السبت، 9 يناير 2016

في الحاجة الى الأمل...



أتعلمون أني أحب عملي؟
لست من الاشخاص الذين تقول عنهم النكتة انهم يبدأون يومهم بدعاء الذهاب الى العمل: "الله ينعل بوها خدمة !" ، لا، قد يحدث أن أتذمر أحيانا، لكني لا ألعن اليوم الذي شاءت لي فيه الأقدار أن أكون أستاذة ،و لو انه لم يكن اختياري في البداية، فقد أصبح شغفي في النهاية.
لذلك، أجل أنا احب عملي
أستمتع كل سنة بتأمل تعابير التلاميذ، وهم يفكرون، و هم يبحثون عن كلمات تحتوي أفكارهم و تجعلها تطير بحرية المحاولات الاولى، وهم يتلعثمون ثم وهم يضحكون من أخطائهم...
مثل عدد من زملائي الأساتذة، لم يتأثر حبنا للعمل بكثرة الأقسام التي ندرسها، يمر على الواحد منا في الاسبوع الواحد ما يعادل العشرة اقسام او أقل بقليل، في كل منها اكثر من اربعين تلميذا في الغالب، لا يمكننا حتى تذكر ملامح تلاميذنا فمابالك بتذكر أسمائهم..لكن حصصا اسبوعية سريعة تكفي لكي تصنع علاقات إنسانية رائعة هي في العمق ثروتنا الحقيقية التي نراكمها من مهنة التدريس في صمت لكن في رضى تام..
عندما لا تكفي الحصص الرسمية لإنهاء المقررات،يخصص البعض منا حصصا إضافية من وقت فراغه و راحته لإنهائها.. تعويضاته الحقيقية يحصل عليها و هو يبحث بلهفة الأب او الأم في لوائح الناجحين عن أسماء تلاميذه ثم يهنئهم بكل اعتزاز كما لو كان هو الناجح لا هم..
نقرأ على مسامع تلاميذنا مقاطع من رواياتنا المفضلة و من قصائد ألهمتنا، و نحن نعرف اننا نبدو بمظهر "غريبي الأطوار"  بالنسبة إليهم، لكننا نقرأ رغم ذلك و كلنا أمل أن ننقل إليهم عدوى المطالعة في مجتمع أكسبهم مناعة قوية ضدها..
نرسم و إياهم  بريشة الافكار ملامح مستقبل ممكن، نعزف ذات اللحن الذي جمعنا اليوم في المدرسة العمومية، و يجمعنا دوما تحت سماء الوطن.
نستمع الى حكاياتهم عن عالم نعيش فيه و إياهم لكنه يفيض بعبثية و جنون أكثر مما يحتمله درس فلسفي، و أكثر قطعا مما تحتمله قلوبنا المتعبة و قلوبهم الغضة، ثم ترى الواحد منا كبهلوان يلهو بالقبعات فتارة يضع قبعة الأب او الأم، وتارة قبعة الصديق، وتارة قبعة الاستشاري النفسي، ثم تسقط جميع القبعات عن رأسه عندما تفلت خيوط الحكايات من بين يديه و تتشابك فلا يدري أين بدأ وأين ينتهي..
كل ذلك أضحى روتيننا اليومي..نتذوق من الكأس و نستطيع بحكمة ما ان نتلذذ بالحلاوة فيها دون ان نلقي بالا لمرها.
لو سئلنا عن رأينا لطلبنا مناهج عن التفكير لا عن اجترار الأفكار، و أقساما لا يتجاوز عدد تلاميذها الخمسة و عشرين تلميذا، قاعات أوسع للمطالعة و خزانات كتب أغنى و بمحتوى أفضل، لطلبنا خبيرا نفسيا و برنامجا محترما للعلاج من آفة الإدمان في كل مؤسسة تعليمية...لطلبنا...
لو سئلنا عن رأينا لطلبنا الكثير من الأشياء الأخرى، لكن لا احد يهتم برأينا حتى و لو كان لنا رأي، و يكررون على مسامعنا دوما ان موارد الدولة لا تكفي.. سمعنا هذا لدرجة اننا كدنا نتوقف عن الحلم و التمني..
عندما يقف الواحد منا امام ما يقارب الخمسين مراهقا، منهم فئة مقلقة راكمت تعثرات دراسية بالجملة، بدءا بالمهارات اللغوية البسيطة الى  المهارات التحليلية المركبة، عندما يقف الواحد منا، كل يوم، يمتح طاقة كلماته من الإيمان بجدواها، يفلح بكثير من الجهد في إقناع عدد منهم بجدوى العمل، وجدوى الامل، بإشراقة أفق ممكن ببعض الاجتهاد..ينهي تلاميذه حصصهم و تبدأ دروس العالم الواقعي، حيث يغتني لاعبو الكرة في أفق تسديدة واحدة، وتصبح المغنيات ملكات ب "آه يا قلبي" و فستان أقصر من كعب حذاء الواحدة منهن، تردد على تلاميذك جملا من قبيل "المال ليس اهم شيء، افعل شيئا يجعل مجتمعك يعترف بكفاءتك" ثم تكرم مغنية في نفس السنة مرتين فيما يتم تجاهل الكفاءات العلمية الحقيقية، تعاند و تقول لتلاميذك "اشتغلوا بجد أكثر  درجاتكم العلمية سترفع من حظوظكم وتفتح لكم افقا لحياة أفضل" ثم تشعر بالغبن وأنت ترى خيرة من تلاميذك السابقين و قد اجتازوا اختبارات الولوج الى كلية الطب يتشردون في شوارع المدن طويلا قبل ان يتم التحاور بشكل جدي حول مطالبهم المشروعة، بالكاد تنسى ذلك لكي تفاجأ بتدخل عنيف و همجي في حق أساتذة متدربين كل ذنبهم احتجاج سلمي حول مطالب مشروعة...
لو سئلنا عن رأينا لقلنا وظفوا المزيد منهم لكي تكون أعداد التلاميذ في القاعات معقولة بما يسمح بتدريسهم لا "حراستهم"..
لو سئلنا عن موقفنا لقلنا بدهشة الاطفال اننا لن نستوعب أبدا أن يجلس الأشخاص بأريحية على كراسي مكاتبهم الوتيرة و يعطون أوامر بالضرب و الرفس و تكسير عظام مواطنين مسالمين...
لقلنا بوعي البالغين ان المسؤول عن ذلك يجب ان يقدم للمحاكمة و يحاسب حتى ننتهي من زمن "الحكرة" المقيت هذا...
لكننا عندما ننتهي من قول كل ذلك، نعود الى عملنا بشرخ عميق في أرواحنا، ماذا تركوا لنا كي نؤمن بجدواه؟ كيف بوسعنا ان نضيء شموع الامل في طريق تلاميذنا و هم يطفئونها الواحدة تلو الاخرى؟ وهم يغرقوننا في عتمة الظلم...
و احلامنا تحتضر بين امواج طغيانهم ...
و برُ أمانِنا منهم مؤسساتٌ لا تطؤها أقدامنا الا لكي تتهاوى قصورها الرملية فوق رؤسنا كالخديعة..
نعود الى عملنا لكي نتذوق من الكأس..و بحكمة ما نستطيع ان نستمرئ ما نشربه حتى لو غدا بطعم اللامعنى..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق