الأربعاء، 18 مايو 2016

نوستالجيا الحب والدمار



هي الرواية الثانية للكاتب المغربي السعيد الخيز بعد "سجين الهوامش" ،تطالعها فتترك لديك انطباعا بالانتماء، فعالمها ليس غريبا تماما عنك، خصوصا إذا كنت من الجنوب المغربي وتحديدا من منطقة أولوز حيث تدور أهم الأحداث التي توجه متن السرد.
هي تأريخ بلغة الأدب لحدث واقعي بصم الذاكرة الجماعية للمنطقة: إنشاء سد أولوز مع ما رافقه من تهجير قسري لصغار الفلاحين وتلاعب بالتعويضات التي كان من المفترض أن تصلهم مقابل نزع أراضيهم.
تقدم الرواية على لسان بطلها "أنير" وصفا لمعاناة الفلاحين أثناء و بعد واقعة التهجير، كما نجد فيها مقاطع عن نضالات المهجرين من أجل استرداد حقوقهم المسلوبة و القمع الدموي لاحتجاجاتهم.
الكتابة إذن ومنذ اختيار موضوعها تموقف وشكل من أشكال  الاحتجاج بالنسبة للسعيد الخيز، أن تؤرخ لمأساة المهجرين في عمل روائي يعني أن تضمن إبقاءه في الذاكرة الجماعية طويلا،وذلك بتفاصيل غنية و دقيقة لا تتسع لها مساحات التقارير الإعلامية التي تابعت الموضوع في حينه ثم تآكلها النسيان بظهور مآسي جديدة.
بهذا ينطق "أنير" الرواية بلسان كل من خاب أملهم في وطن يحمي و يحتضن، يصبح أكثر من ابن الجبل الذي يحمل في قلبه بقايا حب لوطن و امرأة، بل يصير أيقونة المواطن الذي تستثنيه حيتان الرأسمال من حساباتها، فيصبح دخيلا في عقر وطنه.
بلغة غاضبة واستعارات قوية يعبر الكاتب عن اغتراب الإنسان وقلقه و توتر علاقته بالوجود، خصوصا أن خذلان الوطن يتعمق بخذلان الحبيبة، إذ تتخلى "ماريا" عن "أنير" بدون سبب يفهمه، و يستغرق زمنا من عمر الرواية يجوب ماضي التهجير و ماضي "ماريا" تائها بين هذا وذاك،قبل أن يجد طريقا تصالحه مع عالمه الموضوعي، عمله كسمسار عقارات فتح له مجالا لمراكمة الثروة و معاشرة نفس الحيتان الذين اقتسموا (أو حاولوا على الأقل) اقتسام كعكة قريته الصغيرة ومنهم زوج ماريا نفسها.
تنتهي الرواية بإصابة "أنير" بورم خبيث في رأسه، ورم ترجعه الرواية إلى إصابة من زمن النضال والقمع، فهل كانت نهاية "أنير" ضربا من مكر "الوطن" الذي يتدخل لإقصاء ابن الجبل من دائرة المتنفذين و لو بعد حين؟ أم أنها طريقة الكاتب في الانتقام من شخصية ناضلت ضد الحيتان زمنا لتتحول بعد ذلك إلى نسخة عنها؟
في كل الأحوال لا ينكر متن الرواية علاقته بالفضاء الواقعي الذي استلهمه،تفاصيل دقيقة عن حياة الفلاحين، أسماء دواويرهم،الغابات المحيطة بهم و أشياء أخرى تذكرك بأن عالم الرواية ليس غرائبيا في شيء،حتى أن كاتبها نفسه يحضر تارة باسمه الأول "السعيد" باعتباره ابن عم "أنير" وتارة باسمه العائلي "دار الخيز".إشارات كثيرة لكي يعبر الكاتب أنه لا يكتب عن الواقعة من خارجها، فالمتخيل هنا تولد من عمق الواقعي لكي يجسده بلغة أخرى غير الرصد المباشر.
لغة السرد كما تقدم قوية واستعاراتها عميقة وبليغة بشكل جميل وهي لا تقدم للقارئ المشهد العام جاهزا منذ البداية،بل تقدمه قطعا كما لو تعلق الأمر بلعبة Puzzle تملك فكرة عن مشهدها العام لكن يكون عليك تناول وتأمل كل قطعة على حدة لكي تضعها من خلال تفاصيلها المميزة في مكانها المناسب من المتن.غير أن القارئ في هذا السياق يضيع الى حد ما بين الحنين الى زمن "ماريا" و مخلفات ما بعد التهجير في مونولوغ مطول يخلف احيانا انطباعا بقراءة نفس المضامين بجمل مختلفة .
تحضر المرأة في الرواية كأصل، كجدة مناضلة،كأم، كحبيبة (ماريا)، كصديقة (كاترين)،كقروية بسيطة (فتيات الدوار)،و لا تشذ الرواية عن تقليد درج بخلق تماه بين المرأة والوطن(ص274)، ف "أنير" خسرهما معا، لصالح "السيد عمراوي" الذي حصل عليهما معا.
يبقى "أنير" الرواية وفيا للموقف الذكوري التقليدي من المرأة،موقف تشوبه مفارقات كثيرة،فالمرأة حين تكون أما فهي مقدسة وتحظى بالكثير من الاحترام، ويمكن ان تكون حبيبة تشغل الكيان وتتعلق بها الآمال،كما يمكن ان تصير عند الحاجة مجرد وعاء لتخليص الرجل من إلحاح نداء الجسد (ص95). تتحدث لغة الرواية بشكل غاضب و ملئ بالازدراء عن الوطن وقد استحال أنثى رخيصة تعرض عرضها لمن يدفع(ص256)، يكون الاحتقار من نصيب بائعة الهوى حتى لو كان "أنير" نفسه زبونا للعديد منهن،فبمنطق ذكوري لا يحاسب الذكر الذي قد يكون اغتصب تلك الأنثى بادئ الأمر و زج بها في طريق العهر،و لا يحاسب الزبائن الذين يخلقون سوقا للطلب،بل يقع اللوم على بائعة الهوى وحدها.
في التمثل الذكوري تواجه المرأة بشروط صارمة،ينبغي أن تكون بطهر وعفة الأم،فتية و بكرا،فالرجل الذي يتورط في علاقة مع مطلقة او عانس ليس أكثر من ضحية (ص225) وكيف يكون كذلك في مجتمع لا يعترف للمرأة بحق المبادرة؟ !! كما ينبغي أن تكون بالقدر الكافي من الجمال، لا تنطلي على الرجل حيلة اخفاء وجهها بنظارات شمسية (ص 177) و لا تشفع لها قسوة ظروف الحياة الجبلية(ص95)،فإما ان تكون أنثى كاملة الأنوثة او لا تكون.
كلما تعمق قهر الشعوب تضخمت- بشكل مفارق - تمثلات الرجولة في مخيالهم، هنا أيضا تبقى الرواية وفية للاوعي الجمعي،إذ أن الذكر  في مطلق الأحوال رجل بغض النظر عن مواصفاته المورفولوجية او الأخلاقية، فمعاشرة ابن الجبل لزوجته رجولة(ص95)، و رفض "أنير" التفكير في خيانة "السيد عمراوي" مع الحبيبة السابقة "ماريا" رجولة ( رغم أنه خان ماريا نفسها مع بائعات الهوى)،كما أن مبدأه الرافض لإلحاق الأذى بأي امرأة نابع من احترامه لرجولة رجل مثله قد يكون أخاها أو أباها أو غيره(ص314).تحتاج المرأة إذن إلى أن تنسب لأحدهم لكي تحظى بالاحترام.
قراءة السطور أعلاه لصورة المرأة في "نوستالجيا الحب والدمار" توقفت عند إشارات من هنا وهناك داخل متن الرواية، إنها ليست رواية عن المرأة تحديدا لكنها كلما أرادت تأثيث فضائها بشخصيات نسائية انطلقت من أواليات ومسبقات ذهنية لاواعية  تكرس الأنماط السائدة في الممارسة التاريخية.هنا ايضا نحتاج الى ممارسة نوع من التموقف والاحتجاج.
"نوستالجيا الحب والدمار" اذن رواية تشبهنا في نواح كثيرة،من الأماكن والأسماء المألوفة، مرورا بذكريات طفولة لامبالية ،وصولا الى وطن يسبقك اليه قناصو الفرص بشكل دائم، إنها حكاية بدأت مع أجيالنا قبل ان تبدأ على صفحات الرواية و تستمر فصولها في كل واحد منا.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق