‏إظهار الرسائل ذات التسميات في العمق. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات في العمق. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 4 يوليو 2016

حديث في الجمال



قبل أن تكتشفي ماذا يعني ان تكوني أنثى ينتقون لك ملابس بألوان زاهية، و يعلمونك ارتداءها مرفقة بالكثير من الأكسسوارات: عقد للعنق، أقراط للأذنين، مشابك للشعر،أساور...واللائحة مرشحة دوما للزيادة. وانت طفلة، تستمتعين بارتداء كل ذلك و بنظرات الإعجاب ممن حولك و قد تستعرضينها بخيلاء أمام شقيقك الذي لم يحصل سوى على سروال و قميص، وقد يحصل ان يغار المسكين ويحتج ان كان في سن مبكرة لا تسمح له بفهم قواعد اللعبة.
كلما قرأتِ قصة عن الأميرات وجدتِ وصفا دقيقا للبشرة الصافية والقوام المتناسق والابتسامة المبهرة،والى جانبها رسم يحرص على تجسيد الوصف بكل أمانة. مبكرا أيضا يقدمون لك هذا المثالIdéal  الذي ينبغي عليك السعي لتحقيقه: هذه المخلوقة الجميلة في بهاء والتي تملك قلبا ينبض بالمحبة لمن حولها و الى جانب ذلك ما يكفي من الذكاء و سرعة البديهة لكي تنقذ نفسها من الصعاب.
من الواضح ان المجتمع يسوق لنماذج معينة تعلمك كيف تكونين جميلة، مقاييس دقيقة و صارمة تغذي باستمرار شعورك بعدم الرضا عما أنتِ عليه ، و يكون هذا أحيانا كثيرة في صالح الشركات التي تتحفك بمختلف المنتجات النسائية،فكل منها تجتهد لكي تقدم لك حلا ل"معضلة" الجمال. فالجمال يصبح مشكلة حقيقية بالنسبة للمرأة التي تسعى للحصول عليه مهما اقتضى ذلك من جهد ومال، مشكلة بالنسبة لتلك التي تسعى للحفاظ عليه في مقاومة شرسة لعوامل الزمن حتى لو اقتضى الأمر اخضاع وجهها لمبضع الجراح،حتى لو كانت النتيجة وجها مشدودا الى درجة العجز عن الابتسام بشكل طبيعي و تلقائي.
يمكنك ببعض التفكير ان تكتشفي كيف ان مقولة الجمال تنطوي على قدر من القبح، فمن جهة، ليست هناك امرأة على القدر الكافي من الجمال، ينبغي دوما ان يتم تعويض قصورها الطبيعي  بالملابس والاكسسورات والمستحضرات وغيرها.إضافة الى ذلك فحتى المرأة التي تحقق الى حد كبير نموذج الجمال المطلوب لا تلبث أن تُختزل فيه، من يهتم إن كان للمرأة داخل رأسها الجميل عقل يفكر؟
دعينا إذن نسطر على هذه الفكرة: نموذج الجمال الذي يشعرك بالنقص و يجعلك مجرد شيء او متاع لا ينبغي ان يعنيك في شيء.فأنت اكثر من ذلك بكثير.
ثم لنتوقف قليلا عند نموذج الجمال هذا،ربما تنبهتِ من قبل الى ان معايير الجمال تتغير بتغير المجتمعات، ففي منحوتات تعود الى عصور ما قبل التاريخ تم تجسيد المرأة بجسم مكتنز ضخم، وقام نحاتو الإغريق القدامى في مرحلة معينة بتجسيد النساء بأجسام رياضية شبيهة بأجسام الرجال(كما جسدتها منحوتات نفس الحقبة)، وفي ثقافتنا المحلية بدون شك أمثلة تكشف كيف أن المقاييس التي اجتهدت جداتنا لتحقيقها هي تحد طريف و مضحك بالنسبة لنساء جيلنا الحالي.
الفكرة هنا ببساطة ان البشر يختبرون الاحساس بالجمال، و يعرفون الرضا الذي يخلقه في أنفسهم مشاهدة الجميل، لكنهم يبحثون منذ بدء الخليقة عما يحدد هذا الجميل دون ان ينتهوا الى نتيجة حاسمة واضحة المعالم.لذلك فعوض ان ترهقي نفسك بمحاولة تحقيق المطلوب منك كشيء جميل دربي نفسك على رؤية الجمال خارج الأنماط السائدة،كوني أنيقة اذا اردت، احتفي بالألوان، تحركي بثقة، لكن لا تقبلي بان يتم اختزالك في جسد او سن معينين، حرري ذائقتك الجمالية، في البدء سيكون عليك ان تنصتي لسحر العالم من حولك، كي تكتشفي جمالا مختلفا كل مرة،في القامة المتحدية لعاملة المصنع، في الوجه المنشغل لربة البيت، في بريق الطموح بعيون المناضلة، في حياء الفلاحة، و جرأة الطالبة على ممارسة شغب التفكير،في القائدة بكل نعومة، في الزوجة والأم عن حب،في المطلِقة لشراكة غير عادلة،في العازبة عن اختيار، في الملامح البريئة لصبية دون العشرين و في الوجه المتغضن لامرأة عجوز.
تذكري انك لست معنية الا بتحرير الجمال ممن جعلوه سلعة يبتزون بها روحك التواقة الى الحياة
تذكري ان الجمال حرية وليس خندق مقاييس تسجنين فيه نفسك طوال الوقت
تذكري ان تسمحي لسحرك الخاص بان ينبثق و يشع من حولك
اصنعي الجمال في كل أفعالك بدل ان ترغمي نفسك على استنساخه فيك
لا تكوني جميلة و لكن كوني بشكل جميل
و تذكري ان لحديث القوارير باذن الله بقية

الجمعة، 6 مايو 2016

لستِ مجرد ربة بيت !!


 
أسألها عما تفعله في حياتها فتجيبني: "غيرْ ربة بيت" (مجرد ربة بيت)، فأفكر في نفسي: "مجرد ربة بيت،في مجرد أسرة، في مجرد مجتمع، هل تدرك هذه المرأة موقعها من الصرح؟ "
نساء كثيرات يربطن الإنجاز في حياتهن بما يحققنه في الدراسة أو العمل، أو حتى العمل الاجتماعي و التطوعي، من المؤكد ان المجتمع يحتاج طاقاتهن الخلاقة في كل هذه الميادين، لكنهن تعلمن بشكل ما أنهن لن  يحققن النجاح إلا بعيدا عن المنزل، ولذلك تُعرٍف ربات البيوت عن أنفسهن بادئات بكلمة "مجرد" كما لو كان ما يقمن به أقل شأنا من غيره.
تمثل وإدراك ربة البيت لدورها تتدخل فيه عوامل عدة،من بينها توزيع الأدوار والفضاءات بينها وبين الرجل في الممارسة الثقافية و تجذر هذا التوزيع عميقا في تاريخ المجتمع، هكذا يصير فضاء البيت "الآمن" من نصيب المرأة بما يرتبط به من أشغال منزلية فيما يبقى خارج المنزل هو فضاء الرجل بامتياز، حيث "العمل الشاق" الذي يتطلب مجهودا "حقيقيا".
من يدري؟ ربما بدأ هذا التقسيم  في زمن ما مع رجال محبين أرادوا تدليل نسائهم  وتصرفوا بطريقة  حمائية في عصر كان من السهل فيه انتهاك الحقوق والحرمات والإفلات من العقاب، لكن الأمر تطور تدريجيا الى تقسيم مقدس للأدوار  بحيث أصبح أي تواجد للمرأة في الفضاء العام خرقا لتلك القداسة،و راكم الوعي الجمعي تدريجيا كثيرا من التصورات التي تبخس قيمة المرأة و دورها خصوصا وأن كل الإنجازات ذات الأهمية الملموسة في حياة الجماعة تحدث خارج فضاء البيت.
تحول الأمر من تقسيم معين للأدوار (بما يعني على الأقل أن للمرأة دورا تقوم به في المنزل) إلى اعتبار المرأة عالة على الرجل، بما أن عليه توفير مسكنها،طعامها و لباسها وكافة حاجياتها،و استمر وضع المرأة في التدني إلى أن أصبحت شيئا من أشياء المنزل،و العامية المغربية دالة في هذا المجال،فكثيرا ما يستخدم مصطلح "جابها" عوض ارتبط أو تزوج منها كما لو كانت الزوجة متاعا آخر يؤثث فضاء البيت.
في هذا السياق، ينقاد كل من الرجل والمرأة - مدفوعين بأنماط التنشئة الاجتماعية حول توزيع الأدوار والتمثلات المرتبطة بها- إلى تبخيس دور المرأة في البيت، فكلاهما لا يرى النتائج الفورية والملموسة لما يمكنها أن تفعله، و بما أن عملها داخل المنزل "غير مأجور" بالمعنى الحرفي للكلمة فإنه بنظرهما لا يعد عملا من الأصل.
عندما يصل الرجل إلى مثل هذه القناعة فإن أيا مما ينفقه يصبح في اعتقاده مِنة وتفضلا منه،ولذلك فقد يقدمه بشيء من التأفف أحيانا،وقد يقتر في الإنفاق وقد يمعن في الإذلال مع الإنفاق،وقد يتعاطى مع شريكته بمنطق الربح والخسارة فهي عندما تكلفه أكثر مما تستحق- من وجهة نظره- فقد يحاول الحصول على أفضل منها بتكلفة أقل، فيساوي في تعامله معها بينها وبين أي شيء آخر،وليس من قبيل الصدفة أن يماهي ويطابق الرجال في مزاحهم مع بعضهم البعض بين نسائهم و سياراتهم: "أصبحت مسنة، غير اقتصادية وكثيرة العطب؟ استبدلها بأخرى !! "
استطاعت النساء (مستفيدات من ظروف تاريخية محددة ارتبطت بسياق ما بعد الحرب العالمية الأولى خصوصا) الخروج إلى مجال العمل و خوض نضالات متعددة لانتزاع حقوقهن في أجور مساوية للرجال،و التصويت و التمثيلية السياسية... وبقية القصة معروفة، مغزاها الأساسي أن بوسع المرأة أن تقدم أداء ممتازا في سوق الشغل وان تشغل كافة المناصب،بالطبع تطلب الأمر الكثير من الجهد لتحطيم القوالب النمطية السائدة حول حضور المرأة في الفضاء العام..لكن المرأة صرخت في وجه العالم "نعم نستطيع !"
في عالم اليوم،تعمل كثير من النساء ليس لإثبات الذات و لكن بسبب الحاجة، تعملن، ليس في مجالات حيث هناك فرص الإبداع والتميز بل حيث هناك مجرد اجر يساعد على تدبير تكاليف العيش مهما كانت ظروف العمل قاسية.
 بالنسبة لكثير من النساء أيضا،يظل العمل خارج المنزل اختيارا للمرأة نفسها و للأسرة،لكن ماذا لو اختارت فضاء البيت ؟ كيف السبيل إلى تصحيح و تصويب تمثلاتنا عن "ربة البيت" بما يخرج بها من دائرة التبخيس و التنقيص؟
يتعلق الأمر بتمثلنا عن الأسرة والزواج،إذ يفترض أنها مؤسسة قائمة على الشراكة التامة بين طرفين،حيث تفرض الحياة المشتركة عددا من المهام، يكلف البعض منها  مالا،والبعض الآخر يكلف وقتا و جهدا، يمكن للزوجين أن يتفقا على شكل محدد لتدبير المهام بينهما، وعندما يختاران الإنفاق من عمل أحدهما يهتم الثاني بالمهام المرتبطة بالمنزل.في أوروبا مثلا يحدث أن  يتفق الزوجان على أن تعمل الزوجة (إذا كانت ستحصل على راتب أعلى) فيما يتكلف الزوج بتدبير شؤون البيت لأن رعاية احد الأبوين للمنزل والأبناء أكثر أمانا واقتصادا من استخدام مربية أو خادمة، ولا يتعلق الأمر هنا بالدعوة إلى تطبيق النموذج نفسه،لكن نشير إلى أن مهام التنظيف والطبخ والاهتمام بالأبناء والتي تقوم بها ربة البيت عادة يمكن أن تكلف أموالا لا يستهان بها من ميزانية الأسرة، لذلك لا ينبغي التعامل مع ربة البيت وكأنها لا تقدم شيئا،لأنها في الحقيقة تعمل بدوام كامل، دوام لا ينتهي بساعات عمل محددة ولا تدافع عن تحسين شروطه أي نقابة.
تذكري أن مهامك داخل البيت هي بمثابة عمل قائم الذات،ان كنت تضطلعين بمسؤولياتك التي اخترتها في الحياة المشتركة على أحسن وجه فلا ضير من أن تقدري ما تقومين به أولا كي يقدره غيرك.
