الأربعاء، 3 أغسطس 2016

بقعة ضوء



أتأمل صغار مختلف الأنواع الحيوانية وأفكر أن ثمة سببا لمشاعر العطف التي تنتابنا تجاههم، نحن نستشعر تلقائيا ضعفهم إزاء المخاطر التي يعج بها العالم الخارجي،وإذا كان صغار الحيوانات يولدون جاهزين تقريبا للمضي في الطبيعة وفق ما تمليه عليهم برمجتهم البيولوجية، فإن صغار البشر يولدون أكثر ضعفا و هشاشة، ويكون عليهم -وهم يكبرون شيئا فشيئا- التعامل مع عالم يتداخل فيه الإرث البيولوجي بالإرث الثقافي ،عالم تختلط فيه نجاحات البشر الباهرة بإخفاقاتهم الذريعة، وخبراتهم المتراكمة  التي لا تمنع مع ذلك من تكرار الأخطاء نفسها عبر تاريخ البشرية الطويل.
يكون كل بشري مدفوعا بشكل غريزي لإيجاد شريك،فهو مبرمج بيولوجيا على التناسل من أجل إعادة انتاج نوعه مثل اي حيوان آخر، لكنه خلافا لأي حيوان آخر يقوم بتنشئة صغاره و تربيتهم، إذ أي معرفة يملك الطفل حديث الولادة عن الخير والشر؟ عن الخطأ و الصواب؟ عن حقوقه ؟ عن واجباته تجاه الآخر؟ عن موقعه في الوطن؟ عن موقعه في الوجود؟ عن دوره في كل ذلك؟
عندما نقوم بالتنشئة فإننا في الواقع نمرر لصغارنا صورة عن العالم كما صنعناه نحن، كما صنعته خياراتنا اليومية، بنفس ترتيب أولوياته،من الأكثر اهمية الى الأقل اهمية وصولا الى الأمور غير المفكر فيها أصلا، ولأن طبيعة العالم المعاصر بتقنياته الحديثة وطرق التواصل فيه هدمت الخصوصية التي كنا نتخفى بفضلها و كشفت الجميع للجميع،فقد انكشف الكبار امام الصغار مبكرا،قبل أن يستطيع هؤلاء الصغار فهم او تفهم خيارات الكبار،و قبل ان يحظوا بفرصة لكي يتعلموا ان هناك عوالم أخرى ممكنة.
عندما كان الناس أكثر حساسية تجاه الأحاديث التي يسمح للأطفال بالاستماع اليها او المشاركة فيها او تجاه الصور والأحداث التي يسمح لهم بأن يكونوا شهودا عليها،لم يكن الأمر يتضمن مجرد وصاية الراشدين على الأفراد الأصغر سنا، لم يكن الأمر يتعلق فقط بحمايتهم من خوض تجارب لا قبل لهم بفهمها او استيعابها لحداثة سنهم، جزء من هذا السلوك الحمائي يتعلق بمنحهم الحق في نمو فيزيولوجي و نفسي طبيعي و سوي، بمنحهم الفرصة لاكتساب مبادئ و معايير يرتكزون عليها في خياراتهم المستقبلية، وبها يتعرفون ما هو خطأ و ما هو صواب، ما هو عدل وما هو ظلم، ما هو حق لهم وما هو حق للغير.
في واقعنا المعيش نجد المزيد من الآباء يتكشفون أمام صغارهم بكل التيه والضلال الممكنين، فالصغار يعرفون منذ البداية كل شيء عن كل شيء، عن الكذب،عن الخيانة،عن العلاقات غير الشرعية، عن صنوف المواد المخدرة،عن العنف،عن السرقة، واللائحة تطول...
ما هي حظوظ طفل ولد لأب او لأبوين مدمنين في ان يعيش طفولة سوية؟ بأي تعاقد نقنع مراهقا نشأ في محيط ذوي السوابق الجنائية أن ملكية الآخر و حياة الآخر و أمن الآخر حقوق مقدسة؟ كيف نشرح له وجود حرمات لا ينبغي انتهاكها اذا كانت حرمة جسده قد انتهكت مبكرا جدا و قبل حتى ان يعي ما يحدث معه؟
يرتكب الكبار الأخطاء،فالخطأ بشري، يمكن للضعف البشري ان يسقط الإنسان في الحضيض، لكن ما معنى ان ننتج شهودا صغارا على سقوطنا؟ حتى ان كنا قد وجدنا أنفسنا بلا اختيار في بيئة هشة و غير آمنة لنا نحن الكبار، لماذا نقحم فيها أطفالا صغارا عن سبق إصرار؟
ليست هذه دعوة للامتناع عن الإنجاب، لكنها دعوة لمساءلة الذات قبل اتخاذ قرار الإنجاب، "يمكن لأي معتوه ان يجعل المرأة تحمل طفله، لكن ان تكون أبا فهذا يتطلب رجلا حقيقيا" هي عبارة سمعتها في احد الافلام السينمائية وهي في الواقع تصدق على الرجال كما تصدق على النساء، قدرة الشخص على الانجاب لا تعني بالضرورة انه مؤهل لنقل الارث البشري الى الأجيال القادمة،لا تعني أنه يصلح أبا أو أما،جزء من المسؤولية الأخلاقية التي نحملها إزاء الأبناء قبل إنجابهم هو أن نسائل أنفسنا بصراحة: أي عالم أعددنا لقدومهم؟ وأقصد هنا عالمنا الخاص، حيث خياراتنا اليومية، فالعالم الكبير الذي يبدو  كما لو كان مستقلا و مفروضا علينا هوفي الواقع مجموع العوالم الصغيرة التي يصنعها البشر هنا وهناك على رقعة هذا الكوكب.فهل اختار كل واحد منا أن يكون إنسانا أفضل قبل ان يبحث عن شريك و يشرع في بث سلالته؟

لدينا إرث بشري ضخم من التقنيات والأدوات تجعل حياة ملايين البشر أسهل لكنها لا تجعلهم اناسا أفضل.لهذا فالإنسان الأفضل لا يتعلق بكم نمتلك ولا ماذا نمتلك؟
ربما يتعلق أساسا بقدرتنا على تدبير الضعف البشري،و على الخروج منتصرين من معاركنا ضده، فالضعف أمام مشاعر التملك والغضب والأنانية والكراهية و الغيرة والانتقام والخوف ينتج الكثير من السلوكات المعيبة، انها مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه الأجيال المقبلة، ان نكون قادرين على كبح جماح انانيتنا كي يحظى الآخر بما هو حق له، أن ننتج الأشياء و نبقيها دوما أشياء نتملكها ونسخرها لخدمة الانساني فينا لا ان نسمح لها بتملكه وتسخيره، ان نوجه الغضب للتغيير وليس للتدمير، ان نقف على الحياد عندما نعجز عن الحب والا نتخطى الحدود نحو كراهية الآخر،ان نتجاوز الخوف وذلك بفعل ما ينبغي فعله وقول ما ينبغي قوله.
ان ما يحتاجه منك العالم الإنساني الكبير هو ان تشيد في عالمك الصغير منارة قادرة على ان  تضيء العتمة الأخلاقية التي غرقنا فيها جميعا، بقعة ضوء تجذب اليها التائهين عن إنسانيتهم، كل ما عليك هو ان تتذكر ان مولد الطاقة في هذه المنارة ليس إلا انت، فإن نظرت داخلك و لم تجد إلا العتمة، فأنت لست جاهزا بعد لإنارة الطريق لأطفالك.
حديثنا اليوم لكِ كما لكَ، لأن نقل الموروث البيولوجي مهمتكما معا و صنع ونقل الموروث الإنساني مسؤوليتكما معا.
و يبقى لحديث القوارير بإذن الله بقية 








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق