الأربعاء، 19 أكتوبر 2016

لو تعرفين...



تحكي أسطورة يونانية قديمة عن بطولة إله غامر بتقديم النار المقدسة الى البشر و واجه مصيرا مأساويا كعقاب له على إنهاء احتكار الآلهة للحكمة و المعرفة،أسطورة بروميثيوس هذه لا تكشف فقط عن تفسير الاغريق القدماء لمنشأ المعارف بل تشير ايضا الى حقيقة تدعمها الكثير من الوقائع التاريخية: هناك دوما من يسعى الى حماية أسرار  المعرفة  و جعلها حكرا على قلة قليلة من الناس.حتى مع مرور قرون على ظهور الكتابة و التدوين لم يتم كسر هذا الاحتكار بشكل كلي، و هو ما يشير إليه امبرتو ايكو في روايته  "اسم الوردة" التي  تحدثت عن  سعي بعض رجال الكنيسة  الى منع انتشار محتوى بعض الكتب والمخطوطات بما يجعلهم المرجع الوحيد لتفسير الكتب المقدسة.
من الواضح إذن ان المعرفة تتيح شكلا من السلطة و السيطرة، وهي سلطة تتجاوز حدود ما أشار اليه الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون عندما تحمس الى بناء معرفة دقيقة عن الطبيعة من أجل تسخيرها لخدمة الجنس البشري، إذ بالنسبة للكثيرين يتعلق الامر بما هو اكثر من تسخير الأشياء، اي تسخير بشر لخدمة بشر آخرين.
في مجتمعاتنا الحالية حيث تتوفر وسائط الحصول على المعلومة أكثر من أي وقت مضى يبقى احتكار المعرفة  واقعا ملموسا أكثر من أي وقت مضى أيضا، يمكن للحقيقة ان تضيع بسهولة في زخم التصريحات والتحليلات والأفكار،كما انها توجد طوال الوقت جنبا الى جنب مع الأوهام و الأخطاء والافكار المزيفة بإتقان، إنها ضوضاء عارمة مغايرة تماما لما كان عليه الأمر قبل قرون، حيث كانت المواضيع المحرمة تناقش بسرية و تكتم شديدين، وكان المسكوت عنه بمجرد طرحه للنقاش يكشف عن أوجه الحقيقة الغائبة.
اليوم، تتيح التقنيات الحديثة امكانيات واسعة لنشر و تداول المعرفة،و يمكن لأي فرد ان يدلي برأيه في اي قضية،وإذا كان هذا يوحي للوهلة الأولى بتحرر المعرفة من أشكال الوصاية و السيطرة فإنه في العمق و بشكل مفارق يعكس الحاجة الى تحرير المعرفة،تحريرها من أشكال التبسيط والاختزال والتضليل، نحن في عالم يمكن فيه للأشخاص ان يتحدثوا كثيرا و يناقشوا -بكل حماس- موضوعا ما وذلك تحديدا بنية عدم قول أي شيء.ابسط مثال على ذلك ما تفعله وسائل الاعلام غير المحايدة عندما تحلل  قضية ما من جميع الجوانب و تتيح منبرا لكل من لا منبر له مع كامل الحرص على ان تظل الحقيقة المنشودة من طرف المواطن هي بالضبط الاقل حظا بالظهور على السطح.
ان كان انتاج ونشر و تداول المعارف يقع في صلب انشغال المهتمين بتحقيق الديمقراطية و منح الشعوب معطيات كافية لاتخاذ قرارات حرة عن بينة و دراية كافيين، فإن الامر لا يختلف كثيرا على مستوى الفرد المتعين، على مستواكِ انتِ.ما تعرفينه يمنحك خيارات أكثر لكي تقرري اي حياة تريدين، و مع من و كيف تريدينها.و رغم أن المعرفة تأتي أحيانا في نفس الطرد مع شقاء الوعي ببعض المشكلات التي نرتاح أكثر لو كنا على جهل بها، فإن متعة إيجاد المعنى، وخلقه عندما لا يوجد لا يمكن ان تقارن بحالة السلام الساذج التي يعيشها البعض الى ان تكسرها  أحداث تتجاوزهم و تضعهم بشكل غير مفهوم (لهم) تحت رحمتها.
ان تعرفي يعني ان تكوني قادرة على فعل شيء بما يُفعَل بك، لا شيء ولا أحد قادر على تطويعك لمصير حتمي، لا سبيل الى جعلك فردا في قطيع يردد لازمة ليست من تأليفك ولا من تلحينك، لازمة حتى عند أدائها يضيع صوتك بين جموع المغنين، ان تعرفي يعني ان تكوني حرة و حاضرة بشكل أصيل يعبر عنك.
تذكري و انت تقطعين كل يوم طريقك الى الثانوية او الجامعة حيث تدرسين أن الطريق الى الحرية و الكرامة قد تكون صعبة و موحشة وقاسية لكنها ليست طريقا للجهال بأي حال.وحدهم من يغالبون ضعفهم أمام سلطة العادة والسطحي من الافكار والتعبية للآخرين يصلون الى تذوق حلاوة الانتصار فيها، لهذا "متعطيش عقلك لغيرك".
تذكري و انت في منزلك او مقر عملك او اي مكان آخر تصطبرين على فهم غموض الأفكار، وانت تغالبين رغبتك ب" قتل الوقت" في الاهتمام ب"لاشيء" و تقررين بدلا عن ذلك تشذيب حديقة معارفك ، ان العالم ملك لمن يعرف أكثر، وان كنت لا تطمحين الى امتلاك العالم، فمن المؤكد انك لن تتخلي عن امتلاك الحق في أمورك الخاصة البسيطة، كأن تكوني واحباؤك بمأمن وبصحة جيدة، وان ينتج ما تستهلكونه بطرق آمنة و عادلة، و سيكون عليك ان تقرئي في مجالات الاقتصاد والسياسة و البيئة وغيرها  لكي تعرفي لماذا ليس من السهل إحقاق حقوق بسيطة كهذه.ان تعرفي يعني-من ضمن ما يعنيه- ان تضمي صوتك لمن ينادون بعالم أفضل، عالم تسخر خيراته للإنسان وليس عالما يسخر فيه الإنسان لخدمة جشع و نزوات الإنسان.
تذكري فقط عندما يشتد ضجيج التحليلات و الافكار وأشكال الإلهاء القادمة من هنا وهناك ان توفري لعقلك مساحة كافية لكي يفكر بهدوء واستقلالية،فهو يحتاج الى هذا لكي يبهرك بألمعيته.
وتذكري ان لحديث القوارير بإذن الله بقية

الاثنين، 19 سبتمبر 2016

ثورات صغيرة


 
ننظر أحيانا الى ما يحيط بنا و نشعر أن كثيرا من الأشياء بحاجة الى تغيير،تغيير حقيقي، تغيير عميق و جذري،نتأمل كل شيء و بشكل ما، ننتهي احيانا كثيرة الى قناعة مفادها ان هذا التغيير يحتاج الى رياح قوية تعصف بكل شيء،الى طوفان يقتلع كل شيء و ننسى أن أبهى الحقول قد تثمر من زخات مطرية خفيفة،و أن أعظم الثورات تبدأ حيث يقف كل واحد منا، و أنها لا  تكون بالضرورة ثورة واحدة كاسحة بل قد تتحقق على شكل ثورات صغيرة.
يتوجه رجل الى أقرب مدرسة لتسجيل ابنته الصغيرة، و لأنه في مجتمع متشدد إزاء تعليم الفتيات فإن سلوكه هذا ثوري بالقدر الذي ينتزع فرصة للتعلم ليس لابنته فقط و لكن لكل بنات جنسها.
عندما تصبح المزيد من النساء قادرات على القراءة و الكتابة و ترتدن مؤسسات التعليم بما فيها الجامعية منها، تدرك البعض منهن ان حقهن في المعرفة لا يقف عند شهادة جامعية و قد لا يتطلبها بالضرورة، فتجعلن من القراءة سلوكا يوميا لأن المعركة التي تبدأ ضد الأمية و الجهل تظل قائمة دوما ضد الكسل الفكري و صناعة الجهل و صنوف التضليل.
في الفضاء العام، تتناول سيدة وجبتها في مطعم، وتحتسي أخرى فنجانها في مقهى، و تقرأ ثالثة كتابها مقتعدة كرسيا في حديقة ، لا تقوم كل واحدة من هؤلاء النسوة بتكسير النمط التقليدي الذي يجعل الفضاء العام حكرا على الرجال فقط، فالمرأة في كل منهن حررت نفسها -الى جانب ذلك- من اعتبارها موضوعا جنسيا،إذ بإمكانها التواجد في الفضاءات العامة كمواطنة يحق لها التنقل والترويح عن نفسها دون أن تبحث أو تتوقع لفت انتباه أحدهم.
في البيت، تعيد النساء  انتاج نفس نمط ربة البيت التقليدية التي تفني وقتها في خدمة الجميع و عدد منهن يدربن بناتهن لكي يصرن جاهزات لأداء الدور نفسه في منازل أزواجهن المستقبليين، نساء أخريات يحاولن تحطيم هذا التوزيع التقليدي للمهام بجعل أزواجهن و أبنائهن الذكور يساعدون في امور البيت، والرهان الحقيقي في هذا الباب ليس جعل الرجل يحمل مكنسة ولكن ترسيخ مبدأ التعاون في الحياة المشتركة، إنها معركة ضد اتكالية و أنانية البعض و نزوعهم الى استغلال البعض الآخر بغض النظر عن الجنس.
في سن الخمسين أو أكثر وبعد تجربة زواج أو أكثر تعثر سيدة أخيرا على الشريك المناسب ثم تبدأ من جديد، فالحق في السعادة ليس حكرا على شريحة عمرية معينة،وأهم من ذلك:ليس هناك سن محددة تتوقف فيها أنوثة المرأة عن الوجود. تحتفي شابة بزفافها دون حفل فهي ليست بحاجة الى فرقة موسيقية او "نكافة" لإعلان فرحتها وليس لديها ما تثبته لأحد.وتفضل ثالثة لقب العانس على زواج تعيس أو شراكة غير مرضية،فما يعتقده الآخرون في النهاية يعبر عنهم لا عنها.
عندما تخططين لثورتك الصغيرة،تذكري أن معركتك ليست ضد الرجل فهو في مجتمع كالذي نعيش فيه،كائن هش وقلق مثلك تماما،و ليست ضد الآخرين أيا كانوا، إنها معركة ضد سلوكات معيبة،وتحديدا ضد المبادئ التي تحكم تلك السلوكات، وإذا لم تتصرفي وفق مبدأ مختلف و منصف ستنتجين سلوكات مماثلة لما انتقدته في البداية، في العلاقة بين الحماة و زوجة الابن مثلا استطاعت الزوجات التحرر من علاقة تنمحي فيها شخصية الواحدة منهن، علاقة تقضي بأن لا يكون لها رأي في شؤون منزلها ولا ينتهي إقصاؤها إلا بوفاة حماتها، غير أن البديل بالنسبة للكثيرات هو إقصاء الحماة من حياة ابنها لدرجة تصل معها أحيانا الى وضعها في دار للرعاية الاجتماعية للتخلص منها نهائيا،ومن المؤكد أن زوجة الابن هنا لا تفكر في احتمال تخلص فلذة كبدها منها هي نفسها بالطريقة ذاتها لاحقا،ومن المؤكد أيضا انها لا تطرح ثورتها موضع تساؤل.
من السهل أن يتيه المرء عن الطريق التي خطط للمضي فيه بكل ثقة، ننتقد الأزياء التي تصمم وفق مبدأ يجعل المرأة مجرد موضوع للإشباع الجنسي،إذ يعاب على البرقع مثلا كونه صمم لحجب جسد المرأة باعتبارها موضوع فتنة،لكن المبدأ نفسه يحضر في تصميم الملابس الأكثر "حداثة" والتي صممت لتحقيق ثورة تحرر النساء، فهي تعرض لكل سنتمتر في جسد المرأة بشكل يجعله يؤدي غرضا واحدا: الفتنة و الغواية.و من ثمة فالملابس الأكثر حجبا و الاكثر عريا تتفق حول المبدأ نفسه: هذه المرأة بالأساس موضوع إثارة وإشباع جنسي.
يقال أن الثورة تأكل أبناءها و الثوارت الصغيرة ليست استثناء فهي ايضا قد تبتلعك في بحر من التفاصيل ان لم تكوني بالحكمة الكافية لكي تذكري نفسك في كل لحظة: أين بدأت وإلى أين أريد الوصول؟
قد تعتقدين أن ثورتك تبدأ بكلمة "لا"  شجاعة و جريئة،لكنها في الواقع تبدأ بشجاعتك وجرأتك مع ذاتك أولا، فنحن لا نستفيد دوما وبشكل مباشر من التغيير الذي يحصل حولنا،وكلما دربت نفسك على الإنصاف كانت شرارة الثورة الصغيرة كافية لكي تلهم الآخرين بعوالم أخرى ممكنة،عوالم أفضل مما كان.
تذكري وانت تخططين لثورتك الصغيرة ان تصمميها ليس لجعل حياتك وحدها أفضل بل لجعل الحياة بعدك أفضل، فأنت ستفتحين طريقا سيسلكها حتما أناس آخرون بعدك،فإن كانت طريقا للتيه تاه معك الجميع، وإن كانت طريقا نحو إنسانية أرقى ترقى بفضلك الجميع.















الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

لماذا يا خديجة؟




أحاول أن أتصور ما حدث في ذهن و وجدان فتاة نتحدث عنها اليوم بضمير الغائب، دون ان نكون واثقين تماما من الغائب في هذه الحكاية.
أحاول ان أتذكر معنى ان تكوني مراهقة تتوق الى الاستقلالية والى ان تعيش بشكل مختلف،ان تتشكل في ذهنك صورة تدريجية عنه وعن ملامحه،  عن ذاك الذي سيجعل منك بطلة مسلسلك الخاص و توقعين معه تلك النهاية السعيدة التي لطالما حلمت بها.
 هل هذا ما جعلك تغادرين منزل والدتك في سن يافعة جدا يا خديجة؟ احاول ان اتخيل ما شعرت به و انت تكتشفين لأول مرة قسوة العالم عندما نواجهه بعقول ساذجة، عزلا تماما من كل معرفة أوخبرة.
قصص الواقع مؤلمة يا خديجة لأنها حقيقية،مع بطلات  التلفزيون هناك دوما طريق للسعادة يقرره المخرج وكتاب السيناريو في نهاية المسلسل، أما أنت  فضِعتِ مبكرا في تفاصيل قصتك دون ان ينجدك كاتب او مخرج بنهاية سعيدة.
ماذا عن قطيع الذئاب؟ هل وقع اختيارهم عليك عشوائيا ام كنت الضحية المثالية؟ الفتاة التي سبق لها التعرض للاغتصاب، الأم العازبة التي تقيم بعيدا عن عائلتها والتي فقدت طهرها الى الأبد هي ضحية مثالية لاغتصاب جماعي يتم توثيقه بالفيديو لابتزازها لاحقا..
بت تعرفين معنى ان تتعرضي للاغتصاب مرة، وان تحملي بطفل مجهول الأب مرة، في هذا المجتمع الغارق في تناقضاته، صرت حرثا محتملا لكل الجياع الذين تصادفينهم،دون ان يكون من حقك -و انت الموصومة المدنسة الى الأبد- حق الرفض.
لكنهم لم يكتفوا من اغتصابك و شرعوا يبتزونك، ما الذي دار بخلدك ساعتها يا خديجة؟
في عالم آخر كنت ربما لتنجحي بتدخل طبيب او اخصائي في تضميد جراح الروح قبل الجسد
في عالمنا تُركتِ للملمة شظايا روحك،كما يفعل الضحايا دوما في كل قصة موجعة من أخبار الوطن،تهترئ أرضه كل يوم تحت أقدامكم و تضيق سماؤه بكم،وهو في دعوى كل منكم قاض وطرف.
في عالم آخر كنت ربما لتحظي بفرصة ثانية، بداية أخرى تجعل منك ببعض الصبر والمثابرة المرأة التي تستحق كل أنثى ان تكونها.
في عالمنا عاجلوك بسكاكينهم،فكل امرأة بالنسبة إليهم مجرد بقرة ينتظرون سقوطها لكي يجهزوا عليها.
بت تعرفين هذا العالم جيدا يا خديجة،فقد خبرت أسوأ ما فيه مبكرا جدا،بت تعرفين كم يمكن لضحية الاعتداء ان تعاني من ألسنة الناس ونظراتهم كل يوم، فهم يبحثون طوال الوقت عما يدينك في الاعتداء عليك.
و مغتصبوك يبتزونك بفيديو الاعتداء، كنت تعرفين كم نحن شرهون عندما يتعلق الأمر بأخبار الفضائح، وكيف يمكن ان تتحولي الى نجمة في فيلم إباحي بنقرة، كنت تعرفين ان الذين سيرون الفيديو على تطبيقات الواتساب او الفيسبوك لن يترددوا لحظة في نشره وقد يجودون عليك بتعليق متحسر و إيموتيكون حزين،كنت تعرفين ان المعتدين قد أطلق سراحهم في حين سجنتِ الى الأبد في قذارة الاعتداء عليك، كنت تعرفين أن يومين من الاعتداء المدمر ستصبح عمرا من الاحتقار و الوضاعة،كنت تعرفين انه لا بدايات جديدة بعد الاعتداء والفضيحة، فالموصومة لا تثير اهتمام الا المزيد من الجياع، كنت قادرة على قراءة هذا المستقبل في عيون من عرفوا بحكايتك و لذلك اخترت المغادرة و قد حرقت بقايا ذلك الجسد الذي تم تدنيسه..الا يقولون أن آخر الدواء الكي؟ انت لم تتركي شبرا في جسدك بدون كي يا خديجة..كي عميق بعمق آثارهم عليه.
لو كنا في عالم إنساني لوجدنا الكلمات المناسبة لكي نخبر المغتصبة ان المعتدي و قد نال من جسدها لا ينبغي ان ينال من روحها أيضا، وأنه و قد جعلها وعاء لرغبة حيوانية بهيمية  في لحظة او لحظات لا ينبغي ان ينجح في اغتيال إنسانيتها، لو كنا في عالم إنساني لقلنا لها: "ما فعله بك لا يعكس من أنت،بل يعبر عما هو عليه، عن حيوانيته المنحطة، ارفعي رأسك وانهضي و قاومي وانتصري على هذا المسخ بأن تعيشي كامرأة كريمة قوية، اصرخي في وجه من يمططون شفاههم أسفا عليك بأن ينشغلوا عنك بتربية أبنائهم على احترام كرامة و إنسانية الإنسان فلربما قل عدد المغتصبين والمعتدين، انظري بثبات في عيون كل متحرش  وانطقي "لا" بكل ثقتك في قيمتك الانسانية" ،لو كنا في عالم إنساني، لوجدنا صعوبة في إيجاد كلمات نضمد بها ما فعلته بك تلك الذئاب الجائعة، لوجدنا صعوبة في فهم سلوكهم الذي لا نظير له حتى في عالم الحيوان.
في عالمنا هذا يا خديجة، تركناك لمصيرك، لم يتطوع أحد للدفاع عنك فأنت لست صاحبة التنورة،مثل الكثيرين على هذه الارض انت كنبتة نمت من تلقاء نفسها بدون رعاية من صاحب الحقل، انت واحدة من الذين حلوا بهذا الوطن خطأ، فهو ليس مهيئا لاستقبالكم ولا لوداعكم كما تستحقون.





الأربعاء، 3 أغسطس 2016

بقعة ضوء



أتأمل صغار مختلف الأنواع الحيوانية وأفكر أن ثمة سببا لمشاعر العطف التي تنتابنا تجاههم، نحن نستشعر تلقائيا ضعفهم إزاء المخاطر التي يعج بها العالم الخارجي،وإذا كان صغار الحيوانات يولدون جاهزين تقريبا للمضي في الطبيعة وفق ما تمليه عليهم برمجتهم البيولوجية، فإن صغار البشر يولدون أكثر ضعفا و هشاشة، ويكون عليهم -وهم يكبرون شيئا فشيئا- التعامل مع عالم يتداخل فيه الإرث البيولوجي بالإرث الثقافي ،عالم تختلط فيه نجاحات البشر الباهرة بإخفاقاتهم الذريعة، وخبراتهم المتراكمة  التي لا تمنع مع ذلك من تكرار الأخطاء نفسها عبر تاريخ البشرية الطويل.
يكون كل بشري مدفوعا بشكل غريزي لإيجاد شريك،فهو مبرمج بيولوجيا على التناسل من أجل إعادة انتاج نوعه مثل اي حيوان آخر، لكنه خلافا لأي حيوان آخر يقوم بتنشئة صغاره و تربيتهم، إذ أي معرفة يملك الطفل حديث الولادة عن الخير والشر؟ عن الخطأ و الصواب؟ عن حقوقه ؟ عن واجباته تجاه الآخر؟ عن موقعه في الوطن؟ عن موقعه في الوجود؟ عن دوره في كل ذلك؟
عندما نقوم بالتنشئة فإننا في الواقع نمرر لصغارنا صورة عن العالم كما صنعناه نحن، كما صنعته خياراتنا اليومية، بنفس ترتيب أولوياته،من الأكثر اهمية الى الأقل اهمية وصولا الى الأمور غير المفكر فيها أصلا، ولأن طبيعة العالم المعاصر بتقنياته الحديثة وطرق التواصل فيه هدمت الخصوصية التي كنا نتخفى بفضلها و كشفت الجميع للجميع،فقد انكشف الكبار امام الصغار مبكرا،قبل أن يستطيع هؤلاء الصغار فهم او تفهم خيارات الكبار،و قبل ان يحظوا بفرصة لكي يتعلموا ان هناك عوالم أخرى ممكنة.
عندما كان الناس أكثر حساسية تجاه الأحاديث التي يسمح للأطفال بالاستماع اليها او المشاركة فيها او تجاه الصور والأحداث التي يسمح لهم بأن يكونوا شهودا عليها،لم يكن الأمر يتضمن مجرد وصاية الراشدين على الأفراد الأصغر سنا، لم يكن الأمر يتعلق فقط بحمايتهم من خوض تجارب لا قبل لهم بفهمها او استيعابها لحداثة سنهم، جزء من هذا السلوك الحمائي يتعلق بمنحهم الحق في نمو فيزيولوجي و نفسي طبيعي و سوي، بمنحهم الفرصة لاكتساب مبادئ و معايير يرتكزون عليها في خياراتهم المستقبلية، وبها يتعرفون ما هو خطأ و ما هو صواب، ما هو عدل وما هو ظلم، ما هو حق لهم وما هو حق للغير.
في واقعنا المعيش نجد المزيد من الآباء يتكشفون أمام صغارهم بكل التيه والضلال الممكنين، فالصغار يعرفون منذ البداية كل شيء عن كل شيء، عن الكذب،عن الخيانة،عن العلاقات غير الشرعية، عن صنوف المواد المخدرة،عن العنف،عن السرقة، واللائحة تطول...
ما هي حظوظ طفل ولد لأب او لأبوين مدمنين في ان يعيش طفولة سوية؟ بأي تعاقد نقنع مراهقا نشأ في محيط ذوي السوابق الجنائية أن ملكية الآخر و حياة الآخر و أمن الآخر حقوق مقدسة؟ كيف نشرح له وجود حرمات لا ينبغي انتهاكها اذا كانت حرمة جسده قد انتهكت مبكرا جدا و قبل حتى ان يعي ما يحدث معه؟
يرتكب الكبار الأخطاء،فالخطأ بشري، يمكن للضعف البشري ان يسقط الإنسان في الحضيض، لكن ما معنى ان ننتج شهودا صغارا على سقوطنا؟ حتى ان كنا قد وجدنا أنفسنا بلا اختيار في بيئة هشة و غير آمنة لنا نحن الكبار، لماذا نقحم فيها أطفالا صغارا عن سبق إصرار؟
ليست هذه دعوة للامتناع عن الإنجاب، لكنها دعوة لمساءلة الذات قبل اتخاذ قرار الإنجاب، "يمكن لأي معتوه ان يجعل المرأة تحمل طفله، لكن ان تكون أبا فهذا يتطلب رجلا حقيقيا" هي عبارة سمعتها في احد الافلام السينمائية وهي في الواقع تصدق على الرجال كما تصدق على النساء، قدرة الشخص على الانجاب لا تعني بالضرورة انه مؤهل لنقل الارث البشري الى الأجيال القادمة،لا تعني أنه يصلح أبا أو أما،جزء من المسؤولية الأخلاقية التي نحملها إزاء الأبناء قبل إنجابهم هو أن نسائل أنفسنا بصراحة: أي عالم أعددنا لقدومهم؟ وأقصد هنا عالمنا الخاص، حيث خياراتنا اليومية، فالعالم الكبير الذي يبدو  كما لو كان مستقلا و مفروضا علينا هوفي الواقع مجموع العوالم الصغيرة التي يصنعها البشر هنا وهناك على رقعة هذا الكوكب.فهل اختار كل واحد منا أن يكون إنسانا أفضل قبل ان يبحث عن شريك و يشرع في بث سلالته؟

لدينا إرث بشري ضخم من التقنيات والأدوات تجعل حياة ملايين البشر أسهل لكنها لا تجعلهم اناسا أفضل.لهذا فالإنسان الأفضل لا يتعلق بكم نمتلك ولا ماذا نمتلك؟
ربما يتعلق أساسا بقدرتنا على تدبير الضعف البشري،و على الخروج منتصرين من معاركنا ضده، فالضعف أمام مشاعر التملك والغضب والأنانية والكراهية و الغيرة والانتقام والخوف ينتج الكثير من السلوكات المعيبة، انها مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه الأجيال المقبلة، ان نكون قادرين على كبح جماح انانيتنا كي يحظى الآخر بما هو حق له، أن ننتج الأشياء و نبقيها دوما أشياء نتملكها ونسخرها لخدمة الانساني فينا لا ان نسمح لها بتملكه وتسخيره، ان نوجه الغضب للتغيير وليس للتدمير، ان نقف على الحياد عندما نعجز عن الحب والا نتخطى الحدود نحو كراهية الآخر،ان نتجاوز الخوف وذلك بفعل ما ينبغي فعله وقول ما ينبغي قوله.
ان ما يحتاجه منك العالم الإنساني الكبير هو ان تشيد في عالمك الصغير منارة قادرة على ان  تضيء العتمة الأخلاقية التي غرقنا فيها جميعا، بقعة ضوء تجذب اليها التائهين عن إنسانيتهم، كل ما عليك هو ان تتذكر ان مولد الطاقة في هذه المنارة ليس إلا انت، فإن نظرت داخلك و لم تجد إلا العتمة، فأنت لست جاهزا بعد لإنارة الطريق لأطفالك.
حديثنا اليوم لكِ كما لكَ، لأن نقل الموروث البيولوجي مهمتكما معا و صنع ونقل الموروث الإنساني مسؤوليتكما معا.
و يبقى لحديث القوارير بإذن الله بقية