أحيانا تكون ربة البيت أكثر من يسيء الى ربة البيت،تسمح لروتين الحياة اليومية أن يبتلعها فتقوم بكل شيء بشكل آلي وخال من أي إحساس بالمتعة او الابتكار وتنساق الى اهتمامات سطحية تغرقها في الجهل و ضحالة الفكر،إنها في هذه الحالة أشبه بموظف كسول اطمأن الى حصوله على منصب الشغل و أصبح بالكاد يقوم بالمطلوب منه، يتذمر كثيرا و لا يعمل أو يبدع إلا لماما،تتقادم معلوماته عن كل شيء،ويسوء أداؤه بشكل يجعل كل من يتعامل معه يعاني من ضعف كفاءته.مع اختلاف بسيط أن ربة البيت تعتبر نفسها مجرد موظفة في شركتها التي تملك في الحقيقة نصف أسهمها.
تذكري أن إدارة الحياة المشتركة مثل أي عمل آخر يتطلب الكفاءة و الاطلاع على كل جديد لتطوير الأداء و مسايرة تغيرات الواقع، إن كنت أمية و قرأت لك إحداهن هذه السطور اشرعي بتعلم القراءة والكتابة، ان كنت متعلمة اطلعي اكثر كي لا تسقطي في أشكال الأمية الجديدة، اعتني في كل لحظة بمهاراتك و مواهبك لأنها ما يميزك و ما يجعل للشراكة معك نكهتها الخاصة جدا.
تذكري أن من رحمك،ومن حضنك ومن دفء يديك يحصل المجتمع على موارده من  الأفراد،فاجتهدي لكي تقدمي أفضل ما عندك،خصوصا وأنك تقضين وقتا أطول في الغالب مما يقضيه زوجك مع أبنائكما.
يحتاج الوطن للشرفاء،لمواطنين صالحين، لأصحاب مبادئ، لديمقراطية ينصرها الشعب في خياراته اليومية قبل أن يطالب بها، و يمكن لكل هذا أن يبدأ من البيت، بيتك، فاجعليه مدرسة وافخري بمنتوجك كما قد يفعل أي صاحب شركة ناجح.
تذكري أن صرح الوطن لا يعلو إلا بمواطنيه، و أبناؤك من هؤلاء المواطنين يختزلون الوطن فيكِ،فاجعليهم يفخرون بالانتماء إليكِ..
وتذكري أن لحديث القوارير بإذن الله بقية






الأربعاء، 13 أبريل 2016

إعاقة



كثيرا ما يكشف تعاملنا مع الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة على أن لنا أعطابنا الخاصة،كثيرا ما نتأمل الأشخاص في وضعية إعاقة فقط لكي نستشعر نعمة الجسم السوي، لكي نحمد الله على أنه جنبنا هذا الواقع المؤلم، ومنا من يسمح لنفسه بأن يفسر هذا المصاب أو ذاك بأنه انتقام من الله عز و جل يعاقب به المعني بالإعاقة أو أحدا من ذويه.وحتى عندما نشعر بالتعاطف  نشيع الشخص بنظرات الشفقة في كل حين كما لو كنا عاجزين عن رؤية الروح التواقة الى العيش خلف كلمة "معوق".
تحصل الأشياء لسبب ما، وينبغي ان نقر أن الأسباب أحيانا كثيرة تتجاوز قدرتنا على الفهم أو الإدراك، ما الحكمة في أن يحرم بعض الناس من متع إنسانية بسيطة كتأمل ملامح أحبائهم؟ و في أن يولد آخرون بقدرات حركية او ذهنية أقل من غيرهم؟
نقف حيارى امام أشكال المعاناة والألم،قد يقدم لنا العلم أجوبة حول "لماذا؟" أو "كيف؟"  أجوبة تظل مع ذلك غير كافية، خصوصا بالنسبة للذي يعيش وضعية الإعاقة و يرن في ذهنه السؤال : "لماذا أنا بالذات؟" أو بالنسبة للآخرين الذين يحتاجون تفسيرا ميتافيزيقيا ما يجعل الأمر مقبولا لديهم.
الأكثر مرونة من بيننا - والأكثر تميزا بالتأكيد- هم أولئك الذين يدركون بحدسهم أن ثمة فرصة لجعل وضعية الإعاقة نافذة على خيارات أخرى ممكنة. عندما يصير تناول الطعام، تغيير الملابس، تعلم الكتابة او ممارسة رياضة ما تحديا حقيقيا فبعض الأشخاص في وضعية إعاقة يقبلون بهذا التحدي. تخبرنا نجاحاتهم انه يمكن للشخص ان يعاني من صعوبة في تحريك ذراعيه ويكتب مع ذلك بخط جميل،يمكن ان يكون بلا ذراعين و يغير ملابسه و يعتني بنفسه،يمكن أن يمارس رياضته المفضلة على كرسي متحرك، و يمكن أيضا أن يهيئ طعامه و يعتني بمنزله دون أدنى قدرة على الإبصار.
ثمة درس بليغ نتعلمه على الدوام من نجاحات كهذه: العجز في نهاية المطاف هو شعور نفسي داخلي أكثر من أي شيء آخر،عندما تنصت إلى روحك بما يلزم من التيقظ  فإنك تدرك بالقدر الكافي من الوضوح ان الجسم البشري بدأ على هذه الأرض هشا و محدود القدرات، و لا يزال كذلك،بالتالي فإن كل ما تحققه في ظل وعيك بحقيقة ضعفك البشري هو في حد ذاته قوة وانتصار.
نحن الذين نعيش في عالم من الأشياء المصممة خصيصا لتسهيل حياتنا اليومية فقدنا بالتدريج تلك القدرة على الإنصات إلى ذواتنا،إلى أرواحنا،والى هشاشة أجسامنا،إذ تمنحنا الآلات التي اخترعها غيرنا إحساسا مزيفا  بالسيطرة والتحكم، كلما اقتنينا المزيد من تلك الأشياء زاد اطمئناننا إلى اكتمال وجودنا،دون ان ننتبه الى تحولنا البطئ الى كائنات ترى الكثير دون ان تبصر شيئا، تسمع دون ان تنصت، تستخدم أطرافها بأكبر اقتصاد ممكن للحركة، تملك ذهنا لكنها لا تتعب نفسها كثيرا بالتفكير.
في هذا العالم المصمم للبشر "الكاملين" لا يجد الأشخاص في وضعية إعاقة مكانهم، لأن وهم الكمال يستثني اختلافهم، لذلك احتاجوا على الدوام إلى من يتحدث باسمهم عاليا و بالصخب الكافي لإنصافهم، قد يمثلهم أعلام من هذا المجال أو ذاك،أسماء أدهشت العالم كما فعلت هيلين كيلر -الكاتبة الصماء البكماء و العمياء- أو كما فعل بيتهوفن  -الموسيقار الأصم-  لكن المؤكد أن  هناك جيشا خاصا يحارب على الدوام في صف الأشخاص في وضعية إعاقة، هؤلاء في معظم الحالات هم الأهل والأقارب، إذ عندما ترزق عائلة ما بطفل مختلف، بطفل من ذوي الحاجات الخاصة، لا يمكن إلا أن تكون عائلة مختلفة، إنها عائلة تغادر الى غير رجعة وهم الكمال لتتعامل مع القصور البشري كل يوم، ليس القصور المتمثل في طفلها المختلف فحسب ولكن القصور الكامن في كل واحد من أفرادها وفي كل فرد من أفراد المجتمع المحيط بها.ومرة أخرى تأتينا بعض الدروس الرائعة من هذا الوعي التام بحقيقة الضعف البشري، دروس في الحب غير المشروط والدعم غير المشروط للابن المختلف و لحقه في أفضل الخيارات الممكنة، دروس في النضال اليومي من أجل منح المجتمع مواطنا  متعلما مسؤولا حاملا لقيم و لرسالة، نفس المواطن الذي لا يستثمر المجتمع نفسه الكثير من أجل الحصول عليه،نفس المواطن الذي تعجز أسر كثيرة جدا عن تخريجه بعد ان اختزلت دورها كمؤسسة بيولوجية في التناسل وحده.
أمعني النظر حولك وأرهفي السمع و التقطي مثل هذه الدروس والرسائل،لأن وعيك بالضعف هو ما قد يجعل منك أكثر قوة مثلما ان الاعتقاد التام في امتلاك القوة يجعل صاحبه أكثر ضعفا وهشاشة.
وتذكري ان لحديث القوارير دوما بقية.



الثلاثاء، 16 فبراير 2016

الشيء الجميل الممتع




تتعرض النساء للتعنيف،ليس هذا بالأمر الجديد، فمنذ فجر التاريخ بدت النساء من بين الحلقات الأضعف في المجتمعات البشرية، و وجد الكثيرون طريقا للنضال في تخليصهن من أشكال العنف المادي والرمزي التي يكن ضحية لها بشكل أو بآخر.
من الصعب أن نحاصر إشكالية العنف ضد النساء دون الغوص في مسبباتها ومن الأصعب ان نفصل في تلك المسببات بين ما هو نفسي وما هو بيولوجي وما هو محض ثقافة.يمكن للمناضلين من اجل حقوق النساء ان يتحمسوا في تصوير المرأة و كأنها الكائن الوحيد المستهدف بالعنف في المجتمع،لكن موقفا كهذا يتجاهل حقيقة واضحة تنطق بها نشرات الأخبار في كل حين: نحن نعيش في عالم يسوده العنف و يختار البعض فيه استعمال القوة من أجل إخضاع البعض الآخر.لماذا؟ بكل بساطة لأنهم يستطيعون ذلك.
أحيانا كثيرة لا يقلقنا العنف إلا إذا صار صارخا، فمشهد رجل يعنف زوجته (أو زوجته السابقة) على الملأ بشكل وحشي يصدم الكثيرين خصوصا ممن اعتقدوا أن تغيير القوانين يمكن ان يكون رادعا نهائيا ضد السلوكيات العنيفة، والحال أن القوانين على أهميتها القصوى لن تمنع دوما حقوق النساء من الانتهاك.كيف بوسع القانون ان يمنع تحول الزوج من رجل محب يخطب ود المرأة و يتعهد برعايتها إلى وحش ضار يكيل إلى جسمها الضربات كما لو كان في نيته إنهاء حياتها؟
من الواضح ان علاقة تنتهي بهذا القدر من العنف لم تكن قائمة من الأصل على أسس سوية، الأمر أشبه باستخدامك لأداة ما لمدة من الزمن ثم عندما يحدث خطب ما تسمح لنفسك بالانفجار غضبا ثم تحطيمها بحجة انها "عْكْسْتْ !!"
ينزع العنف  صفة الإنسانية عن الشخص المعنف (بفتح النون) و يجعل منه مجرد شيء، هذا التشييء هو ما يوهم العنيف على ان بوسعه ان يفعل ما يحلو له، و يجد دوما مبررات لفعله: "كنت غاضبا جدا" "لا تفعل ما أطلب منها" ، "تتحدى أوامري" ،اذا اقتنيت آلة ما فإنك تفكر انها صممت لإرضائك ولن تتوقع أو تسمح لها بأن تشتغل على هواها و يكون بوسعك في كل وقت ان تستبدلها بأخرى او تبيعها او تتركها في ركن مهمل من البيت.
قد يبدو هذا تشبيها فجا، لكن العديد من الرجال يتعاملون مع نسائهم وفق المبدأ الذي يسمح لإنسان  بأن "يستخدم" إنسانا آخر فالمسألة بعيدة كل البعد عن تأسيس شخصين لعلاقة إنسانية، و يمكن -بالمناسبة -للمرأة أيضا ان تمارس هذا النوع من التشييء والعنف في حق الرجل.
قصص العنف الزوجي قد تنسج في واقع التفقير و التهميش، هذا الواقع هو بحد ذاته عنف  يمارس في حق شرائح اجتماعية كاملة تحرم من فرص العيش الكريم و تفرض عليها خيارات ضيقة، لكنه لا يفسر لوحده إقدام بعض الأزواج على إيذاء شريكاتهم، لأن العلاقات الإنسانية السوية لا تتقوى بالظروف المادية  وحدها ( وإلا لكان الأزواج الميسورون تلقائيا أسعد من غيرهم وهو أمر غير واقعي) ،فكون العلاقة إنسانية هو تحديدا ما يجعلها غير قابلة للاختزال في البعد المادي للأخذ والعطاء، بعبارة أوضح، عندما تختزل المرأة في مقدار شبابها وجمالها أو مهارتها في تدبير المنزل أو حتى مقدار ثرائها... فإنها لن تكون أبدا طرفا في علاقة سوية ، تماما مثل رجل يختزل في مقدار شبابه أو وسامته أو سعة إنفاقه أو مكانته الاجتماعية أو غيرها...عندما لا ترى في الآخر إلا ما يمكنك الحصول عليه منه تسقط في العلاقة التشييئية التي تتيح لك فورا ممارسة العنف متى عن لك ذلك، فأنت لست إزاء إنسان يمتلك من الكرامة والقيمة  قدرا مساويا لما تملك أنت نفسك، بل إزاء شيء يفترض به إرضاؤك وإلا فلم الإبقاء عليه؟
قد ينتهي هذا النوع من العلاقات غير السوية بمشهد عنف وحشي، و قد يثمر ظواهر أخرى لا تقل عنفا رغم أنها أقل إقلاقا للشعور الجمعي على اعتبار ان الضرر منها أقل ( ولكن هل هو كذلك فعلا؟ !)، تعرض المرأة على أنها "الشيء الجميل الممتع" في الإعلانات و الأفلام، و تساهم دور الأزياء و شركات التجميل في ترسيخ هذه الفكرة لدرجة تتماهى معها المرأة نفسها فتجتهد طوال الوقت في ان تكون "النموذج الجميل و الممتع" الذي يتحدث عنه الجميع، وهي مستعدة في سبيل ذلك لتغيير ما يلزم تغييره من تفاصيل جسمها و عاداتها الغذائية واليومية بما قد يعرض صحتها الجسدية و النفسية للخطر أحيانا وغايتها أن تكون "شيئا جميلا و ممتعا" بالنسبة إليه. لكنه ليس مرشحا دوما لأن يكون شريكا حقيقيا، إذ بما أنها صارت "شيئا جميلا"  ،وصار هناك الكثيرات جدا مثلها، فقد يصير هو تلصصيا او متحرشا، فهو يمتلك كل امرأة تقع عليها عيناه، لمجرد انه دفع ثمن فنجان في مقهى على رصيف الشارع العام.
تستوقفني في كل مرة كلمتان وصف بهما الله سبحانه و تعالى العلاقة بين الزوجين: المودة و الرحمة، المودة ليست ذلك العشق الذي تفقد نيرانه توازن المرء ثم تخبو جذوته كأن لم يكن يوما، المودة كزخات مطر خفيفة تسقي الأرض على مهل،هي بالضبط  ذلك المقدار من الدفء الذي تحتاج إليه لكي تطمئن في كل حين على استثمارك لسنوات الشيخوخة، أما الرحمة وهي من صفات الرحمن عز و جل، تجعل كل طرف يرحم اختلاف الآخر، يرحم كبواته، و يرحم ضعفه متى ضعف، فيكون سندا له.
هذا المثال Idéal   قد يتحقق على أرض الواقع احيانا، ولكن أحيانا كثيرة نضل طريقنا إليه، يمكن بسهولة ان يجد المرء منا نفسه ضحية لعنف الآخر، وقد نجد انفسنا مرتكبين لهذا العنف، إذا كان الخطأ جزء من تركيبتنا كبشر، فإنه لا ينبغي ان نضل بأي شكل الطريق الى أنفسنا، وكلما كانت طريقنا الى ذواتنا واضحة، كلما استطعنا ان نختار الصواب متى وجدنا أنفسنا في مواجهة العنف.
لا أحد محصن بما يكفي ضد العنف، يكفي ان تتزعزع ثقتكِ بقيمتكِ لسبب من الأسباب،فتشرعين في تبرير سلوكاته و تلومين نفسك عليها،ثم يتحول عنفه اللفظي الى تهديدات، فلا تلقين لها بالا، ثم سرعان ما يشرع في ممارسة العنف الجسدي، فتسامحين لأنها المرة الأولى ثم لأنه كان غاضبا ثم لأنه كان نادما..في لحظة ما يكون عليك ان تعترفي لنفسك ان العلاقة غير سوية عندما تجدين مؤشرات حقيقية على أنها كذلك، وعندها يكون عليك ان تختاري طريق الخلاص، وقد يمر طريق الخلاص بالنسبة الى امرأة معنفة بممارسة العنف المضاد في حق الرجل، و يتطلب الأمر امرأة حرة، امرأة حقيقية لكي ترفض العنف دون ان تسقط في ممارسته.
تذكري الا تضيعي الطريق الى تلك المرأة الحرة.