‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءة في كتاب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءة في كتاب. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 15 سبتمبر 2017

المغاربة

يستوقفك عنوان الرواية في البداية بتعبير مألوف لدى حسك العامي عندما تصف سلوكا شائعا تستغربه بشيء من الضيق احيانا او بشيء من السخرية او المرح احيانا اخرى فتنطق ببساطة: المغاربة !
ثم يتدخل حذرك الابستيمولوجي ليشكك في طموح رواية الى الحديث باسم مجتمع بأكمله من خلال بضع شخصيات و نسيج من الاحداث، ولأن الكتب لا تكتشف أسرارها من عناوينها يكون عليك ان تتجاوز الغلاف لكي تتعرف الى مغاربة عبد الكريم جويطي، من هم؟ وما خطبهم؟
بلغتها الفصيحة والبسيطة في آن تقترح عليك رواية "المغاربة" نافذة تطل منها على واقع قد تكون جزء منه، تعطيك في البداية انطباعا بأنه ليس هناك الكثير مما يحدث لشخوصها، تحكي لك ما يحدث بهدوء وعمق، تريدك ان تنفذ الى ما هو أبعد من الوقائع، فكل شيء مشروط بالسياق التاريخي الذي انتجه، لهذا استعان عبد الكريم جويطي بثقافته الرصينة لكي ينسج للشخوص والأماكن والأحداث امتدادا في التاريخ الفعلي للمغاربة حيث لن يكون لها معنى الا في سياقه.
الكتابة بالنسبة للروائي هي موقف وفعل مقاومة إزاء واقع يتمثله بكل عيوبه و أعطابه، لهذا يدافع جويطي عن خيار الكتابة باسم المغاربة قائلا: "الكتابة هي فعل المقاومة الوحيد والمتبقي في بلد صمتت طيوره عن الغناء،وصارت أزهاره ترفض أن تتفتح في الصباح، وتوقفت أشجاره عن النمو،بلد أتى عليه حين من الدهر صارت فيه رايته منشفة يجفف به المغنون التافهون عرقهم في السهرات، والعاهرات يحاضرن فيه عن الفضيلة، واللصوص يقومون فيه بالدعاية لمحاربة الجريمة، والماضي يشرف فيه على التحديث." ص 145
لا تبدو الرواية متسامحة مع جراح من سميت باسمهم،انها على العكس من ذلك تتوقف عند كل جرح، تتأمله على ما هو عليه، مهما بدا غير قابل للعلاج.
بعض الجراح تتعلق –على الأقل في ظاهرها- بفرد متعين، كالعمى او الاعاقة الحركية او الاضطراب النفسي لكنها تجد ،عبر متن الرواية، الخيوط المنطقية التي تقودها الى الذاكرة والهوية الجماعيتين حيث يصير مصير الفرد –على قسوته- متوقعا ومفهوما.
تتعدد التفاصيل لكنها تنطق بالحقيقة نفسها: احتقار الحياة الإنسانية و اعتبارها دون قيمة. إنها الحقيقة التي نطق بها طغيان القواد فيما مضى، وجلادو سنوات الرصاص، و أبطال التاريخ الدموي الذي بقيت المقبرة الجماعية شاهدا عليه.
هي الحقيقة نفسها التي عصفت بمستقبل العسكري العائد من الحدود باعاقة حركية دائمة، و حكمت على محمد الغافقي بعمى أبدي، وتركت الخبير فريسة اضطراب نفسي لما تبقى من حياته.
كيف يمكنك ان تعيد الاعتبار الى كينونتك كإنسان؟ كيف يمكنك ان تقاوم؟
سار الجد على حمارته في نزهات طويلة قبل ان يموت كمدا على أرض، بأشجار وحقول، انتزعت منه بلا رحمة، وأقام البوكمازي حديقة وسط الرمال على الحدود قبل ان تتناثر أشلاؤه حوله.. ولعب الحاج فرح -وهو العبد المخصي- دور الباشا الصغير في مسرحية فاشلة،وأقامت "الشيخة رقية" في كهف بالمقبرة الى حين موتها، وصار حسن أوشن "ذا عاهة جبار"
الكل يقاوم على طريقته، لكن الأخوين الغافقي سلكا الطريق نفسها: بعد ان يئس العسكري من اسماع صوت احتجاجه انكفأ على الكتب، كي تسعفه –ربما- لرؤية الواقع من زوايا اكثر شمولية و وضوحا، بما يجعله مفهوما ومن ثم قابلا للتحمل، وكان هذا لحسن حظ محمد فقد هيأه شقيقه لمصير العمى بالمزيد من الكتب..
تثق الرواية في قدرة الكتب على منحنا قدرة أعمق لاستيعاب ما يحدث حولنا مهما بدت تفاصيله متناثرة و منفصلة عن بعضها البعض.. فالتجربة الانسانية في العمق تحمل أبعادا مشتركة، وإذا تحدثت بعض "الهذيانات المغربية" التي تضمنتها الرواية عن المغاربة بلهجة قاسية فذلك – بالتحديد- لأنها تتحدث إليهم، بشكل صريح أحيانا و عبر شخوصها المتخيلة أحيانا اخرى، لنتوقف مثلا عند صفية (الارض) التي يسلمها أهلها بكل بساطة لرجل أعمى بالكاد يعرفون عنه شيئا، ثم صراع رجلين (كلاهما أعمى) من اجل صفية، أحدهما - و هو محمد- يعتبر ارتباطه بها حقا مشروعا له، بينما حسن أوشن يحصل عليها فعليا كزوجة بالاحتيال على صديقه.. لنلاحظ ان صفية نفسها لم تعبر عن أي رأي في الموضوع الى نهاية الرواية،انها على الأرجح تلك الأرض التي يحبها البعض بصدق دون ان يكون لهم نصيب منها، و يحتال البعض الآخر و ينجحون في اغتصابها.
يبقى ان محمد الغافقي اتبع طريق مقاومة سلمية قض بها مضجع غريمه بحيث دفع به في النهاية الى الاقدام على الانتحار، رجلان مصابان بالعمى يتنازعان حول صفية دون ان تكون لأي منهما في النهاية، يجسدان مأساة شعب عاجز عن تجاوز أعطابه ليعيش على أرضه كما يستحق.
هل تخبرنا رواية "المغاربة" شيئا جديدا؟ ربما لا تفعل، لكن ما يجعلها جديرة بالاهتمام طريقتها في إخبارك بهدوء وجهة نظر تجعل لما تعرفه أصلا معنى ينزع عنه عبثيته الظاهرية والمضللة.

السبت، 4 مارس 2017

مزرعة الحيوانات



رواية تعيد قراءتها أكثر من مرة،دون ان يفتر مع ذلك انبهارك ببراعة و ذكاء جورج اورويل في بناء عالمها السردي.
تبدو الفكرة بسيطة، فكرة التعبير عن واقع المجتمعات البشرية على لسان الحيوانات، ولكن ليس هذا ما يستوقف في "مزرعة الحيوانات"، انها فكرة الثورة، مبرراتها، أحداثها، آثارها على الذين خاضوها ايمانا بجدواها، مسارها الذي قد يسير في اي اتجاه  الا ذلك الذي اندلعت لأجله، لا تستطيع ان تفصل هذه الرواية عن عالم النصف الاول من القرن العشرين، ذلك العالم الذي استفاق فيه الناس من احلام العدالة و الرفاهية والحرية لكل البشر- وعود المجتمع الصناعي التي لم تتحقق- ليجدوا  أنفسهم يعيدون انتاج العبودية و القهر باشكالها الصريحة و المتخفية.ذلك العالم الذي خيب آمال الكثيرين و اسقطهم في قلق وجودي عن جدوى كل ما يحدث حولهم.
تبحث في ذاكرتك و انت تقرأ مزرعة الحيوانات عن الاحداث التاريخية التي يمكن ان تكون قد ألهمت جورج اورويل في كل التفاصيل التي يقف عندها بعناية:
-         الشعوب التي تستجمع بصعوبة شجاعتها لكي تثور على مستغِليها و لا يفيض كأسها الا قمة الجوع والقهر.
-         الصعود التدريجي لقادة و زعماء أسوأ من الذين قامت الثورة للاطاحة بهم
-         قيام هؤلاء بابعاد من ينافسهم على السلطة او يحمل رؤية اصلاحية حقيقية
-         التلاعب بالذاكرة الجمعية من خلال البروباغاندا و الاعلام المأجور الذي يجعل من الهزيمة نصرا و يحرف الاحداث والوقائع بحيث لا يعود التأكد من اي واقعة ممكنا بالنسبة للناس
-         التعديل المتواصل للدستور او القوانين بدون الرجوع الى الشعوب بحيث تصبح الدساتير مفصلة بالمقاس على مزاج الحاكم
-         بناء عالم مزيف من التطور الاقتصادي و الرفاه والامن والحرية في الخطاب الرسمي و تكراره الى ان يصدقه الناس مع انه يتناقض تماما و واقعهم المعيش
-         اشاعة جو من الخوف من خلال تنفيذ احكام اعدام و اقامة محاكمات صورية لخونة مفترضين
-         تحصين الحاكم و حاشيته لأنفسهم بجيش شرس لقمع اي عصيان
-         تمكن الفئات المتنفذة من عدد كبير من الامتيازات التي لا تتاح لغيرهم
-         واخيرا و بعد مضي زمن كاف على ترسيخ العهد الجديد لدعائمه و تأكده من انعدام اي مقاومة من قبل الشعب يسمي الاشياء بمسمياتها و يكشف عن وجهه الشمولي دون اكتراث.
أتأمل كل هذا و لا املك الا ان اعجب ببراعة جورج اورويل و نفاذ بصيرته، فقد يكون  استلهم تفاصيل ما كتبه مما عاصره ( ثورة البلاشفة و نظام لينين و بعده ستالين) وهذا في حد ذاته يشهد بذكائه إذ ليس كل من عاصر نظاما شموليا يستطيع ان يتنبه الى الطرق والآليات التي يتغلغل بموجبها في كل مظاهر المعيش، وفي هذا الشأن نجد تحليلا اعمق و اكثر ابهارا في رائعته "1984"  
من جهة ثانية يمكن للقارئ و هو يقرأ الروايتين ان يستعيد احداث من التاريخ القريب(نظام كاستور في كوبا مثلا) ، فيلح على ذهنه السؤال: هل هي نبوءة تتحقق هنا وهناك على خريطة العالم؟ ام ان جورج اورويل في قالب روائي استطاع ان يلخص عددا من الوقائع المنتظمة التي تشكل جوهر الانظمة الشمولية فيما يشبه القوانين؟

الأربعاء، 18 مايو 2016

نوستالجيا الحب والدمار



هي الرواية الثانية للكاتب المغربي السعيد الخيز بعد "سجين الهوامش" ،تطالعها فتترك لديك انطباعا بالانتماء، فعالمها ليس غريبا تماما عنك، خصوصا إذا كنت من الجنوب المغربي وتحديدا من منطقة أولوز حيث تدور أهم الأحداث التي توجه متن السرد.
هي تأريخ بلغة الأدب لحدث واقعي بصم الذاكرة الجماعية للمنطقة: إنشاء سد أولوز مع ما رافقه من تهجير قسري لصغار الفلاحين وتلاعب بالتعويضات التي كان من المفترض أن تصلهم مقابل نزع أراضيهم.
تقدم الرواية على لسان بطلها "أنير" وصفا لمعاناة الفلاحين أثناء و بعد واقعة التهجير، كما نجد فيها مقاطع عن نضالات المهجرين من أجل استرداد حقوقهم المسلوبة و القمع الدموي لاحتجاجاتهم.
الكتابة إذن ومنذ اختيار موضوعها تموقف وشكل من أشكال  الاحتجاج بالنسبة للسعيد الخيز، أن تؤرخ لمأساة المهجرين في عمل روائي يعني أن تضمن إبقاءه في الذاكرة الجماعية طويلا،وذلك بتفاصيل غنية و دقيقة لا تتسع لها مساحات التقارير الإعلامية التي تابعت الموضوع في حينه ثم تآكلها النسيان بظهور مآسي جديدة.
بهذا ينطق "أنير" الرواية بلسان كل من خاب أملهم في وطن يحمي و يحتضن، يصبح أكثر من ابن الجبل الذي يحمل في قلبه بقايا حب لوطن و امرأة، بل يصير أيقونة المواطن الذي تستثنيه حيتان الرأسمال من حساباتها، فيصبح دخيلا في عقر وطنه.
بلغة غاضبة واستعارات قوية يعبر الكاتب عن اغتراب الإنسان وقلقه و توتر علاقته بالوجود، خصوصا أن خذلان الوطن يتعمق بخذلان الحبيبة، إذ تتخلى "ماريا" عن "أنير" بدون سبب يفهمه، و يستغرق زمنا من عمر الرواية يجوب ماضي التهجير و ماضي "ماريا" تائها بين هذا وذاك،قبل أن يجد طريقا تصالحه مع عالمه الموضوعي، عمله كسمسار عقارات فتح له مجالا لمراكمة الثروة و معاشرة نفس الحيتان الذين اقتسموا (أو حاولوا على الأقل) اقتسام كعكة قريته الصغيرة ومنهم زوج ماريا نفسها.
تنتهي الرواية بإصابة "أنير" بورم خبيث في رأسه، ورم ترجعه الرواية إلى إصابة من زمن النضال والقمع، فهل كانت نهاية "أنير" ضربا من مكر "الوطن" الذي يتدخل لإقصاء ابن الجبل من دائرة المتنفذين و لو بعد حين؟ أم أنها طريقة الكاتب في الانتقام من شخصية ناضلت ضد الحيتان زمنا لتتحول بعد ذلك إلى نسخة عنها؟
في كل الأحوال لا ينكر متن الرواية علاقته بالفضاء الواقعي الذي استلهمه،تفاصيل دقيقة عن حياة الفلاحين، أسماء دواويرهم،الغابات المحيطة بهم و أشياء أخرى تذكرك بأن عالم الرواية ليس غرائبيا في شيء،حتى أن كاتبها نفسه يحضر تارة باسمه الأول "السعيد" باعتباره ابن عم "أنير" وتارة باسمه العائلي "دار الخيز".إشارات كثيرة لكي يعبر الكاتب أنه لا يكتب عن الواقعة من خارجها، فالمتخيل هنا تولد من عمق الواقعي لكي يجسده بلغة أخرى غير الرصد المباشر.
لغة السرد كما تقدم قوية واستعاراتها عميقة وبليغة بشكل جميل وهي لا تقدم للقارئ المشهد العام جاهزا منذ البداية،بل تقدمه قطعا كما لو تعلق الأمر بلعبة Puzzle تملك فكرة عن مشهدها العام لكن يكون عليك تناول وتأمل كل قطعة على حدة لكي تضعها من خلال تفاصيلها المميزة في مكانها المناسب من المتن.غير أن القارئ في هذا السياق يضيع الى حد ما بين الحنين الى زمن "ماريا" و مخلفات ما بعد التهجير في مونولوغ مطول يخلف احيانا انطباعا بقراءة نفس المضامين بجمل مختلفة .
تحضر المرأة في الرواية كأصل، كجدة مناضلة،كأم، كحبيبة (ماريا)، كصديقة (كاترين)،كقروية بسيطة (فتيات الدوار)،و لا تشذ الرواية عن تقليد درج بخلق تماه بين المرأة والوطن(ص274)، ف "أنير" خسرهما معا، لصالح "السيد عمراوي" الذي حصل عليهما معا.
يبقى "أنير" الرواية وفيا للموقف الذكوري التقليدي من المرأة،موقف تشوبه مفارقات كثيرة،فالمرأة حين تكون أما فهي مقدسة وتحظى بالكثير من الاحترام، ويمكن ان تكون حبيبة تشغل الكيان وتتعلق بها الآمال،كما يمكن ان تصير عند الحاجة مجرد وعاء لتخليص الرجل من إلحاح نداء الجسد (ص95). تتحدث لغة الرواية بشكل غاضب و ملئ بالازدراء عن الوطن وقد استحال أنثى رخيصة تعرض عرضها لمن يدفع(ص256)، يكون الاحتقار من نصيب بائعة الهوى حتى لو كان "أنير" نفسه زبونا للعديد منهن،فبمنطق ذكوري لا يحاسب الذكر الذي قد يكون اغتصب تلك الأنثى بادئ الأمر و زج بها في طريق العهر،و لا يحاسب الزبائن الذين يخلقون سوقا للطلب،بل يقع اللوم على بائعة الهوى وحدها.
في التمثل الذكوري تواجه المرأة بشروط صارمة،ينبغي أن تكون بطهر وعفة الأم،فتية و بكرا،فالرجل الذي يتورط في علاقة مع مطلقة او عانس ليس أكثر من ضحية (ص225) وكيف يكون كذلك في مجتمع لا يعترف للمرأة بحق المبادرة؟ !! كما ينبغي أن تكون بالقدر الكافي من الجمال، لا تنطلي على الرجل حيلة اخفاء وجهها بنظارات شمسية (ص 177) و لا تشفع لها قسوة ظروف الحياة الجبلية(ص95)،فإما ان تكون أنثى كاملة الأنوثة او لا تكون.
كلما تعمق قهر الشعوب تضخمت- بشكل مفارق - تمثلات الرجولة في مخيالهم، هنا أيضا تبقى الرواية وفية للاوعي الجمعي،إذ أن الذكر  في مطلق الأحوال رجل بغض النظر عن مواصفاته المورفولوجية او الأخلاقية، فمعاشرة ابن الجبل لزوجته رجولة(ص95)، و رفض "أنير" التفكير في خيانة "السيد عمراوي" مع الحبيبة السابقة "ماريا" رجولة ( رغم أنه خان ماريا نفسها مع بائعات الهوى)،كما أن مبدأه الرافض لإلحاق الأذى بأي امرأة نابع من احترامه لرجولة رجل مثله قد يكون أخاها أو أباها أو غيره(ص314).تحتاج المرأة إذن إلى أن تنسب لأحدهم لكي تحظى بالاحترام.
قراءة السطور أعلاه لصورة المرأة في "نوستالجيا الحب والدمار" توقفت عند إشارات من هنا وهناك داخل متن الرواية، إنها ليست رواية عن المرأة تحديدا لكنها كلما أرادت تأثيث فضائها بشخصيات نسائية انطلقت من أواليات ومسبقات ذهنية لاواعية  تكرس الأنماط السائدة في الممارسة التاريخية.هنا ايضا نحتاج الى ممارسة نوع من التموقف والاحتجاج.
"نوستالجيا الحب والدمار" اذن رواية تشبهنا في نواح كثيرة،من الأماكن والأسماء المألوفة، مرورا بذكريات طفولة لامبالية ،وصولا الى وطن يسبقك اليه قناصو الفرص بشكل دائم، إنها حكاية بدأت مع أجيالنا قبل ان تبدأ على صفحات الرواية و تستمر فصولها في كل واحد منا.






الخميس، 13 أغسطس 2015

قراءة في "الهويات القاتلة"

يطرح أمين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة" مسألة شائكة احتفظت براهنيتها رغم مرور ما يقارب العقدين على تأليفه لهذه "الشهادة" كما يصفها في آخر الكتاب وهو بالمناسبة ليس رواية كما يشير الى ذلك غلاف النسخة العربية منه.
ينطلق معلوف في بناء نصه من سؤال كثيرا ما وجه له: هل يعتبر نفسه لبنانيا ام فرنسيا؟ باعتباره كاتبا لبنانيا هاجر الى فرنسا و استقر فيها ازيد من عشرين عاما(الى حين تأليف الكتاب)،و يؤسس معلوف بناء على حالته الخاصة و على العديد من الامثلة التي قدمها لاحقا الاطروحة المركزية التي جاءت "الهويات القاتلة" لتدافع عنها وهي ان الهوية ليست معطى قبليا ونهائيا بل تتشكل بالتدريج في التجربة الخاصة و الحميمية لكل فرد على حدة،و لا يمكن الارتكاز الى احد انتماءات الفرد (سواء كانت جسمانية،دينية،عرقية،لغوية،ثقافية..) للحكم على هويته و مصيره.
لا يمكن للقارئ ان يكون محايدا تماما ازاء قراءة نص معلوف، فكل قارئ يتمثل نفسه تحديدا من خلال هوية معينة،و يفهم ما يقرأ –بوعي او بدون وعي- من خلال خلفية نفسية اجتماعية وفكرية ما،ومعلوف نفسه وان تحرى بمجهود واضح حدا معينا من الموضوعية والحياد في طرحه لافكاره فإن بعضا منها أبى الا ان يضعه في نفس الخندق الذي يسعى الى تحرير الهوية منه،خندق الرؤية الأحادية و المتمركزة حول الذات égocentrique.
عندما تبدأ بقراءة الكتاب يشدك التحليل الهادئ والرصين لموضوع شائك و ملغم مثل موضوع الهوية،وبالامثلة المتنوعة التي يسوقها معلوف تبدو اطروحته المركزية متماسكة جدا،إذ توجد في التاريخ الفردي لكل شخص الكثير من المكونات التي تحدد هويته وهو ليس مضطرا الى انكار البعض منها من اجل الانتصار الى البعض الآخر،فكل منها بنسب متفاوتة تحدد شخصيته و لكل منها اهميته.
في الفصل الاول والمعنون ب "هويتي انتماءاتي" ،وفي الجزء الذي يحاول فيه معلوف تحديد مفهوم الهوية،استوقفتني اشارته الى الميول الجنسية باعتبارها انتماء من الانتماءات التي تحدد هوية الفرد(ص17 من النسخة الفرنسية)،ولم اجد في الاسطر التي تلت شرحا لما قصده معلوف بهذا،فهل المقصود الميول الجنسية التي تجعل النساء تملن الى الرجال والعكس ام يقصد الميول الجنسية باطلاق والتي تتضمن ايضا ميل الافراد الى اشخاص من نفس جنسهم؟ إذ أن قراءة الفكرة على ضوء الشق الثاني من السؤال تنفتح على إشكال اوسع واكثر اثارة للجدل يتعلق بالهوية الجنسية،و هو النقاش الذي يتجاوز احد طرفيه القول بالجنسين (الذكر والانثى) ليقول بوجود جنس ثالث يتأسس وجوده على الميول الجنسية للافراد فيما يرفض الطرف الثاني (لاسباب دينية من ضمن اسباب اخرى) الاعتراف بمشروعية العلاقات المثلية باعتبارها شذوذا.
عدا هذا نجد في كل باقي الفصل الاول الكثير من الامثلة التي تسعى الى اقناعنا بالطابع المتعدد والمتغير لمفهوم الهوية وكيف ان الوعي بمختلف مكوناتها هو خطوة في طريق الاستفادة من غناها،بينما التوقف عند احد تلك المكونات بشكل متعصب يحولها الى هويات قاتلة تسعى الى تأكيد وجودها من خلال نفي الآخر.يحسب لمعلوف هنا دقته في اختيار امثلة متنوعة و محاولته التفكير في المواقف المتخذة من مسألة الهوية من خلال منظور الآخر،فكل طرف يبني مواقفه على مبررات محددة،والتحليل المنصف يقتضي استحضار مختلف الرؤى.
في نهاية الفصل الاول نجد اشارة انسانية عميقة مفادها انه ينبغي دوما التقدم نحو الاخر برأس مرفوع وايد مفتوحة،وانه لكي يفتح الانسان ذراعيه لاحتضان الاخر يحتاج اولا الى ابقاء رأسه مرفوعا،اي الى احترام الاخر لهويته وانتماءاته،لكن معلوف يفاجئ القراء (المسلمين تحديدا) عندما يحكم مباشرة بعد ذلك على ارتداء الحجاب بانه سلوك "ماضوي و رجعي" مشيرا الى ان بوسعه ان يوضح اسباب هذه القناعة مستندا على اطوار مختلفة من تاريخ البلدان الاسلامية ومعركة النساء من اجل التحرير (ص 54 من النسخة الفرنسية)،لكن السؤال الاهم في نظره يتعلق بالحداثة ولم احيانا يتم رفضها.
سؤال الحداثة مرتبط بسؤال الهوية في نظر معلوف لذلك يفرد له الفصل الثاني من الكتاب،و يحتفظ الكاتب بنفس أسلوبه الهادئ والرصين في التحليل،و يطرح اسئلة تدفع القارئ للتفكير معه في اعادة قراءة التاريخ مرة تلو الاخرى من اجل الفهم.لكن الموضوعية في هذا الفصل تحديدا تخون الكاتب الذي تمنى في اخر كتابه ان يكون قد توفق في التحليل بشكل لا يكون شديد الفتور ولا شديد الحماس(اي منصفا بما يكفي).
عندما نقتنع مع معلوف بان الهويات متعددة و متغيرة،وانها تغتني بالروافد المختلفة والمتنوعة عبر التجربة التاريخية،فإن ذلك لن يصح فقط بشأن هوية الفرد وانما أيضا بخصوص الهوية الجماعية (ان صح الفصل بينهما)،بهذا المعنى فقبولنا مع الكاتب ان الفرد الماثل في كل منا حصيلة تراكمات وتفاعلات طويلة،يعني ايضا القول بان الجماعة او الامة حصيلة تراكمات تاريخية وتفاعلات تقدمها كنتيجة لما هي عليه بين الجماعات او الامم، من هذا المنطلق يبدو من غير الموضوعي ان ينظر الى الحداثة ( ويركز معلوف فيها على مفهومي الديمقراطية وحقوق الانسان) على انها معجزة اوروبا المسيحية التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية والتي جعلت منها على خلاف كل الحضارات التي سبقتها حضارة مهيمنة(ص 82) ،ويفسر معلوف الامر بمماثلة يشبه فيها اوروبا المسيحية بالحيوان المنوي الذي يندفع مع باقي الحيوانات المنوية الى الرحم لكنه وحده يستطيع تخصيب البويضة،واي ثمرة لهذا الاخصاب ستكون شبيهة له وحده (الصفحة نفسها)،وهو ما يمكن تبريره حسب معلوف بعوامل متعددة يعود البعض منها الى كفاءة اوروبا المسيحية،والظروف المحيطة بها و قد تعود ايضا الى بعض الصدفة.
ينبغي ان اقول ان قراءة هذه الاسطر بالنسبة لي كانت اشبه بصرخة مرعبة وبشعة تشق اسماع شخص استغرق من مدة في سماع سمفونية هادئة،منسجمة ومتناغمة.لا يمكن الربط بينهما،ولا يمكن ان نصدق ان الصرخة جزء من الأداء،في الوقت الذي يتابع عقل القارئ تلاحق الافكار وتطورها في النص،تنبني لديه قناعة بان اسباب العداء مع الاخر تنتفي ما دمنا نشاركه دوما الانتماء الى شيء ما،وان الافراد المعزولين يساهمون في بناء موروث انساني فسيفسائي يغتني بتجربة كل منهم.فكيف يستقيم هذا و اعتبار مشروع الحداثة مشروعا خاصا تنفرد به اوروبا المسيحية كما لو انها ابدعته من لا شيء و غزت به العالم؟ هل كانت الاختراعات التي تحمس معلوف للاشارة اليها ابداعا اوروبيا مسيحيا خالصا؟ام ان علماء اوروبا مثل العلماء في كل زمان و مكان استرشدوا بشكل او بآخر بابحاث من سبقوهم؟ هل نتصور ان الحداثة طفرة حدثت هكذا دون توقع ام انها مرحلة توجت تراكمات تاريخية متعددة الروافد؟هل يحق لحضارة ما ان تنسب لنفسها وحدها "التقدم" وان تنكر اسهام الحضارات التي سبقتها او التي عاصرتها؟ هذا القول بتفوق الغرب المسيحي(او اروبا المسيحية) بالمناسبة امر غير مبرر بالنسبة لعدد من علماء الغرب انفسهم على سبيل المثال لا حصر نذكر عالم الانثربولوجيا كلود ليفي ستراوس.
بعد هذه الصرخة تعاود الاذن الاستماع الى السمفونية ببعض الريبة،و يتابع القارئ باقي فصول الكتاب متشككا خصوصا ازاء استخدام مصطلح "هيمنة" عند الحديث عن الحضارة الغربية كما لو كان امرا طبيعيا،لنذكر فقط ان كل هيمنة تتناقض مع النظرة الانسانية التي يسعى الكاتب الى اقرارها،الافراد المتساوون في الكرامة لا يهيمن بعضهم على بعض،والحضارات المبنية على قناعة عميقة بتساوي جميع البشر في الكرامة والحقوق لا يهيمن بعضها على بعض،لذلك يبقى حماس معلوف إزاء العولمة موضع تساؤل،و افكاره بهذا الصدد لا تعطي طرقا مقنعة نحو الحلول،في العالم الذي نؤمن فيه بتعدد الهويات وحقها في الانوجاد ونتخذ بناء على هذه القناعة سلوك الانفتاح على الاخر ينبغي ان يكون للآخر نفس القناعة ونفس السلوك،لكي تكون علاقتنا به متوازنة مبنية على التلاقح والتفاعل السوي،والا سيصبح للحضارة المهيمنة طرقا متعددة لممارسة الاستيعاب والوصاية على الشعوب بفرض رؤية وحيدة،رؤية مهما بدت جذابة (بحيث ينجذب اليها الافراد والجماعات احيانا بشكل تلقائي) فإنها تحرم الجميع من التفكير في ممكنات اخرى في احسن الاحوال،وتحكم على الاجيال المقبلة بان تعيش نفس اخطاءنا وترث نفس اعطابنا.
اشارة انسانية عميقة و جميلة ينهي بها الكاتب نصه،ولا نملك الا ان نشاطره اياها وهي امنيته ان يعيد احفاده "الهويات القاتلة" الى الرف بمجرد الاطلاع على محتواه،امنية بان يصبح هذا الموضوع الملغم يوما ما متجاوزا بان يعيش الناس هوياتهم في سلام بعد ان يتم ترويض الفهد بتعبير امين معلوف.

السبت، 18 يناير 2014

Reymond Aron et un « Essai sur les libertés »

Issu de conférences que Raymond Aron avait données en 1963 à l’université de Berkeley (USA), « Essai sur les libertés » apparait au début de janvier 1965 .Le philosophe et sociologue français y reprend la réflexion sur deux conceptions controversées de liberté, avec lesquelles il ne s’agirait  plus d’Une  Liberté mais de Libertés tantôt formelles tantôt réelles.
L’analyse de Reymond Aron confronte deux doctrines philosophiques, l’une est favorable aux libertés formelles, position prise par le  philosophe français Alexis De Tocqueville, l’autre par contre ne voit pas la  portée des libertés politiques, personnelles, intellectuelles dans une société d’inégalité et de paupérisation, elle se positionne donc en faveur des libertés réelles, et c’est la position du philosophe allemand  Karl Marx.
Cette confrontation donne fruit à l’opposition entre deux sortes de régimes politiques, les démocraties libérales représentées par les puissances industrielles occidentales  et les régimes socialistes notamment adoptés à l’Europe de l’est.
Reymond Aron souligne que les années 50 du siècle dernier fussent marquées par le déclin des idéologies, car  « ni le marxisme-léninisme, ni le fascisme, ni le libéralisme n’éveillent plus la foi qui soulève les montagnes » (p74) , c’est ainsi que notre sociologue analyse soigneusement les contradictions qui déstabilisent chaque régime, bien qu’ils se prétendent tous démocratiques .Les régimes pluralistes en dépit des  institutions représentatives et des traditions électorales peuvent réduire le citoyen  en un simple figurant dans un rite alors que les gouverneurs qu’il s’est choisi sont eux même prisonniers de puissances dans l’ombre.
Sur la base de ce genre de contradictions, Reymond Aron adopte ici une vision toutefois peu propice à un penseur libéral, il déclare : « les institutions de la démocratie représentative ne me paraissent pas l’expression nécessaire, en notre siècle, du désir universel de liberté » (p99)
On pourra comprendre que les régimes à parti unique peuvent aussi garantir les libertés revendiquées, mais ceci n’empêche pas le sociologue d’en démontrer les limites, en fait les régimes à parti unique interdisent toute réflexion sur leur idéologie et impose une autorité absolue d’ordre intellectuel.
Pour tout type  de régime, Reymond Aron tente de rectifier la représentation conformiste d’une société opulente sans conflits fondamentaux, il démontre par les statistiques les inégalités sociales et la relativité de l’opulence.
Dans le dernier chapitre de son livre, Reymond Aron s’arrête sur la notion de liberté politique dans la société technique, il analyse les contrastes entre démocratie américaine et démocraties européennes (française, anglaise) pour conclure que les intellectuels ne revendiquent plus la nationalisation des  moyens de productions, mais plutôt l’égalité morale entre représentants des ouvriers et représentants des couches favorisées.

Dans la postface ajoutée en 1976, Raymond Aron se montre plus libéral ,il ne se soucis plus de relativiser la vision libérale, ou de considérer un choix socialiste  susceptible d’assouvir le désir de liberté, peut être parce qu’il n’était plus question d’une France sous de Gaulle (qui montrait de la sympathie pour les régimes socialistes), ou était-ce tout simplement parce qu’au fil des années les régimes à parti unique se sont montrés plus despotiques que jamais, en tout cas Raymond Aron  déclare clairement : « que leur exemple nous serve de leçon ; les hommes ont tous le même droit au respect, ni la génétique ni la société n’assureront jamais à tous la même capacité d’atteindre à l’excellence ou au premier rang. L’égalitarisme doctrinaire s’efforce vainement de contraindre la nature, biologique et sociale, il ne parvient pas à l’égalité mais à la tyrannie. » p 240.

الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

قراءة في رواية "اولاد حارتنا" بين الكوني والمشروط تاريخيا



رواية كتبها نجيب محفوظ اواخر خمسينيات القرن الماضي مسلسلة في جريدة الاهرام و صدرت في كتاب من بيروت  في بداية الستينيات من نفس القرن، رواية اثارت ولا زالت تثير جدلا واسعا بين من ينكر على نجيب محفوظ جرأته في استخدام الرموز داخل الرواية وبين من يقره على ذلك.
يحاول هذا المقال ان يقدم قراءة محتملة للرواية، ولا يدعي بأي حال من الاحوال ان تكون الفهم الوحيد لان الرواية مثلما تثير الكثير من الاسئلة (التي تتركها بلا جواب)، فإنها تنفتح على العديد من التأويلات، حسبنا ان نقول ان الفهم الموضوعي للمتن الروائي لا يتم الا بربطه بالشروط الذاتية والموضوعية لإنتاجه، فالقضايا التي يطرحها وطريقة تناولها ترتبط بالسياق التاريخي ليس فقط لمصر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولكن ايضا بسياق تطور الفكر البشري عموما،كما ان اي كاتب وهو يهتم بالاشتغال على موضوع ما ،بشكل ما، يحاول احيانا الحسم مع مشكلات تؤرقه شخصيا،ويعكس أفكارا قد تتغير مع مرور الوقت فتصبح اكثر نضجا، و  قد تتحول المواقف الفكرية لتصبح أكثر تطرفا او اكثر هدوء ومهادنة ، ولهذا يلحظ المتتبع لمسار بعض المفكرين تغير افكارهم عبر السنين.
نعود الى اولاد حارتنا- موضوع هذه القراءة- دعنا نصفها بانها محاولة جريئة، ونبتغي ان يكون وصفها بالجرأة محايدا، لا يصفق مع من وصفوها بالشجاعة بالضرورة ولا ينجر الى مشاطرة من نعتوها بالوقاحة موقفهم من جهة ثانية.
تضعنا  رموز الرواية امام اسئلة دقيقة و حرجة تتعلق  بالابداع، فهل يجب ان يكون لحرية الابداع حدود؟ و ان كان الجواب بنعم، فما الذي يرسم تلك الحدود؟ واين تتوقف؟
وتضعنا معانيها امام اسئلة اخرى، فهل يمثل "عرفة" في الرواية العلم والمعرفة بوجه عام ام يمثل الاشتراكية العلمية والماركسية؟ هل تعلن الرواية انتصار العلم على الاديان؟ ام انها مجرد تأريخ ورصد لواقع معطى؟
بسبب روايته وقف نجيب محفوظ بأعين البعض موقف اتهام، فهل يصدر ما صدر عن مؤمن ام عن كافر ملحد؟
نشير في البداية الى ان الرواية كتبت كما ذكرنا اواخر الخمسينيات من القرن الماضي،و نال صاحبها جائزة نوبل للآداب عام 1988 (بفضل "اولاد حارتنا" الى جانب روايات اخرى)، وتعرض لمحاولة اغتيال عام 1994 بسبب اعتقاد مهاجميه بكفره والحاده لكنه نجا من الهجوم ولم يتوف الا سنة 2006.تبين المعطيات السابقة بان محفوظ عاش طويلا بعد كتابته لروايته، وشهد الجدل القائم حولها،و تنسب له بعض التصريحات تنازله عن بعض مما جاء في مضمونها بالقول ان شخصية الجبلاوي تمثل الدين وليس الذات الالهية وان الرواية تقدم قطبي الدين والعلم الذين تقوم عليهما المجتمعات،ولان قارئ الرواية لا يقنعه مثل هذا الكلام فإن اسئلة اخرى تتولد في ذهنه: ان صحت التصريحات فما الذي يدفع نجيب محفوظ الى التنازل عن ما جاء في روايته؟ هل هو الندم على خوض مغامرة  ابداعية غير مأمونة العواقب؟ هل هو الخوف المشروع على سلامته وسلامة افراد اسرته؟ ام شعر محفوظ ان روايته كتبت في غير وقتها وان الناس في جميع الاحوال لن يفهموا ولذلك فضل مهادنة معارضيه؟ ام ربما يكون قد رفض ان  يتحمل وحده  المسؤولية الفكرية للتأويلات التي انفتحت عليها روايته؟  ام هل يعود السبب ببساطة الى انه عبر من خلال روايته عن اسئلة وشكوك ساورته في لحظة ما من حياته قد يكون قطع معها لاحقا وبقيت الرواية شاهدا على بداية رحلته؟
اسئلة كثيرة يترك لنا نجيب محفوظ مهمة عسيرة في الاجابة عنها وتحمل مسؤولية اجوبتنا،فرغم انه عاش بعد كتابة روايته بما يقارب النصف قرن الا ان الاسئلة ظلت بعد وفاته ملحة وبلا اجوبة، لا يبقى امامنا اذن الا متن الرواية لقراءته و البحث فيه وفي سياق كتابته عن اجابات ممكنة لأسئلتنا.
ملخص الرواية
تحكي الرواية قصة رجل قوي وغني( الجبلاوي)، يجمع ابناءه الذكور في اول مشهد من مشاهد الرواية لكي يخبرهم انه سيكلف اخاهم ادهم بإدارة املاكه (الوقف)،ويدخل في مشادة كلامية مع ابنه ادريس الذي يعترض على قرار الأب، فيغضب هذا الاخير و يطرده من البيت، تتوالى احداث الرواية الى ان يخدع ادريس اخاه ادهم فيتسبب بطرده هو و زوجته اميمة من بين الجبلاوي، ويعيش الجميع خارج البيت الكبير حياة تعيسة، يطبعها الكد بالنسبة لادهم و تتسم بالفتونة والبلطجة بالنسبة لادريس.في هذا الفصل ايضا يقوم ابن ادهم قدري بقتل اخيه همام.
يخصص الكاتب بعد ذلك فصلا اخر لشخصية " جبل" القوي الذي ينشأ داخل بيت ناظر الوقف وفي رعاية زوجته لكنه ينحاز الى اهله "بني حمدان" ويدخل معركة لتحريرهم من بؤسهم وقهر الفتوات لهم.
اما الفصل الموالي فيتحدث عن شخصية "رفاعة" الطيب والخلوق الذي يحاول تخليص الناس من عفاريتهم لكي يجدوا السعادة الحقيقية لكن ينتهي به الامر الى القتل على ايدي الفتوات بعد ان خانته زوجته.
ويخصص محفوظ فصلا لشخصية قاسم الذي يظهر في حي "الجرابيع" وينجح مع اصدقائه في تخليص الحارة بجميع احيائها من الفتوات ويستلم نظارة الوقف لكي يوزعه بالتساوي على جميع الاحياء، بما فيهم حي جبل وحي رفاعة باعتبار انهم جميعا ابناء جد واحد (الجبلاوي).
في الفصل الاخير من الرواية تظهر شخصية عرفة، الساحر الذي يريد ان يغير معالم الحارة بسحره،يعود الى الحارة في البداية من اجل الانتقام لامه، لكنه يغرم بفتاة ويتزوجها ويغير اهدافه صوب التخلص من الفتوة الذي يتهدد زواجه ومن جميع الفتوات، غير ان مغامرته في اكتشاف البيت الكبير والوصول الى الجبلاوي، تسفر عن موت هذا الاخير وتنتهي بجعله تحت رحمة ناظر الوقف الذي يبتزه للحصول على ابتكاراته سيما منها الزجاجة المتفجرة والتي انهت زمن الفتوات وجعلت كل السيطرة لناظر الوقف،و عندما يحاول عرفة التخلص من تلك السيطرة يعاقبه ناظر الوقف بدفنه حيا.
تنتهي الرواية باكتشاف الناس لسر عرفة وحديثهم عن كراسته واشتداد الامل حول ثورة جديدة يقودها حنش(شقيق عرفة) والشباب معه ليخلصوا الحارة من الظلم بسحرهم.

رموز الرواية:

لا يحتاج القارئ جهدا كبيرا لفك الرموز التي تستخدمها الرواية في قالب درامي، فالمتن الروائي يقدم رؤية شمولية لمسار المجتمعات البشرية عبر الاديان السماوية الثلاث : اليهودية، المسيحية، والاسلام،فضلا عن العصر الاخير الذي يحكمه تطور العلم والمعرفة والذي عرفته المجتمعات جميعا على اختلاف اديانها.اضافة الى ذلك  فاختيار نجيب محفوظ لاسماء شخصيات روايته لم يكن اعتباطيا:
ادهم / ادم، ادريس/ابليس، اميمة (تصغير ام وهي امنا جميعا حواء)، قدري/قابيل، همام/هابيل، جبل( كناية عن قوة وشدة موسى عليه السلام)، (رفاعة في اشارة الى قدرة  عيسى عليه السلام على شفاء الناس)، قاسم/محمد عليه الصلاة والسلام،قنديل/جبريل، عرفة/ العلم والمعرفة.
ان اول ما اثار الجدل في الرواية هو شخصية الجبلاوي ، والد ادهم وادريس وجد كل من سيعمر الحارة من بعدهما.فالمشاهد الاولى في الرواية تذكرنا بشكل واضح بما حصل مع ابليس عندما رفض السجود لسيدنا ادم فاستحق بذلك غضب الله تعالى عليه.
شخصية الجبلاوي ستعمر طويلا جدا في الرواية لدرجة انها ستعاصر اجيالا متعددة تتجاوز بها عمر البشر في العالم الواقعي، لكنها تموت في عصر عرفة.وهنا تثير الرواية جدلا واسعا: فهل من حق الروائي تجسيد الذات الالهية في شخصية بشرية تمثلها؟ واذا كانت الرابط  واضحا بما لا يمكن انكاره بين شخصية الجبلاوي والذات الالهية، الا يعني موت الجبلاوي تجسيدا لفكرة موت الاله؟
انها مغامرة يخوضها نجيب محفوظ  على كل حال، فهل كان ذلك لتأثره بالفكر الماركسي و تعبيرا عن قناعاته ؟ ام كان هاجسه الاساسي هو التعبير عن رؤية شمولية للمجتمعات وكانت الشخصيات والاحداث مجرد ادوات فنية وروائية لا بد منها؟
لا تقطع الرواية بجواب نهائي حول ذلك بل تؤرجح  قارئها طوال الوقت بين قطبي الرمزي والواقعي، المتخيل والتاريخي، فإذا كان القارئ يلتقط بسهولة الاشارات الواردة بخصوص الذات الالهية وشخصيات الانبياء والاحداث الكبرى التي عرفتها مجتمعاتهم فإن فهمه يبقى ملتسبا بخصوص العديد من التفاصيل الاخرى، وجود اب لرفاعة، زواجه من مومس، طريقة قتله، ميل قاسم الى الغناء والشراب، فهل يقصد محفوظ ان ينسج احداث روايته و شخصياتها بشكل مبالغ فيه يبتعد بها احيانا عن الشخصيات الواقعية وذلك لكي يذكرنا انها في الاخير رواية وفيها من المتخيل اكثر مما فيها من الواقعي؟
في مطلق الاحوال فان رواية محفوظ تقدم صورة ايجابية عن الجبلاوي بوصفه قويا ،شديدا، عادلا ورحيما،رغم الظلم الذي يحيق باحفاده في كل عصر فهو يترك لهم تدبير شؤونهم حتى و ان صاح كل من ضاقت به السبل : يا جبلاوي، وتظهر شخصيات جبل، رفاعة وقاسم تباعا لكي تغير الاوضاع بأمر من الجبلاوي، فجبل يكلمه شخصيا وان كان هذا الاخير لا يراه، ورفاعة يصله صوت الجبلاوي بينما يرسل خادمه قنديل الى قاسم،وتصف احداث الرواية اخلاص كل من هؤلاء واستماتتهم في تنفيذ رغبة ووصايا جدهم في احقاق العدل وتخليص الناس من الظلم.

"اولاد حارتنا"  رؤية انسانية شمولية :

بغض النظر عن النقاط التي تثير اختلافا وجدلا حول رواية "اولاد حارتنا" فإن هناك بعدا انسانيا حاضرا في احداثها،فالرواية تضع موضع تساؤل تعصب ابناء الحي الواحد لنسبهم (الجبليون والرفاعيون والقاسميون) رغم كونهم ينحدرون جميعا من اصل واحد، وان تفاصيل النسب لا تغير من امر واقعهم شيئا، فالجميع يعيش تحت وطأة قهر الفتوات والفقر والحرمان و احتكار ناظر الوقف للخيرات،و هو واقع يتكرر في كل عصر ولا يستثني احدا،ورغم وجود فترات مضيئة ترتبط في زمن الرواية بظهور جبل، رفاعة وقاسم الا ان الحياة سرعان ما تعود الى ما كانت عليه من ظلم واستغلال.
تسير الرواية بهذا في اتجاه  اقرار ما جاء في قصص الاديان السماوية الثلاث والدعوة الى التسامح بين الاديان ونبذ التعصب، من جهة ثانية فإنها تعمل على رصد واقع مجتمعات ترزح الاغلبية فيها تحت نير اقلية مهيمنة وطاغية،وبشكل ما فان الناس في كل الازمنة يستسلمون امام هذا الواقع ولا يسعون الى نغييره الا بقدر ما يتمكن البعض منهم من الالتفاف حول الرؤية الاصلاحية لاحد احفاد الجبلاوي المكلف بقيادتهم.
 "عمد الاقوياء الى الارهاب والضعفاء الى التسول والجميع الى المخدرات" . يقول نجيب محفوظ هذا (ص 117)، فيستوقفنا التعاطي اللافت والمنتشر  للحشيش  في كل فصول الرواية، فهل كان المقصود بحضور المخدرات استخدامها كرمز للدين إقرارا بما جاء في قول ماركس: "الدين افيون الشعوب"؟ سنلاحظ ان تعاطي الحشيش لم يقتصر في الرواية على فئات معينة دون اخرى، بل شمل الجميع وان اختلفت جودته ما بين الناس البسطاء والفتوات وناظر الوقف، لكن يبقى ان الجميع يدخنه،الارجح اذن ان  الخلفية الفكرية التي تؤسس قولة ماركس  لا تتفق  و سياق ورود الحشيش في الرواية،فإذا كانت الاديان والمذاهب والنظم الاخلاقية بنظر الفكر الماركسي انتاجا ايديولوجيا توظفه بعض الفئات الاجتماعية مدافعة عن مصالحها وامتيازاتها، فان هذا لا يتفق واقرار نجيب محفوظ بكون الاديان السماوية تنفيذا لارادة الخالق عز وجل، وهو ما سبق توضيحه من خلال قصص كل من جبل ورفاعة وقاسم.
الحشيش حاضر اذن لكنه ليس من اختراع ناظر الوقف ولا فتوات الحارة بل هو موجود والجميع يتعاطاه على حد سواء، فهل يشير به نجيب محفوظ الى ما يغيب العقل البشري عن سعادته الحقيقية؟ ما يجعل الانسان قاصرا عن ادراك سر وجوده وكيفية تحقيقه لهذا الوجود، هذا القصور الذي لا يرجع الى طبيعة الانسان بقدر ما يرجع الى تاثير ما يخدر عقله (قد يكون في الواقع الفعلي افكارا او غيرها).
كانت الرواية سببا في الحاق تهمة الكفر والإلحاد بصاحبها نجيب محفوظ ، والواقع انه من السهل ان نتسرع الى حشر الرواية  في خندق الكفر والالحاد، لكن ذلك لن يجيب بحال من الاحوال عن الاسئلة التي تطرحها غير عابئة بحكم من يصفق او من يستنكر،ليس في الرواية ما يسمح بتبرير تهمة الكفر أو الالحاد، فالكاتب أقر بما جاءت به الاديان السماوية وبصدورها عن ارادة الهية،وكانت الاحداث التي تؤثث فضاء الرواية اقرب احيانا كثيرة الى الرصد والتأريخ لواقع معطى.
يصدم نجيب محفوظ القارئ بموت الجبلاوي، ويتوقف البعض عند دلالة الموت في حد ذاتها قبل ان يتوقفوا عند سياقه ، كان موت الجبلاوي نتيجة لزيارة عرفة السرية للبيت الكبير والتي قتل فيها من فرط هلعه خادما عجوزا وعاد منها جريحا دون ان يظفر برؤية الجبلاوي او كتاب شروطه العشرة.
ماذا أراد نجيب محفوظ بكل هذا؟ اذا عدنا الى الفصل الخاص بعرفة سنجد ان هذا الاخير عاد في البداية الى الحارة وبداخله رغبة في الانتقام من سكانها،كان شديد التركيز على تطوير سحره ولم يبد اهتماما او احتراما خاصا للجبلاوي، لكن بعد مغامرته وتسلله الى البيت الكبير تغيرت نظرته،واصبح يعاني أزمة ضمير يحتاج للتحرر منها الى رضا الجبلاوي ميتا وهو الذي لم يهتم برضاه حيا،جريمته في حق الخادم الحقت به تهمة قتل الجبلاوي وبذلك وضعته تحت قبضة ناظر الوقف المستفيد الحقيقي والوحيد من كل ما حصل.
تخبرنا التفاصيل السابقة بأنه في المرحلة الراهنة من مسار المجتمعات الانسانية، يضطلع العلم الحديث بمهمة الكشف عن الحقائق بعيدا عن قداسة كل ما هو ديني،لكن مغامرة العلم ليست انتصارات على طول الخط،لان هناك جانبا من الوجود حتى عند المجازفة  بالبحث فيه فإن الباحث  يخرج منه خاوي الوفاض.في البداية  لم تكن مشكلة العلم تتعلق بالايمان بالدين من عدمه، مثلما ان عرفة لم يأبه كثيرا لما يحكى عن الجبلاوي، فالمشكلة الحقيقية هي معرفة ما كان مجهولا،ايجاد المفاتيح اللازمة للتعامل مع واقع مأزوم. ان محاولة المعرفة هاته هي ما يجعل العلم في مواجهة الدين،جرأة العلم وجرأة عرفة تضعهما في المواجهة،لكنها مواجهة لا تسفر عن التعارض كما هو متوقع،فعرفة يكن احتراما كبيرا للجبلاوي والجبلاوي يوصي خادمته بابلاغ عرفة انه راض عنه، لذلك فإن وقوف العلم الحديث عند مسائل غيبية وميتافيزيقية لا يفهمها لا يمنعه في نهاية الأمر من احترام الاديان والاعتقاد بوجود الخالق.
ومثلما ان عرفة انتهى به المطاف الى وضع اختراعاته في يد ناظر الوقف، فان الرواية تضع العلم المعاصر والتقنية النابعة عنه موضع تساؤل لانها عوض ان تحرر البشرية من الاستغلال والحرمان، منحت للفئات المهيمنة سبلا وأدوات جديدة للاستعباد أشد فتكا وخطورة،وبهذا تتقاسم الرواية  مع الكثير من المفكرين الغربيين نفس خيبة الامل تجاه العلم  والتقنية التي انطلقت من وعود بالرفاهية لتنتهي الى المزيد من الاستعباد.وسواء كان التواطؤ مقصودا أم لا فإن النتيجة واحدة.
ماذا عن نهاية الرواية ؟ إذا فهمنا المنطق الذي يحكم الرواية فانه من السهل جدا ان نتوقع نهايتها، فمن حيث هي تأريخ ورصد لمسار المجتمعات لم تكن لتنتهي الا بوضعية مفارقة تسجل فيها نكسة العلم التي كانت وبشكل مفارق سببا في تزايد الايمان به، ففي نهاية الخمسينات (في عالم لا يزال يحصي قتلى الحربين،و تجاهد فيه بعض الشعوب للخروج بشكل نهائي من وضعية الاستعمار، عالم فتح عينيه على الافاق اللامحدودة للعلم والمعرفة) لم يكن بالامكان ان تنتهي الرواية الى غير ما انتهت اليه.
لكن استحضار ثنائية الدين والعلم يلزمنا بتسجيل معطى اخر يفسر نهاية "اولاد حارتنا" فبعد موت الجبلاوي لم يعد الناس يأملون في ظهور منقذ جديد، وتيقنوا اكثر من اي وقت ان تحسين اوضاعهم راجع الى مجهودهم هم لا غيرهم، ورغم ان هذه كانت رسالة الجبلاوي منذ البداية الا ان احفاده لم يستوعبوها الا بعد موته( مثلما ان المعطى الواقعي يضعنا امام الحقيقة التي يؤمن بها المتدينون بالاديان السماوية وهي ان الرسالة المحمدية هي اخر الرسالات السماوية،و ان اخر خطاب الهي يوحى الى بشر هو القرآن الكريم). بذلك تقع مسؤولية التغيير على كل فرد في الحارة وعلى كل انسان في المجتمع البشري، ربما لهذا عبر عرفة في الرواية - قبل ان يتم دفنه حيا- عن ضرورة احياء الجبلاوي وذلك بتنفيذ وصاياه وجعله يعيش فينا.
نهاية الرواية تعبر عن الامل في العلم كمخلص من الظلمات، العلم الذي يقدم نفسه كأداة للتحرر وليس كبديل عن الديانات، لكن يبقى رهانه الاساسي والذي تتركه الرواية سؤالا اخر بلا جواب هو هل سيحرر نفسه من المتحكمين في مساره ومصيره لكي يساعد هو غيره في تحرير انفسهم؟