوي وضد اهدافه ورسالته؟أليس عنفا ضد شرفاء هذا القطاع الذين يتعبون من النضال وحدهم ضد التيار؟
وما دمنا نتحدث عن المسؤولية لم لا نستحضر ايضا مسؤولية الأحزاب السياسية؟ والتي في الكثير من الأحيان لا يهمها من المواطن إلا صوته أثناء الانتخابات،قبل ان يكون المواطن  مرشحا يتبنى قيم وايديولوجيا الحزب،وقبل أن يكون ناخبا يضع ثقته في مشروع الحزب،يحتاج الى بناء وعيه بناء سليما،لهذا فالاحزاب السياسية من موقعها تملك هي الاخرى من القوة ما يمكنها من احداث الفرق عبر تاطير الشباب والمساهمة إلى جانب الفاعلين الاخرين في نشر ثقافة حقوقية تنور كل فرد بما له وما عليه.
إن ما نحتاجه فعلا لمحاصرة العنف وتضييق مجاله في أفق القضاء عليه ( ان كان هذا ممكنا واقعيا) هو ترسيخ احساس عميق لدى الافراد بحقوقهم بما يجعلهم يرفضون كل انتهاك فيستنفرهم كل شكل من أشكال العنف،وهو الموقف الذي ينبغي ان يتعزز بتوفير الاليات القانونية الكافية للوقاية من العنف وتفعيلها لمعاقبة مرتكبيه.
من هنا نحتاج الى أن يحمل كل منا داخله قناعة مزدوجة:
قناعة تجعلنا نرفض أن نكون موضوعا لأي شكل من أشكال العنف،وهي قناعة تتأسس على إيماننا بقيمتنا كبشر وبحقوقنا كمواطنين.
وقناعة تجعلنا نمتنع عن ممارسة اي شكل من أشكال العنف ضد الآخرين،وهي قناعة تنبني لدينا تدريجيا عبر التربية والتنشئة الاجتماعية بجميع وسائطها،وتتعزز بوجود قوانين رادعة وتفعيلها على أرض الواقع.