الأربعاء، 5 أغسطس 2015

فوضى القصاص




تحكي بضع صفحات من رواية "زمن الأخطاء" لمحمد شكري عن تفاصيل مريعة للفوضى او "السيبة" التي اجتاحت  مناطق من المغرب فجر الاستقلال،حيث كان التخوين والتعذيب و التقتيل سلوكا ينخرط فيه الافراد بشكل عفوي و  دون ادنى تفكير.
اتذكر هذا وانا اقرأ على مواقع التواصل الاجتماعي -بالصور احيانا- أنباء من هنا وهناك عن مواطنين يضربون لصا  ويفقأون عينيه او يرجمون آخر حتى الموت. ربما تعودت أبصارنا على جثث القتلى و مشاهد الدماء المتناثرة على صفحات الجرائد و القنوات الفضائية لكن ضمائرنا ينبغي الا تطبع مع كل هذا و  ان تبقى دوما يقظة لتطرح التساؤل حول ما حدث و يحدث..
ان يتدخل المواطنون بأنفسهم جماعة لمعاقبة "مجرم" او "جان" في دولة لها مؤسساتها و قوانينها فهذا مما يجب التوقف عنده بالكثير من الجدية،ليس فقط لأن عقوبتهم تجاوزت بكثير طبيعة الاعتداء (فقأ العينين والقتل من أجل سرقة) ولكن لأننا بصدد سلوك يفرغ الدولة من كل معنى و يغيب صفة المواطنة ليجعل الافراد تحت رحمة بعضهم بعضا.
ولا أكتب هذا لكي أسجل شكلا من أشكال التعاطف مع اللصوصية او الاجرام،بعيدا عن هذا على العكس من ذلك،لكنها دعوة للتفكير في مسببات سلوك المقتصين و أبعاده.دعوة الى التفكير كمواطنين في صورة أقل وحشية لمغرب لم نرد له ان يكون هكذا لكن مازال بإمكاننا ان نختار مغربا أفضل نعيش تحت حمايته.
عندما نحلل سلوك المقتصين نقرأ تعبيرا واضحا عن خوف ويأس و تفريغ لما احتقن من غضب  في شخص أول من شاء سوء حظه ان يصادفهم،ولا أدري الى اي حد يمكن ان نعتبر ما فعلوه سلوكا ثائرا لكن هيجانه امر لا شك فيه.
فلنتوقف عند الخوف أولا، المواطنون الذين لم يسبق لهم التعرض للسرقة تحت تهديد السلاح يعرفون على الاقل شخصا من ذويهم او معارفهم مر بتلك التجربة ،والذين ليسوا من هؤلاء ولا من أولئك يقرأون كل يوم على الجرائد و مواقع التواصل الاجتماعي أخبارا متنوعة عن حوادث اعتداء شنيعة.
 يتعمق الاحساس بعدم الامان كلما رأى الناس فيديوهات لضحايا غارقين في دمائهم بعد ان تم تشويه وجوههم او رأوا من جهة أخرى صورا وفيديوهات لمجرمين يتباهون بألبستهم وساعاتهم و سيوفهم دون ادنى اكتراث.يتعمق إحساس المواطنين بالخوف كلما ارتفعت مستويات الجريمة و تنوعت واغرقت في البشاعة،ومن البديهي ان تتعلق أعينهم بالقانون ومؤسسات الدولة لكي توفر لهم الحماية،ان كان بوعي منهم بمسؤوليتها الكاملة عن ذلك او عن جهل ممزوج بالعجز عن حماية انفسهم وذويهم و ممتلكاتهم في كل حين..وهنا ينبغي ان نتحدث عن تنامي شعور مقلق باليأس،يأس المواطنين من جدوى اللجوء الى الدولة ومؤسساتها،قصص كثيرة ترسخ هذا اليأس،قصص عن مجرمين عتاة حتى بعد القاء القبض عليهم وسجنهم لبضعة أشهر او بضع سنوات يخرجون ليعيثوا في الارض فسادا من جديد، وحتى عندما يقرر احدهم بعد عمر من الاجرام ان يتقاعد تكون شوارع الحي قد قدمت عددا من المراهقين اليافعين الذين التحقوا بقطار الجريمة للتو من أجل قيادته بكل عنف وعنفوان شبابهم..بقدر قتامة هذه الصورة بقدر ما يتنامى يأس الناس و يتضاعف قلقهم و توترهم.
لكن اسباب التوتروالغضب لا تقتصر فقط على السرقات التي تحدث هنا وهناك في احيائنا،لان الغضب الحقيقي الدفين ( دفين بسبب الجهل ممزوجا بالخوف) سببه سرقات اخرى تحدث على مستوى اعلى،على مستوى الاموال العمومية التي تعد بملايير الدراهم،سرقات اضحى المواطن المغربي اكثر وعيا بها مما مضى،بسبب ارقام تنشر من حين لآخر على وسائل الاعلام المختلفة حول اجورخيالية او امتيازات او تعويضات بغير استحقاق او نهب واختلاس مباشرين، يقرأ و يهتاج ثم يلزم الصمت دونما وسيلة للتأكد من صحة ما ينشر او نية للبحث والمطالبة بتفسير لما يقرأ،و ذلك طبعا مع يأس متجذر من اي تغيير،يقرأ المواطن عن مبالغ بملايير الدراهم تنهب او تبذر،ثم ينصرف في كمد الى هاجسه المعتاد في جعل راتبه او مدخوله الهزيل يسد حاجياته المتزايدة،وعندما يجد لصا في سوق او شارع عام او يسمع الاخرين يصرخون "لص !! لص !! " و ينهالون عليه ضربا او رميا بالحجارة ينخرط بكل غضب و حقد و يده مع يد الجماعة، وكأن الشخص الذي وقع بين أيديهم هو كل لصوص البلاد مجتمعين، وهم يهوون بقبضاتهم و حجارتهم لا يتساءلون: لماذا يسرق؟ كيف تحول الى لص؟ لماذا يعود الى السرقة وبشكل اعنف بعد مدة سجنه؟ أليس هناك ما يمكن فعله لمنع السرقات؟ والسؤال الاهم من كل سؤال اخر: هل سرق هذا الشخص فعلا؟
في السوق الشعبي حيث يقفون و في شارع المدينة حيث يقطنون،يشعر هؤلاء المواطنون ان لا تأثير لهم على ما يحدث في بلادهم،و انهم على بعد مسافات ضوئية من اللصوص الكبار،لذلك يصبون جام غضبهم على لص حقيبة وقع بين ايديهم،وفي العمق قد لا يكون هناك فرق بينه وبينهم، فمثلا عندما تسأل لصا لماذا تسرق؟فقد يبرر أفعاله بالفقر وضيق الحال وانعدام الافق،ولكي يحارب فقره يسرق من هم أفقر منه، كذلك المقتصون عندما يصبون غضبهم على مستضعف مثلهم.
العدالة لم تكن يوما ردود فعل انفعالية والا لما ارفق الله سبحانه وتعالى كل آية عن القصاص بأمر بالقسط والاحسان،وعظم اجر المحسنين،العدالة الحقيقية في احد أشكالها تقديم كل جان او معتد لمحاكمة عادلة،توضح فيها القرائن ويتحدث فيها الشهود ويمنح المتهم فرصة للدفاع عن نفسه و يصدر الحكم عن قاض مختص،وإذا كانت الاحكام غير زجرية او غير عادلة،ساعتها ينبغي النضال لتغيير القوانين ان كان ثمة قصور فيها،او النضال لمحاسبة القضاة ان كان ثمة شبهة فساد او الضغط على الحكومة بوزاراتها المختلفة للتعامل بشكل جدي مع الجريمة بشكل وقائي واستباقي.
ان لم تكن بالنضج والوعي والشجاعة الكافية لتنخرط في كل هذا فعلى الاقل لا تلطخ يدك بدم مواطن مثلك.فقد تفاجأ يوما ما بأحدهم يصرخ "لص !!لص !!" وقبل ان تجد متسعا من الوقت لتبحث عنه تنهال عليك الضربات من حيث لا تدري.

الثلاثاء، 12 مايو 2015

بدايات جديدة



أثارت قضية الوزيرين بن خلدون و الشوباني منذ مدة الكثير من اللغط الاعلامي،و حيث أن جولة سريعة في الصحف المتحدثة عن الامر لا تعطينا تصريحا مباشرا للمعنيين بالامر حول المسألة يبقى من الثابت طلاق الوزيرة المنتدبة و احجامها و زميلها في الحكومة عن ري ظمأ المتعطشين الى السبق الصحفي حول علاقتهما.
والسطور التالية ليست تعبيرا عن التموقف لصالح اي كان او ضد اي كان وانما هي دعوة الى التأمل فيما حصل..مع ذلك اود ان استهل كلامي بتوضيحين بسيطين:
اعتبر الرابطة الزوجية من العلاقات المقدسة التي لا يُفرِح انفصام عراها حتى لو كان ذلك برضى الطرفين..ففي كل طلاق هناك دوما شيء محزن و مؤسف..أما مسألة التعدد فهي في الحقيقة بحاجة الى الكثير من الجرأة الفقهية لتناولها و قراءة النصوص القرآنية التي ورد فيها الحديث عن التعدد بشكل يتجاوز الفهم السطحي و الذكوري الذي هيمن على تأويل النصوص الدينية لزمن طويل.
لكن الطلاق و التعدد ليسا ابرز ما يلفت اهتمامي في هذا السياق.بل موقف سيدة خمسينية تتقلد منصبا حكوميا هاما بما يعني انها شخصية عمومية تدرك تسليط الاضواء الاعلامية على حركاتها و سكناتها،تقرر هذه السيدة- باتفاق مع زوجها السابق حسب تصريحها- انهاء زواج دام ثلاثة عقود واثمر عن ابناء واحفاد. وهذا خلال تقلدها لمنصبها الوزاري وليس قبله او بعده.
قد تبدو بنخلدون بالنسبة لبعض المدافعين عن التمثيلية السياسية للنساء نموذجا سيئا للمرأة الوزيرة فهم يرجون من حضورها ان يكون حديديا وان تذكر في مجال الاستوزار بغير الزواج والطلاق والحب –الاطار النمطي الذي تحشر فيه المرأة عادة- اضافة الى ان زواجها المفترض من وزير متزوج قد يعتبر في نظرهم تكريسا لتقليد مهين تناضل المرأة المعاصرة لكسره و تجاوزه.
والواقع ان هناك بعدا مختلفا تماما يمكن قراءته في الحياة الشخصية لهذه السيدة وان كانت خياراتها في النهاية لا تعني احدا ممن يحبون اطلاق الاحكام سواء دفاعا عنها او ضدها.
يتعلق الامر بالخيارات المتاحة امام النساء في مجتمع تعود الا يمنحنهن الكثير منها، في ثقافة تجد من الطبيعي ان تستمر المرأة في زواج هو بمثابة موت يومي بطئ  لها ولكل من حولها حفاظا على مظهر العائلة المتماسكة حتى وان كانت في الحقيقة ابعد ما تكون عن ذلك.
النساء اللواتي يدركن ان عمرا من الاعتناء بالزوج والابناء قد ينتهي بعمر اخر من الوحدة والنبذ، يعرفن ان جملة "لم يعد يهمني امره،فليفعل ما يشاء،وانا سأعيش من اجل ابنائي" كانت في الحقيقة قرارا جبانا ومهينا للذات إذ أن مسؤولية المرأة تجاه أسرتها لا تعني نكرانها لذاتها وانمحاءها الا في ثقافة مريضة تبحث عن اي مبرر لاقصاءها.
في لحظة ما يكون على المرأة ان تقرر ما الافضل لها ولابنائها،و لا ينبغي ان تعني رسالتها المقدسة كأم ان تمحو باقي أّبعاد وجودها كامرأة،وفي هذه اللحظة يكون من الشجاعة ان تنسحب من علاقة غير مُرْضية بالنسبة لها،خصوصا ان كانت قد أدت ما عليها من واجبات تجاه اسرتها و مجتمعها..
ما من بطولة في الابقاء على زواج صوري، و ما من حكمة في التظاهر باننا عائلة واحدة عندما نكف فعليا عن ان نكون كذلك، وما من سن تتوقف عنده حظوظ المرأة في البدء من جديد، وما من تقليد يجعلها تقبل وضعا غير منصف او غير عادل.هذه من بين الرسائل التي  يقرأها المتأمل في طلاق سيدة خمسينية او محاولتها الزواج لمرة ثانية،ان تكون السيدة بنخلدون تحديدا قد أساءت اختيار طريق البدء من جديد، ان تكون ظالمة او مظلومة او الا تكون ايا منهما لا ينبغي ان يهمنا فهو امر شخصي لا يخص الا دائرة المعنيين بالامر، مقابل ذلك ما ينبغي ان يهمنا هو تكريس ثقافة تنال فيها المرأة (الزوجة) حظوظها كاملة في الاختيار بما يجعل بعض الأزواج يكفون عن التصرف كقدر حتمي لا مهرب للزوجة منه و يبذلون بعض الجهد للرقي بشروط المعيش المشترك.

الجمعة، 26 ديسمبر 2014

عنف اللاشعور

تلميذتي بالجذع المشترك..في شعرها الطويل الحريري والمنسدل دوما على جسدها الصغير..وفي ابتسامتها الخجولة وملامحها البريئة تأبى الطفولة ان ترحل و تخلي مكانها للمراهقة
انحنيت لاستفسر عن عينيها الدامعتين فاقتربت مني وقد انفجرت باكية..دب الرعب في أوصالي وانا استعد لتلقي أسوأ الانباء
"ما الخطب؟أخبريني"
اجابتني بصوت قطعته شهقاتها الباكية
"سم..ع..ته قال....وا...انا...لست..هكذا"
دفنت فجأة وجهها في صدري وكأنها تختبئ من شيء ما..ضممتها الي وانا اهدئ من روعها..
فهمت فيما بعد من خلال كلامها المتقطع ان زميلا لها بالقسم نعتها بالعاهرة ولذلك شعرت بالاهانة والالم..
"انت لست كما يصف؟" تهز هي رأسها بالنفي..و اقول أنا لنفسي:و كيف يمكن لطفلة بريئة مثلك ان تكون كذلك؟!
"حسنا اذن لا ينبغي لما قاله ان يؤثر فيك هكذا..ما قاله لا يعبر عنك ولكن يعبر عن الطريقة التي تعود زميلك ان يتحدث بها.." شعرت بها تهدأ تدريجيا..
اجتمع بعض من زملائها الذكور والاناث حولها متضامنين وهم يرمقون زميلهم "المعتدي" بنظرات غاضبة..
عرفت ان الشاب على الارجح تلفظ بما نسب اليه رغم اصراره على الانكار..وانه على الارجح وصف زميلته بالعاهرة ليس لانه يظنها كذلك و لكن فقط ليعبر عن استيائه وغضبه، اما منها او من واقع يعيشه لا علاقة لها به.
كان علي ان اتحدث الى الجميع عن ضرورة احترام مساحات الآخر وعدم الاضرار به حتى يكون لنا الحق في مساحة مقدسة خاصة بنا..
لكن ذهني شرد وانا افكر في جيل الشباب هذا الذي يعيد انتاج نفس اشكال العنف البغيضة السائدة: توجيه طاقة الغضب نحو الاخر،كما لو ان تحرير الذات من غضبها لا يتأتى الا بإيذاء الاخر.اقصاء و اختزال الأنثى اينما كانت في جسد الغواية والعار..فاي خلاف معها يؤول الى النظر اليها كعاهرة..هي وسيلة اللاشعور الجماعي لاخراس صوت المرأة و اقصائها..

أفكار

" لماذا لا تحمي الافكار الحكيمة اصحابها من الانهيار؟"
يجول هذا بخاطري و انا أقرأ لنيتشه و اتخيله تعيسا و فاشلا في الحصول على الحب والمحبوبة، تائها في عالم الجنون لسنوات قبل ان يفارق الحياة..
هل بوسع الفكرة ان تنقذ الانسان؟
الفيلسوف انسان..يضعف..يفشل..ينهار..قد يجن ايضا،فذاك جزء من كونه انسانا
والافكار في نهاية المطاف.. افكار،قد تتكوم في جانب من الذاكرة الى ان تنسى، و قد تتمازج مع غيرها الى ان تتغير معالمها تماما..
هل الافكار محايدة الى هذا الحد ام انها عاجزة عن انقاذنا؟
انظر الى كل شيء ملموس حولي وانا موقنة بأنه بدأ بفكرة في ذهن احدهم..
انظر الى العالم وانا موقنة بان للافكار سحرها عليه
الافكار فقط هي ما يجعلنا نستوعب العالم فنمنعه من استيعابنا
بالافكار فقط نسعى الى تعلم لغة الوجود فنجد من الالسن بعدد شعوب الارض
بالافكار فقط نتعلم لغة الاشجار و الجبال ونجوم السماء
وحدها الافكار من يقودنا الى تعلم السمفونية
تلك التي تنبع من اعمق مكان في انسانيتنا و تصدح بلحن الحياة الى ابعد مكان في الكون
فلماذا لا تحمي الافكار الحكيمة اصحابها من الانهيار؟

الأربعاء، 19 نوفمبر 2014

لعبة الموت

                                            


كتب فرويد ذات مرة ان الموت لا يكون له معنى بالنسبة للاحياء الا في زمن الحرب..فالناس يموتون بالجملة..يموتون فعلا..ولا يعود بامكاننا تجاهل الموت او وضعه على الرف..
ربما انت مثلي، تتذكر هذا الكلام فجأة وانت تتأمل عالم اليوم..انت مثلي ترى الجثث منتشرة هنا وهناك، تزف اليك انباء عن سبيها..تشريدها..تعذيبها..والاجهاز عليها : الحياة لم تعد مقدسة،و ربما في تاريخ البشر لم تكن يوما كذلك..
ربما انت مثلي تجلس باسترخاء و تتابع على شاشة حاسوبك او محمولك كيف يساق الناس الى موت محتوم..هل لاحظت ان وجوههم لا تقول شيئا؟ وجومهم لغز محير، اي حكمة انكشفت لهم وهم على بعد خطوة من مغادرة دنيا الاحياء؟ هل سمعت كلمات الاستعطاف الضعيفة التي ندت من احدهم مخاطبا جلاديه؟ كلماته لن تغير من مصيره شيئا،لا احد يفهم لم نطقها، لا هو نفسه،و لا جلادوه، ولا انا ولا انت..
انا..انت ..وغيرنا، نحن الجمهور نفسه  الذي اكثر من مشاهدة افلام الاكشن. تعود الا يهتم باحصاء الضحايا الذين يسقطون خلال الفيلم، في مشهد المطاردة حيث تنقلب بضع سيارات و تحدث اخرى فوضى عارمة في سوق للخضار، او مشهد التفاوض مع الأشرار حيث يقدم هؤلاء على اعدام بعض الرهائن بدم بارد لاقناع المسؤولين بجدية مطالبهم،كل هذا تمحوه سعادتنا بالتئام شمل اسرة البطل و... انقاذ كلبهم في النهاية..
نحن حشود لا تملك غير مشاعرها،تتعاطف مع الضحايا و تكره المعتدين،ثم تضغط على الزر لتغيير القناة و تتابع اعمالها اليومية بدون اكتراث.
نحن جمهور قسري للعبة الكترونية ضخمة ابتلعت الكوكب منذ زمن بعيد، بعيد لدرجة انه لا احد يتذكر متى بدأت الحكاية..ولا احد يستطيع التأريخ لها
على الطرقات يختار الناس مركباتهم و يضغطون على الدواسات، بسرعة جنونية يتجاوزون كل شيء أمامهم..ما قيمة سيارة لا تمتحن قوتها على الطرقات كل يوم؟ ليس المهم في اللعبة ان تصل الى خط النهاية ولكن ان تصل بسرعة اكبر ومهارة اكثر وحماسة أعلى..كل السر في ان تغازل الموت المرة تلو الاخرى..و تفلت في كل مرة..
فقط عندما يدوي صوت الارتطام ويصم مسامعك، وقبل ان تجد وقتا للانتشاء بحماستك،ينتهي كل شيء، يغازلك الموت هذه المرة..و يمضي..تنظر من بين دمائك الى اشلاء الاشخاص والاشياء حولك، لا زلت حيا،نعم، لكن ما قيمة الحياة عندما تفقد كل شيء آخر؟ انتهت اللعبة.
حسب المزاج، يختار المقاتلون اسلحتهم أولا وقضاياهم بعد ذلك، في عالم الارقام هم جزء من لعبة ثلاثية الابعاد، يدمرون بعض المباني، يفجرون بعض المركبات،يسفكون بعض الدماء و هم يرددون جملا رتيبة..  كل تقدم على ارض اللعب يعني اننا نجحنا في الانتقال بوحشية القتل الى مستوى أعلى...
من مكان ما، يوقفون اجهزتهم متثائبين، يقصدون  فراش نومهم في ملل، ينامون  هادئي البال والضمير، غدا سيجدون وقتا للتسلي باللعبة من جديد..
لكن ارواح من قضوا نحبهم في كل الحروب  تطوف حول أَسِرتهم في ضياع..تئن  مستغربة:لماذا لا يدرك هؤلاء معنى الموت؟ أليس الموت ما يعطي - بشكل جدلي- للحياة معنى؟
انت وانا يمكن ان نفهم لماذا؟ لقد راقبنا طويلا جدا كل ما يجري..طاف الموت قريبا منا..اخذ احباءنا، رأينا  العدم الذي يخلفه الموت على الوجوه، رأينا عيونهم المحبة وقد انطفأ بريقها فأصبحت تحدق في اللاشيء ولا تفصح عن شيء، اجسامهم التي ضجت يوما ما بالحياة وقد صارت شيئا باردا لا يكترث لمن يولول او يشتاق..

انت وانا ندرك اننا –شيئا فشيئا – بدأنا نفقد هذا أيضا..هذا المعنى الصارخ لأن يموت انسان بيننا..فالانسان يموت فينا كل يوم.. يطوف الموت قريبا منا كل يوم دون ان يصلنا  اي معنى..صرنا اشبه بقطيع ضخم مستسلم بشكل تام لحتمية انتقاء وحشي لا يبقي غير الاقوى والاكثر فتكا..وليس الاصلح بالضرورة..

الجمعة، 15 أغسطس 2014

ادمـــــــــــــــــــــــــــــــــان....


استلقى على أريكة بجانب من المكتب الضيق..نظرت اليه المعالجة النفسية وعلى وجهها اكثر من سؤال..صحيح ان لها خبرة لا يستهان بها في مجال عملها..وانها تعاملت مع مرضى بطباع وشخصيات متنوعة بل و غريبة احيانا..لكن هذا الشخص يظل حالة مختلفة..فهو يعترض على كل ما تقوله، ولا يمتثل  لأي مما تطلبه منه..و لا يحضر في المواعيد المحددة..بل يطلب مقابلتها كلما عن له ذلك..من الناحية المهنية كان ذلك مربكا لها،اذ كانت بحاجة الى الاشتغال على برنامج قار كي تتمكن من مساعدته..وان كانت الى حد الآن لم تفهم بوضوح ما يعانيه..او فيما اذا كان بالفعل بحاجة الى تدخل معالجة نفسية..في جميع الاحوال نظرت اليه وهو يستلقي بهدوء على الأريكة، لم تطلب منه ان يفعل لكنها تعودت منه  ان يتصرف في مكتبها بعفوية، كان شخصا تلقائيا ومسالما..قال لها في احدى المرات انه يدفع من اجل ان تستمع اليه، وانه لا يتوقع منها حقا ان تساعده في شيء..اخبرها بان لديه الكثير جدا من الاقارب و الاصدقاء ، وانه لا يحب ان يتحدث اليهم بما في نفسه لأنهم منشغلون جدا بأنفسهم..وقلما يرون او يسمعون بعضهم بعضا وهم مجتمعون يثرثرون ويملأون الدنيا صخبا بضحكاتهم، لم تستغرب  كلامه  ساعتها، كانت تدرك بالفعل ان جزء  من متاعب زبائنها النفسية كان ليحل تلقائيا لو توفر حولهم اشخاص يهتمون لأمرهم حقا..لكنها ارتبكت قليلا عندما تفرس في ملامح وجهها قبل ان يضيف ببساطة:
-         بالمقابل..انت الشخص الوحيد الذي اضمن انه يستمع الي و يحاول استيعاب ما اقول..من واجبك ان تفعلي..فأنا ادفع لقاء ذلك..
تذكرت انها حاولت، ساعتها، متابعة الاستماع الى هذا الرجل بمهنية ، مغالبة احساسا بغضب مفاجئ اعتراها بسبب كلامه..اعترفت لنفسها على مضض بأن طريقته في التعبير عن الأمر فجة الى حد ما  لكنها تصف  الحقيقة الموضوعية: هو يدفع وهي تستمع...جلست قبالته على كرسي صغير عندما افلحت اخيرا في طرد كل افكارها السابقة،وقالت له بهدوء:
-         حسنا، مضى زمن طويل منذ آخر مرة حضرت فيها لزيارتنا..
-         كان علي ان اخوض بعض المعارك وحيدا..
جوابه الشارد ولد لديها بعض الامتعاض..لم تكن ترغب حقا في مواصلة حديث مليء بالألغاز،لكنها سألت:
-         و بماذا انتهت معاركك؟
-         هي معركة  واحدة..تخلصت من الإدمان ..
فاجأها جوابه، فلم يتحدث من قبل عن اي نوع من انواع الادمان،وشيء ما في نبرة صوته أوحى لها بصدقه فيما يقول..شعرت بشيء من الانزعاج لكنها خاطبته بابتسامة مهنية باهتة:
-         حسنا، حدثني عن الامر
-         تعاطيت للخمر مدة طويلة جدا..لكن لم  اصف نفسي يوما بالمدمن عليها..لطالما اعتقدت اني اعاقرها باختياري..كنت احيانا اشرب فقط بالقدر الذي يشعرني ببعض الاسترخاء، احيانا اخرى كنت افرغ في جوفي كأس الخمر تلو الاخرى الى ان افقد الشعور بأطرافي، وكان هذا هو المطلوب..ان احلق..عاليا.. حيث لا اسمع ولا ارى مخلوقا غير ما يثيره خيالي..كنت افيق في اليوم الموالي بصداع فظيع في رأسي..لكن ذلك كان الجزء المفضل من طقوسي..الالم في رأسي كان يمنعني من ان ارى او اسمع اي شيء اخر..
-         لا تبدو ممتعضا من ذلك ،ما الذي جعلك تقرر الاقلاع عنها؟
-         بيني وبينها منذ البداية شيء اشبه بتعاقد ضمني..الجأ اليها عندما احتاج ان اخرج عن ذاتي قليلا،فتمنحني اسما غير اسمي،وشكلا غير شكلي،و عالما غير عالمي..لكني معظم الوقت بحاجة الى ان اكون ذاتي..ما حصل هو انها استحوذت علي..وأرادتني في عالمها طوال الوقت..عاقبتني بقسوة كلما ابتعدت عنها..
-         افهم انك صرت تعاني من اعراض الانسحاب
-         لا يهم كم انفق من المال لأجلها..لا يهم كيف اؤجل كل شيء كي ابقى في عالمها..كلما اشتد ولعي بها استنزفتني اكثر..مرضت..ورغم نصائح الطبيب لم استطع الابتعاد عنها..كانت ملاذي..وفي صباح احد الأيام وقد افقت على صداع مؤلم في رأسي، حاولت ان اصل الى الحمام كي اغسل وجهي..توقفت امام المرآة وانا بالكاد ارى من شدة الالم..فجأة رأيت نفسي..رأيتني رجلا مريضا و بائسا..ليس بسبب ما شخصه الطبيب لدي..ولكن بسبب عشقي لعدوة مماثلة..مهما احببتها..مهما أوقفت كل شيء في حياتي لأجلها  فهي لن تفعل الا ما تجيد فعله بحكم طبيعتها : تحويل كل من يقترب الى حطام..تماما مثل نار لا توجد الا  بإحراق ما يقترب منها..رأيتها تستنزفني وتخيلتها تتحول- بعد ان توقع نهايتي- الى رجل اخر كي تغريه بمعاقرتها فشعرت بالخيانة..شعرت بالمهانة..شعرت باني صرت عبدا مملوكا لها..وانا الذي لجأت اليها متمردا وثائرا..
-         انت تصورها كما لو كانت إنسانا..
-         لأنها اضحت كذلك استطعت التخلص منها..فيها من بعض البشر الشيء الكثير..الحدود ليست واضحة وقاطعة دوما بين عالم الاشياء والاشخاص..نتخلص من الاشياء كما نتخلص من الاشخاص، ونشفى من الامراض كما نشفى من الاشخاص..
-         كم مضى على اخر كأس خمر شربتها؟
-         ما يكفي من الوقت لأتيقن اني صرت رجلا حرا مجددا..ليست الخمر ما يخيفني الان
-         وما الذي يخيفك؟
-         غضبي..بالأحرى ما يفعله بي غضبي..هو قادني الى اول كأس خمر،و جعلني اغضب حتى الثمالة..
-         بالاجمال تبدو شخصا هادئا..
-         عندما اغضب لا يكون اسوأ ما فِيَ ملامح وجهي المتجهمة..عليك ان تعرفي ما يدور بخلدي عندما اغضب لكي تقدري اني احاول قدر المستطاع ان ابدو لطيفا ومسالما...
دعك من  موسيقى الروك الصاخبة أو موسيقى الميتال الكئيبة و العدوانية ، جموح صرخاتي لا يعادله شيء الا جموح رغبتي في التكسير...في لحظات مماثلة اتفهم رغبة مظفر النواب في ان يتقيأ شعره في وجه من يقرفونه... لكني عندما اغضب لا افكر في نظم الشعر...الشعر مهما بدا غاضبا وسيلة مهذبة للتعبير عن الغضب... السحر الاسود فقط هو ما يشفي غليلي...عندما اغضب اشتهي قوة ارفع بها  السيارات فأضرب  بعضها ببعض واستمع بنهم الى الصخب الذي يصدره ارتطامها وانظر في شزر الى شظاياها..عندما أغضب اشتهي ان يتجمع غليان جسمي في قبضة يدي شهبا نارية اقذفها على كل الاشياء من حولي وانظر اليها بتلذذ تنفجر وتحترق شيئا فشيئا الى ان تستحيل رمادا تذروه زوبعة انفاسي في كل الاتجاهات...
استمعت اليه منذهلة من انسياب سيل الكلمات من فمه و تلاحق انفاسه وهو ينطقها كما لو كان في عالم يخول له بالفعل ان يحقق ما يتخيله..كانت تبحث عن الكلمات المناسبة للتعليق على ما قال عندما تابع بهدوء:
-         عندما اغضب لا اسمح لنفسي بقذف الكأس الزجاجي في يدي..لاني –وانا في قمة غضبي- استسلم لصوت لعين في عقلي يحذرني من ان شظايا الزجاج قد تسبب عاهة ما لشخص أوجده سوء حظه هناك في اللحظة غير المناسبة..لا اقلب مكتبي رأسا على عقب..لان نفس الصوت يخبرني متشفيا:"ذلك لن يحل شيئا من مشاكلك  سيكون عليك فقط اعادة ترتيب المكان لاحقا"..لا اسمح لنفسي بلكم رجل تواقح امامي مهما رغبت بشدة في ذلك لاني ادرك جيدا ان ارتجاجا قويا قد يزلزل دماغ الرجل وقد يغير معالم وجهه لكنه لن يغير شيئا من أفكاره وأفعاله..عندما اغضب اعدل عن فعل كل ما تصرخ به نفسي..و عوضا عن ذلك كله امارس ما تسمونه "تواصل"...
ساد الصمت للحظات،عدلت من جلستها اخيرا قبل ان  تقول :
-         التواصل هو الخيار الانساني الأنسب دوما ..
قام فجأة و بدا انه يستعد للمغادرة،و قبل ان تستوعب الامر كان قد وصل الى باب المكتب و قال مغادرا:
-         البشر خارجا منشغلون معظم الوقت عن ممارسة  التواصل الانساني..لهذا يحضر امثالي  الى هنا ويدفعون لامرأة غريبة عنهم  كي تلعب  دور انسان يستمع ..

الثلاثاء، 5 أغسطس 2014

ضد كل تفكير نمطي


يتحدد وضع النساء في اي مجتمع من خلال انماط ثقافية يتم تمريرها بانتظام عبر الاجيال،وتلعب التنشئة الاجتماعية دورا مهما في ترسيخ صور معينة عما يجب ان تكونه اي امرأة او ما يحدد كينونة اي رجل.بهذا تكتسي الامتيازات التي يحظى بها احد الجنسين على حساب الاخر (ويحظى بها الرجل على حساب المرأة في الغالب) طابع الحقوق الطبيعية ولذلك تصبح غير قابلة للتفاوض بشأنها او ارجاعها الى جذورها الثقافية المتغيرة.وليس في هذه الملاحظة اي جديد فعلى اساسها قامت معظم دعاوى انصاف المرأة وتحريرها من الصور النمطية التي تجعلها مواطنة من الدرجة الثانية فقط لكونها امرأة.وينبغي ان نقول ان نضال العديد من النساء عبر العالم ساهم في تكسير عدد من هذه الصور ورسم للنساء المضطهدات آفاقا اكثر انسانية.ولان التغيير لا يحل دفعة واحدة فهناك كثيرات لم تحظين الى الان بفرص للتعليم او التثقيف او معاملة تليق بآدميتهن ، لذلك من الطبيعي ان يستمر نضال من يؤمنون بقضايا المرأة طالما استمرت الاسباب الداعية اليه.
ما يهدف هذا المقال في الواقع الى اثارته ليس تقييم حصيلة هذا النضال،و لكن تسجيل عدد من الملاحظات التي تدعونا الى التفكير مليا قبل ترديد خطابات تعميمية تجعل النساء شريحة واحدة منسجمة وتجعل المطالب على نموذج واحد، تكون او لا تكون.
الملاحظة الاولى متعلقة بعمل المرأة،وليس الهدف هنا الخوض في النقاش العقيم حول جدوى عمل المرأة خارج البيت او مشروعيته،فبالنسبة لشريحة معينة من النساء ليس العمل خارجا فرصة للتحرر او الانفتاح او تحقيق الذات حتى، بل هو ضرورة فرضتها الحاجة الاقتصادية وتغير شبكة العلاقات الاجتماعية التي تضطر المرأة الى اعالة نفسها وغيرها.مع ذلك فالبقاء في البيت لا زال خيارا بالنسبة للكثيرات ممن يفضلن ان يتحمل  نفقتهن الاب اولا ثم الزوج فيما بعد.وليس في هذا ما يعيب طالما يتم برضى جميع الاطراف.
يتحدث البعض من منطلق انصاف المرأة عن ضرورة اعادة الاعتبار لعملها داخل البيت،فإذا كانت المرأة العاملة تساهم في ثروة الاسرة من خلال العائدات المادية لعملها فإن ربة البيت تساهم ايضا من خلال توفير مناخ دافئ يلبي احتياجات الاسرة النفسية والمادية.انه موقف جدير بالاهتمام،تتحمس له كثيرات من ربات البيوت دون ان يدور بخلدهن أنه في الواقع يطالبهن بان يكن بالكفاءة المطلوبة لأداء دور الام والزوجة على اكمل وجه..بعبارة اخرى: اذا كنا من حيث المبدأ نعتبر الجهد الذي تبذله المرأة داخل المنزل بمثابة عمل قائم الذات فانه يشترط فيه كغيره اداؤه بانضباط وكفاءة..لماذا تعتقد بعض النساء من ربات البيوت ان كل ما يؤهلهن لدور الام هو كون الواحدة منهن انثى تملك رحما؟ ! لماذا في الوقت الذي تسعين فيه الى نيل المزيد من الاحترام لوضعهن لا تبذلن جهدا في تطوير انفسهن لكي تقمن بمهام التربية على الوجه الأكمل لماذا يمتلئ جدولهن اليومي بمتابعة مسلسلات تافهة و برامج "خبار السوق" و زيارات تدوم ساعات طوال لهاته اوتلك؟هل وضعهن كأمهات كاف لمنحهن احساسا والتزاما غريزيا بالمسؤولية الاخلاقية والتربوية تجاه اسرهن؟ هل هو كاف لمنحنهن القداسة والحصانة من المساءلة عن الاهمال والتشدق بالحقوق دون اقامة ادنى اعتبار للواجبات؟
قد يعتبر القارئ هذا تحاملا على ربة البيت، لكني اشير الى اني كنت شاهدة على العديد من الحالات التي اسفر فيها غياب الام -وهي حاضرة- عن ادمان الابناء اوتشردهم او انضمامهم الى عصابات اجرامية..بوسع المرأة العاملة ان تتحجج بضرورة غيابها عن البيت لتوفير القوت والحاجيات الضرورية لكن ما عساها تكون حجة ربة البيت؟
وبالمناسبة لا يعني هذا اسقاط  مسؤولية التربية عن الرجل كيفما كان موقعه داخل الاسرة،لكن التواجد –المفترض- لربة البيت داخل المنزل يعطيها مساحة اكبر للتدخل وبالتالي يترك فراغا اكبر في حال غيابها.
قبل ان تطالب المرأة بان يحترم عملها داخل البيت عليها ان ترقى الى مستوى الكفاءة المطلوبة لهذا العمل.لو عرض عليها منصب في مؤسسة مهمة براتب مُجز لحاولت ان تقوم بما يلزم للحصول على ذلك المنصب و لاجتهدت في تطوير مهاراتها بشكل مستمر لتكون دوما بالكفاءة المطلوبة فلا يتم الاستغناء عن خدماتها،و الحال ان عملها داخل المنزل هو منصب في مؤسسة حيوية هي الاسرة وضمن مؤسسة اكبر هي المجتمع ويحتاج منها تدريبا مستمرا و تطويرا لكفاءاتها لكي تساهم في انتاج الثروة الحقيقية لكل مجتمع: ابناؤه.النساء اللواتي يدركن هذه المعادلة و يعملن على اساسها سواء كن عاملات ام لا هن بطلات حقيقيات، يتوجهن كل مشروع ناجح،كل مواطن صالح،تتويجهن وطن يفخر بأهله و يفخرون به.
الملاحظة الثانية تتعلق بآفة الذكورة او هوس الذكورة في مجتمعاتنا،و ينبغي ان نعترف بأن التشريط الاجتماعي لذكور المجتمع وإناثه حاضر في كل الثقافات وان كان تركيزه وحضوره لافتا في ثقافتنا.واحد نتائج –ووسائل- هذا التشريط هو التسويق الاعلامي لصورة المرأة-الدمية والذي يحدد بشكل مسبق مقاييس جمال المرأة وحدود دورها كوعاء لمتعة الرجل (مبتسمة جميلة وصامتة لا تجادل ابدا)، وهو ما يسوغ ايضا لتفشي ظواهر العنف المرتكب ضد النساء من اعتداء بالضرب او التحرش او الاغتصاب.و عوض تكسير هذه الصور النمطية بإعادة التوازن لعلاقة الرجل بالمرأة من خلال تثمين بعدها الانساني و العاطفي (الذي يتجاوز العشق في صوره المبتذلة كما يتم تسويقها) فإنه يجري تعويضها بصور نمطية مضادة يصبح فيها الرجل ايضا ايقونة اغراء بمواصفات رجولة محددة،وتساهم الانتاجات التلفزيونية في ترسيخ هذا التوجه الجديد،فأبطال المسلسلات اللذين يجري انتقاؤهم بعناية (احيانا من بين عارضي وعارضات الازياء) يحددون في وعي الرجل ما ينبغي ان تكون عليه المرأة (وهذا ليس بجديد) كما يحددون في وعي المرأة ما ينبغي ان يكون عليه الرجل.واذا كان الزوج في السابق يظلم زوجته بان يرفع سقف توقعاته من مظهرها بما يماثل مظهر  ممثلة يحيط بها فريق من خبراء التجميل كل مهمتهم جعلها في ابهى حلة،فان الزوجة اضحت الان تظلم زوجها الذي يعود منهكا بعد يوم حافل بالمتاعب بان تقارنه بعارض ازياء يبرز عضلات صدره -بالتمرين احيانا وبالادوية احيانا اخرى- و يقرأ نصا مكتوبا في مشهد رومانسي مفتعل،تظلمه بان تشتكي بعد سنوات معتبرة من الزواج والانجاب من انه ليس وسيما كفاية، وقد تتشجع فتعلن عدم رضاها عن ادائه كزوج،ولا يهم ان كان مريضا او كان متفانيا في كل شيء اخر.
والحال اننا مجتمع ندفع ثمن هوسنا بالذكورة،اقتناع البعض بفحولتهم يعطيهم حق الاغتصاب والتحرش والخيانة الزوجية،و اقتناع البعض الاخر بحق الفحولة يجعلهم يتواطئون صمتا او دفاعا عن المغتصب والمتحرش والخائن.وبعيدا عن هذه الظواهر الصادمة تترسخ في صمت قناعة تميت كل بعد انساني في الاسرة وهي نواة كل مجتمع سوي، قناعة تحول الفحولة والقدرة الانجابية من وضعها الطبيعي كطاقة لاعادة انتاج النسل البشري و تختزل الكائن البشري رجلا او امرأة في بعده الجنسي.هذا البعد الذي تنبه عدد من المفكرين الغربيين (منهم عالم الاجتماع الفرنسي جون بودريار) الى انفجاره في عصرنا الراهن وممارسته استبدادا من نوع جديد،فبعد القيود الصارمة التي فرضت على الجسد لقرون في الماضي أصبح كل سنتمتر منه معروضا على وعي الجماهير بشكل قسري من خلال قنوات عدة.
في علاقة انسانية سوية بين رجل وامرأة تتكامل الجوانب العاطفية والجسدية والفكرية لخلق تجربة انسانية مشتركة تغتني كلما امتد تاريخها عبر الزمن،فتصبح استثمارا  رابحا وثروة حقيقية لسنوات الشيخوخة،في العلاقات القائمة على الانماط التي تروجها وسائل الاعلام تهيمن مفاهيم الاغراء والفحولة،و يعيش كل طرف على استيهاماته الخاصة،و عوض المشهد الرومانسي الذي ينهي كل فيلم بالاجتماع السعيد للبطل والبطلة، تستمر قصة زواج واقعية دامت أكثر من ربع قرن بشكل بطيء بين شخصين لم يعد لديهما منذ زمن بعيد جدا ما يقولانه لبعضهما البعض، يعيشان تحت سقف واحد تتآكل كلا منهما مشاعر وحدة بغيضة..بالكاد يكلمان بعضهما..بالكاد يعرفان بعضهما..