الأربعاء، 5 أغسطس 2015

فوضى القصاص




تحكي بضع صفحات من رواية "زمن الأخطاء" لمحمد شكري عن تفاصيل مريعة للفوضى او "السيبة" التي اجتاحت  مناطق من المغرب فجر الاستقلال،حيث كان التخوين والتعذيب و التقتيل سلوكا ينخرط فيه الافراد بشكل عفوي و  دون ادنى تفكير.
اتذكر هذا وانا اقرأ على مواقع التواصل الاجتماعي -بالصور احيانا- أنباء من هنا وهناك عن مواطنين يضربون لصا  ويفقأون عينيه او يرجمون آخر حتى الموت. ربما تعودت أبصارنا على جثث القتلى و مشاهد الدماء المتناثرة على صفحات الجرائد و القنوات الفضائية لكن ضمائرنا ينبغي الا تطبع مع كل هذا و  ان تبقى دوما يقظة لتطرح التساؤل حول ما حدث و يحدث..
ان يتدخل المواطنون بأنفسهم جماعة لمعاقبة "مجرم" او "جان" في دولة لها مؤسساتها و قوانينها فهذا مما يجب التوقف عنده بالكثير من الجدية،ليس فقط لأن عقوبتهم تجاوزت بكثير طبيعة الاعتداء (فقأ العينين والقتل من أجل سرقة) ولكن لأننا بصدد سلوك يفرغ الدولة من كل معنى و يغيب صفة المواطنة ليجعل الافراد تحت رحمة بعضهم بعضا.
ولا أكتب هذا لكي أسجل شكلا من أشكال التعاطف مع اللصوصية او الاجرام،بعيدا عن هذا على العكس من ذلك،لكنها دعوة للتفكير في مسببات سلوك المقتصين و أبعاده.دعوة الى التفكير كمواطنين في صورة أقل وحشية لمغرب لم نرد له ان يكون هكذا لكن مازال بإمكاننا ان نختار مغربا أفضل نعيش تحت حمايته.
عندما نحلل سلوك المقتصين نقرأ تعبيرا واضحا عن خوف ويأس و تفريغ لما احتقن من غضب  في شخص أول من شاء سوء حظه ان يصادفهم،ولا أدري الى اي حد يمكن ان نعتبر ما فعلوه سلوكا ثائرا لكن هيجانه امر لا شك فيه.
فلنتوقف عند الخوف أولا، المواطنون الذين لم يسبق لهم التعرض للسرقة تحت تهديد السلاح يعرفون على الاقل شخصا من ذويهم او معارفهم مر بتلك التجربة ،والذين ليسوا من هؤلاء ولا من أولئك يقرأون كل يوم على الجرائد و مواقع التواصل الاجتماعي أخبارا متنوعة عن حوادث اعتداء شنيعة.
 يتعمق الاحساس بعدم الامان كلما رأى الناس فيديوهات لضحايا غارقين في دمائهم بعد ان تم تشويه وجوههم او رأوا من جهة أخرى صورا وفيديوهات لمجرمين يتباهون بألبستهم وساعاتهم و سيوفهم دون ادنى اكتراث.يتعمق إحساس المواطنين بالخوف كلما ارتفعت مستويات الجريمة و تنوعت واغرقت في البشاعة،ومن البديهي ان تتعلق أعينهم بالقانون ومؤسسات الدولة لكي توفر لهم الحماية،ان كان بوعي منهم بمسؤوليتها الكاملة عن ذلك او عن جهل ممزوج بالعجز عن حماية انفسهم وذويهم و ممتلكاتهم في كل حين..وهنا ينبغي ان نتحدث عن تنامي شعور مقلق باليأس،يأس المواطنين من جدوى اللجوء الى الدولة ومؤسساتها،قصص كثيرة ترسخ هذا اليأس،قصص عن مجرمين عتاة حتى بعد القاء القبض عليهم وسجنهم لبضعة أشهر او بضع سنوات يخرجون ليعيثوا في الارض فسادا من جديد، وحتى عندما يقرر احدهم بعد عمر من الاجرام ان يتقاعد تكون شوارع الحي قد قدمت عددا من المراهقين اليافعين الذين التحقوا بقطار الجريمة للتو من أجل قيادته بكل عنف وعنفوان شبابهم..بقدر قتامة هذه الصورة بقدر ما يتنامى يأس الناس و يتضاعف قلقهم و توترهم.
لكن اسباب التوتروالغضب لا تقتصر فقط على السرقات التي تحدث هنا وهناك في احيائنا،لان الغضب الحقيقي الدفين ( دفين بسبب الجهل ممزوجا بالخوف) سببه سرقات اخرى تحدث على مستوى اعلى،على مستوى الاموال العمومية التي تعد بملايير الدراهم،سرقات اضحى المواطن المغربي اكثر وعيا بها مما مضى،بسبب ارقام تنشر من حين لآخر على وسائل الاعلام المختلفة حول اجورخيالية او امتيازات او تعويضات بغير استحقاق او نهب واختلاس مباشرين، يقرأ و يهتاج ثم يلزم الصمت دونما وسيلة للتأكد من صحة ما ينشر او نية للبحث والمطالبة بتفسير لما يقرأ،و ذلك طبعا مع يأس متجذر من اي تغيير،يقرأ المواطن عن مبالغ بملايير الدراهم تنهب او تبذر،ثم ينصرف في كمد الى هاجسه المعتاد في جعل راتبه او مدخوله الهزيل يسد حاجياته المتزايدة،وعندما يجد لصا في سوق او شارع عام او يسمع الاخرين يصرخون "لص !! لص !! " و ينهالون عليه ضربا او رميا بالحجارة ينخرط بكل غضب و حقد و يده مع يد الجماعة، وكأن الشخص الذي وقع بين أيديهم هو كل لصوص البلاد مجتمعين، وهم يهوون بقبضاتهم و حجارتهم لا يتساءلون: لماذا يسرق؟ كيف تحول الى لص؟ لماذا يعود الى السرقة وبشكل اعنف بعد مدة سجنه؟ أليس هناك ما يمكن فعله لمنع السرقات؟ والسؤال الاهم من كل سؤال اخر: هل سرق هذا الشخص فعلا؟
في السوق الشعبي حيث يقفون و في شارع المدينة حيث يقطنون،يشعر هؤلاء المواطنون ان لا تأثير لهم على ما يحدث في بلادهم،و انهم على بعد مسافات ضوئية من اللصوص الكبار،لذلك يصبون جام غضبهم على لص حقيبة وقع بين ايديهم،وفي العمق قد لا يكون هناك فرق بينه وبينهم، فمثلا عندما تسأل لصا لماذا تسرق؟فقد يبرر أفعاله بالفقر وضيق الحال وانعدام الافق،ولكي يحارب فقره يسرق من هم أفقر منه، كذلك المقتصون عندما يصبون غضبهم على مستضعف مثلهم.
العدالة لم تكن يوما ردود فعل انفعالية والا لما ارفق الله سبحانه وتعالى كل آية عن القصاص بأمر بالقسط والاحسان،وعظم اجر المحسنين،العدالة الحقيقية في احد أشكالها تقديم كل جان او معتد لمحاكمة عادلة،توضح فيها القرائن ويتحدث فيها الشهود ويمنح المتهم فرصة للدفاع عن نفسه و يصدر الحكم عن قاض مختص،وإذا كانت الاحكام غير زجرية او غير عادلة،ساعتها ينبغي النضال لتغيير القوانين ان كان ثمة قصور فيها،او النضال لمحاسبة القضاة ان كان ثمة شبهة فساد او الضغط على الحكومة بوزاراتها المختلفة للتعامل بشكل جدي مع الجريمة بشكل وقائي واستباقي.
ان لم تكن بالنضج والوعي والشجاعة الكافية لتنخرط في كل هذا فعلى الاقل لا تلطخ يدك بدم مواطن مثلك.فقد تفاجأ يوما ما بأحدهم يصرخ "لص !!لص !!" وقبل ان تجد متسعا من الوقت لتبحث عنه تنهال عليك الضربات من حيث لا تدري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق