الثلاثاء، 4 سبتمبر 2012

التسول...حاجة أم اختراع؟

 تشير بعض الاحصائيات الى وجود ازيد من نصف مليون مغربي يمتهنون التسول بشكل احترافي،رقم كهذا يثير القلق اذ يعتبر في نظر الكثيرين مؤشرا على تأزم الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية وفشل مخططات التنمية في احتواء حاجات الناس وتحسين ظروف عيشهم. وهو تحليل لا يجانب الصواب لكنه يختزل التسول في اعتباره ظاهرة بالمعنى الدوركهايمي،اي بالمعنى الذي يجعل كل تسول مشروطا بأسباب موضوعية خارجة عن ارادة الناس، بينما يمكن ان ينظر اليه كسلوك اجتماعي،والسلوك هنا محدد بوصفه استجابة الفرد النوعية للظروف التي تشرطه سواء كانت اجتماعية،اقتصادية، سياسية...او غيرها.انه رد فعل لكنه ليس آليا وحتميا بشكل كلي،انه رد فعل محتمل،بما يجعله في جانب منه خيارا للمتسولين،صحيح انه خيار على لائحة ضيقة جدا من الخيارات بالنسبة للبعض،لكنه قد يكون الخيار الأسهل بالنسبة للبعض الآخر،ولا يتعلق الامر هنا بالتحامل على المتسولين،اذ يمكننا ان نلاحظ بكل موضوعية ان تنوع أساليب التسول وخلفيات المتسولين تدعم هذا الطرح.فسلوك الاستجداء يصبح احترافيا ومدرا لدخل منتظم بالنسبة لفئة من المتسولين،وبقدر ما تتواجد جذوره في الممارسات اليومية بقدر ما يترسخ في ذهنية المتسول ليس فقط كخيار ممكن ولكن كخيار يمكن الدفاع عن مشروعيته،ولهذا يجري الابتكار في أساليب الاستجداء ولا يجد الممارس لهذا السلوك اي عيب في تعاطيه،فمن امرأة تستوقفك لطلب مساعدتك في اكمال ثمن تذكرة حافلة،الى رجل تجده من حين لآخر مغمى عليه (او يبدو مغمى عليه ان شئنا الدقة) والى جانبه وصفة طبية لمريض بالربو،الى شاب اصغر سنا يقدم لك لوحا عليه حروف بالكاد مقروءة ويطلب منك التبرع لطلبة مسجد ما في منطقة او دوار لم تسمع به من قبل...ويظهر الضيق على وجوه كل هؤلاء بمجرد اعتذارك عن تقديم المساعدة،والبعض منهم لا يتورع عن مهاجمتك بلسان سليط يجعلك عبرة لغيرك.
ان المشاهد التي نتحدث عنها هنا ليست مشاهد المتسول الذي اعتدنا على تواجده في جنبات الطرق وعلى ابواب المساجد بملابس رثة ووسخة تجعلك تصنفه بشكل آلي ما ان تقع نظراتك عليه،ان فئة المتسولين التي استرعت انتباهي للكتابة في الموضوع تهم اشخاصا بمظهر عادي وملابس نظيفة تصل حد الاناقة احيانا،ومع ذلك فما يستوقفون المارة من اجله هو في النهاية...تسول.نحن اذن إزاء تغير يكسر الصورة النمطية للمتسول والتي تعرفه في مظهر محدد (رث) وتفترض خلفية معينة ( الفقر) وتستنتج استمراره في تلك الوضعية الى ما شاء الله...ويحل محل هذه الصورة شكل جديد من المتسولين،أشخاص يقدمون انفسهم احيانا على انهم يعيشون ظروفا طارئة او استثنائية يمكن ان يكون ضحيتها اي منا.وتكرار مثل تلك المشاهد يجعلنا نتساءل: ما الذي يجعل من التسول خيارا لهؤلاء؟
وكما سبق التوضيح،لا يتعلق الامر هنا بتبرئة الدولة وتدبيرها للشأن الاقتصادي والاجتماعي،فمن المؤكد ان اتساع دائرة الفقر وتنامي البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة وغياب مشاريع تنموية حقيقية تهم الشرائح الاجتماعية الاكثر فقرا،كلها عوامل تشكل ارضية خصبة لتفشي الظواهر المرضية في اي مجتمع.
غير ان التسول ظاهرة معقدة تتداخل في ظهورها وانتشارها وتجذرها في الممارسات اليومية للافراد اسباب متعددة منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي،ويلزمنا التحليل الموضوعي بتسليط الضوء على الظاهرة من جميع جوانبها ومسبباتها.
هكذا يمكن القول ان نسق القيم والاعتقادات السائدة في جانب منه يلعب دورا في تجذر التسول كسلوك اجتماعي،وفي هذا الباب نستطيع القول انه حتى بعض القيم الايجابية كالتصدق والتبرع والتضامن يمكن ان تؤدي في اشكال تصريفها الواقعية الى عكس مضامينها.فاذا تناولنا مفهوم الصدقة مثلا،سنجد ان الاسلام يشجع الصدقة بمفهومها الشامل لكل اشكال العطاء المادية ( الانفاق في سبيل الله) والرمزية (ابتسامة المسلم في وجه اخيه صدقة) ويجعل منها شقا واجبا (الزكاة) يهدف الى خلق توازن في توزيع الثروات.غير ان التشجيع على الصدقة في الاسلام يوازيه تثمين لقيم الكد والجهد،فليس الهدف منها خلق شريحة اجتماعية من المنتفعين بثمرة جهد غيرهم،وانما الغرض منها خلق مجتمع متضامن متآخ.
ومن المؤسف ان الفهم المغلوط لدلالات الصدقة خلق لدى فئة من المسلمين سلوكا اتكاليا يركن الى الاعتماد على الغير،وهو سلوك يذكرنا في علم النفس بالشخصية الطفيلية التي تتميز باعتمادها الدائم على الاخرين للقيام بمهامها،ونزوعها الى استجداء العطف والتباكي على سوء الحال.
وينبغي ان نشير هنا الى ان لبعض حملات التضامن - والتي تجري تغطيتها اعلاميا على نطاق واسع- نصيب مهم في تكريس عقلية التواكل والاعتماد على الغير،فبغض النظر عن عجزها عن حل مشاكل الفقر والجوع لدى الفئات المستهدفة،فان تلك الحملات(بتكرار مشاهد الاعانات الموزعة امام عدسات الكاميرا) تحول المستفيد الى شخص قابل سيكولوجيا لان يعال من طرف غيره.
وبالموازاة مع تراجع قيم الكفاح والكد والنجاح المستحق،تبرز قيم "الغفلة" و "التشلهيب" والانتهازية التي تجد في كل ركن فاسد في المجتمع مناخا ملائما لتتجذر وتنمو،فتتعاظم قيمة الجواب عن سؤال:ماذا تملك؟وكم تكسب؟ مقابل الاختفاء التدريجي لاسئلة: من اين لك هذا؟ وكيف حصلت عليه؟
يمكن تفسير التسول اذن كنزوع سيكولوجي للاعتماد على الغير يجد تشجيعا اجتماعيا سياسيا ودينيا،انه سلوك بعيد كل البعد عن اسلوب حل المشاكل وتحمل المسؤوليات،وذلك لحسن حظ القائمين على تدبير الشأن العام،فعندما يتوقف الناس عن إذلال انفسهم بالتسول باعاقاتهم وامراضهم ومختلف ظروف حياتهم،عندما يدركون انهم لا يفلحون في تحسين ظروف عيشهم مهما بذلوا من جهد، من المؤكد انهم سيلتفتون للتساؤل عما يعيق رفاههم،والبحث عن طرق لمحاسبة كل فاسد وكل منتفع بالمال العام.لكنهم على ما يبدو يفضلون –الى الان- طريق الابداع في النصب والاحتيال كما يفعل غيرهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق