الخميس، 13 أغسطس 2015

قراءة في "الهويات القاتلة"

يطرح أمين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة" مسألة شائكة احتفظت براهنيتها رغم مرور ما يقارب العقدين على تأليفه لهذه "الشهادة" كما يصفها في آخر الكتاب وهو بالمناسبة ليس رواية كما يشير الى ذلك غلاف النسخة العربية منه.
ينطلق معلوف في بناء نصه من سؤال كثيرا ما وجه له: هل يعتبر نفسه لبنانيا ام فرنسيا؟ باعتباره كاتبا لبنانيا هاجر الى فرنسا و استقر فيها ازيد من عشرين عاما(الى حين تأليف الكتاب)،و يؤسس معلوف بناء على حالته الخاصة و على العديد من الامثلة التي قدمها لاحقا الاطروحة المركزية التي جاءت "الهويات القاتلة" لتدافع عنها وهي ان الهوية ليست معطى قبليا ونهائيا بل تتشكل بالتدريج في التجربة الخاصة و الحميمية لكل فرد على حدة،و لا يمكن الارتكاز الى احد انتماءات الفرد (سواء كانت جسمانية،دينية،عرقية،لغوية،ثقافية..) للحكم على هويته و مصيره.
لا يمكن للقارئ ان يكون محايدا تماما ازاء قراءة نص معلوف، فكل قارئ يتمثل نفسه تحديدا من خلال هوية معينة،و يفهم ما يقرأ –بوعي او بدون وعي- من خلال خلفية نفسية اجتماعية وفكرية ما،ومعلوف نفسه وان تحرى بمجهود واضح حدا معينا من الموضوعية والحياد في طرحه لافكاره فإن بعضا منها أبى الا ان يضعه في نفس الخندق الذي يسعى الى تحرير الهوية منه،خندق الرؤية الأحادية و المتمركزة حول الذات égocentrique.
عندما تبدأ بقراءة الكتاب يشدك التحليل الهادئ والرصين لموضوع شائك و ملغم مثل موضوع الهوية،وبالامثلة المتنوعة التي يسوقها معلوف تبدو اطروحته المركزية متماسكة جدا،إذ توجد في التاريخ الفردي لكل شخص الكثير من المكونات التي تحدد هويته وهو ليس مضطرا الى انكار البعض منها من اجل الانتصار الى البعض الآخر،فكل منها بنسب متفاوتة تحدد شخصيته و لكل منها اهميته.
في الفصل الاول والمعنون ب "هويتي انتماءاتي" ،وفي الجزء الذي يحاول فيه معلوف تحديد مفهوم الهوية،استوقفتني اشارته الى الميول الجنسية باعتبارها انتماء من الانتماءات التي تحدد هوية الفرد(ص17 من النسخة الفرنسية)،ولم اجد في الاسطر التي تلت شرحا لما قصده معلوف بهذا،فهل المقصود الميول الجنسية التي تجعل النساء تملن الى الرجال والعكس ام يقصد الميول الجنسية باطلاق والتي تتضمن ايضا ميل الافراد الى اشخاص من نفس جنسهم؟ إذ أن قراءة الفكرة على ضوء الشق الثاني من السؤال تنفتح على إشكال اوسع واكثر اثارة للجدل يتعلق بالهوية الجنسية،و هو النقاش الذي يتجاوز احد طرفيه القول بالجنسين (الذكر والانثى) ليقول بوجود جنس ثالث يتأسس وجوده على الميول الجنسية للافراد فيما يرفض الطرف الثاني (لاسباب دينية من ضمن اسباب اخرى) الاعتراف بمشروعية العلاقات المثلية باعتبارها شذوذا.
عدا هذا نجد في كل باقي الفصل الاول الكثير من الامثلة التي تسعى الى اقناعنا بالطابع المتعدد والمتغير لمفهوم الهوية وكيف ان الوعي بمختلف مكوناتها هو خطوة في طريق الاستفادة من غناها،بينما التوقف عند احد تلك المكونات بشكل متعصب يحولها الى هويات قاتلة تسعى الى تأكيد وجودها من خلال نفي الآخر.يحسب لمعلوف هنا دقته في اختيار امثلة متنوعة و محاولته التفكير في المواقف المتخذة من مسألة الهوية من خلال منظور الآخر،فكل طرف يبني مواقفه على مبررات محددة،والتحليل المنصف يقتضي استحضار مختلف الرؤى.
في نهاية الفصل الاول نجد اشارة انسانية عميقة مفادها انه ينبغي دوما التقدم نحو الاخر برأس مرفوع وايد مفتوحة،وانه لكي يفتح الانسان ذراعيه لاحتضان الاخر يحتاج اولا الى ابقاء رأسه مرفوعا،اي الى احترام الاخر لهويته وانتماءاته،لكن معلوف يفاجئ القراء (المسلمين تحديدا) عندما يحكم مباشرة بعد ذلك على ارتداء الحجاب بانه سلوك "ماضوي و رجعي" مشيرا الى ان بوسعه ان يوضح اسباب هذه القناعة مستندا على اطوار مختلفة من تاريخ البلدان الاسلامية ومعركة النساء من اجل التحرير (ص 54 من النسخة الفرنسية)،لكن السؤال الاهم في نظره يتعلق بالحداثة ولم احيانا يتم رفضها.
سؤال الحداثة مرتبط بسؤال الهوية في نظر معلوف لذلك يفرد له الفصل الثاني من الكتاب،و يحتفظ الكاتب بنفس أسلوبه الهادئ والرصين في التحليل،و يطرح اسئلة تدفع القارئ للتفكير معه في اعادة قراءة التاريخ مرة تلو الاخرى من اجل الفهم.لكن الموضوعية في هذا الفصل تحديدا تخون الكاتب الذي تمنى في اخر كتابه ان يكون قد توفق في التحليل بشكل لا يكون شديد الفتور ولا شديد الحماس(اي منصفا بما يكفي).
عندما نقتنع مع معلوف بان الهويات متعددة و متغيرة،وانها تغتني بالروافد المختلفة والمتنوعة عبر التجربة التاريخية،فإن ذلك لن يصح فقط بشأن هوية الفرد وانما أيضا بخصوص الهوية الجماعية (ان صح الفصل بينهما)،بهذا المعنى فقبولنا مع الكاتب ان الفرد الماثل في كل منا حصيلة تراكمات وتفاعلات طويلة،يعني ايضا القول بان الجماعة او الامة حصيلة تراكمات تاريخية وتفاعلات تقدمها كنتيجة لما هي عليه بين الجماعات او الامم، من هذا المنطلق يبدو من غير الموضوعي ان ينظر الى الحداثة ( ويركز معلوف فيها على مفهومي الديمقراطية وحقوق الانسان) على انها معجزة اوروبا المسيحية التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية والتي جعلت منها على خلاف كل الحضارات التي سبقتها حضارة مهيمنة(ص 82) ،ويفسر معلوف الامر بمماثلة يشبه فيها اوروبا المسيحية بالحيوان المنوي الذي يندفع مع باقي الحيوانات المنوية الى الرحم لكنه وحده يستطيع تخصيب البويضة،واي ثمرة لهذا الاخصاب ستكون شبيهة له وحده (الصفحة نفسها)،وهو ما يمكن تبريره حسب معلوف بعوامل متعددة يعود البعض منها الى كفاءة اوروبا المسيحية،والظروف المحيطة بها و قد تعود ايضا الى بعض الصدفة.
ينبغي ان اقول ان قراءة هذه الاسطر بالنسبة لي كانت اشبه بصرخة مرعبة وبشعة تشق اسماع شخص استغرق من مدة في سماع سمفونية هادئة،منسجمة ومتناغمة.لا يمكن الربط بينهما،ولا يمكن ان نصدق ان الصرخة جزء من الأداء،في الوقت الذي يتابع عقل القارئ تلاحق الافكار وتطورها في النص،تنبني لديه قناعة بان اسباب العداء مع الاخر تنتفي ما دمنا نشاركه دوما الانتماء الى شيء ما،وان الافراد المعزولين يساهمون في بناء موروث انساني فسيفسائي يغتني بتجربة كل منهم.فكيف يستقيم هذا و اعتبار مشروع الحداثة مشروعا خاصا تنفرد به اوروبا المسيحية كما لو انها ابدعته من لا شيء و غزت به العالم؟ هل كانت الاختراعات التي تحمس معلوف للاشارة اليها ابداعا اوروبيا مسيحيا خالصا؟ام ان علماء اوروبا مثل العلماء في كل زمان و مكان استرشدوا بشكل او بآخر بابحاث من سبقوهم؟ هل نتصور ان الحداثة طفرة حدثت هكذا دون توقع ام انها مرحلة توجت تراكمات تاريخية متعددة الروافد؟هل يحق لحضارة ما ان تنسب لنفسها وحدها "التقدم" وان تنكر اسهام الحضارات التي سبقتها او التي عاصرتها؟ هذا القول بتفوق الغرب المسيحي(او اروبا المسيحية) بالمناسبة امر غير مبرر بالنسبة لعدد من علماء الغرب انفسهم على سبيل المثال لا حصر نذكر عالم الانثربولوجيا كلود ليفي ستراوس.
بعد هذه الصرخة تعاود الاذن الاستماع الى السمفونية ببعض الريبة،و يتابع القارئ باقي فصول الكتاب متشككا خصوصا ازاء استخدام مصطلح "هيمنة" عند الحديث عن الحضارة الغربية كما لو كان امرا طبيعيا،لنذكر فقط ان كل هيمنة تتناقض مع النظرة الانسانية التي يسعى الكاتب الى اقرارها،الافراد المتساوون في الكرامة لا يهيمن بعضهم على بعض،والحضارات المبنية على قناعة عميقة بتساوي جميع البشر في الكرامة والحقوق لا يهيمن بعضها على بعض،لذلك يبقى حماس معلوف إزاء العولمة موضع تساؤل،و افكاره بهذا الصدد لا تعطي طرقا مقنعة نحو الحلول،في العالم الذي نؤمن فيه بتعدد الهويات وحقها في الانوجاد ونتخذ بناء على هذه القناعة سلوك الانفتاح على الاخر ينبغي ان يكون للآخر نفس القناعة ونفس السلوك،لكي تكون علاقتنا به متوازنة مبنية على التلاقح والتفاعل السوي،والا سيصبح للحضارة المهيمنة طرقا متعددة لممارسة الاستيعاب والوصاية على الشعوب بفرض رؤية وحيدة،رؤية مهما بدت جذابة (بحيث ينجذب اليها الافراد والجماعات احيانا بشكل تلقائي) فإنها تحرم الجميع من التفكير في ممكنات اخرى في احسن الاحوال،وتحكم على الاجيال المقبلة بان تعيش نفس اخطاءنا وترث نفس اعطابنا.
اشارة انسانية عميقة و جميلة ينهي بها الكاتب نصه،ولا نملك الا ان نشاطره اياها وهي امنيته ان يعيد احفاده "الهويات القاتلة" الى الرف بمجرد الاطلاع على محتواه،امنية بان يصبح هذا الموضوع الملغم يوما ما متجاوزا بان يعيش الناس هوياتهم في سلام بعد ان يتم ترويض الفهد بتعبير امين معلوف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق