الجمعة، 15 نوفمبر 2013

احلام صبي...



كنت منهمكة في تصحيح اوراق الامتحانات،القيت نظرة خاطفة الى ساعة يدي فوجدتها قد تجاوزت السادسة و النصف مساء بقليل.
تناهى الى مسمعي صوت طفل خارج القاعة،قلت لنفسي لا بد انه محمد ابن عون المؤسسة يلعب خارجا كالمعتاد.اقترب من باب القاعة المفتوح في فضول ثم دخل،كان يقفز في براءة هنا وهناك مرددا بعض الكلمات بالامازيغية.نظر الي في فضول يتناسب و طفل في ربيعه الخامس،كنت اشعر  بالتعب،فقررت ان اتوقف قليلا لاجاذبه اطراف الحديث.قلت له-اتساعدني في تصحيح هذه الاوراق؟
-
لا اعرف كيف...لم اذهب للمدرسة اليوم..
-
عندما تكبر و تصير استاذا ستاتي لمساعدتي؟
-
لكني لن اكون استاذا.اثار جوابه اهتمامي فسالته:
-
لماذا؟
اجاب في براءة:لان ابي ليس استاذا.فاجاني جوابه قليلا فقلت له:
-
عندما تكبر تستطيع ان تمتهن اي مهنة تريد،وليس شرطا ان تمارس نفس مهنة ابيك،يمكنك ان تعمل ماشئت
لمعت عينا الصبي و كانما كشف له كلامي للتو شيئا غير متوقع فقال:اتعلمين ماذا ساكون عندما اكبر؟قلت مبتسمة:ماذا؟
قال صائحا بصوت عال:ساكون شرطيا
ضحكت وقلت في نفسي:سبحان الله الهذا الحد يكون حب السلطة و القوة متجذرا في نفوسنا منذ الطفولة؟لا شك ان الصبي لاحظ مظاهر الاستقواء المرتبطة بمهنة الشرطي او المهن القريبة منها.
تناولت ياغورت من حقيبتي و قدمته له قائلة:هذا لتكبر بسرعة و تصير شرطيا و تحارب الاشرار.استمع الي باهتمام ثم غادر فرحا.نظرت اليه يبتعد وقلت لنفسي لائمة:
الست اخدع الصغير بتلقينه قناعات لم تعد تصمد في واقع ايامنا هذه فمابالك بالواقع الذي سيعيشه هو بعد عقد او عقدين من الزمن؟
هل سيستطيع فعلا ان يمتهن اي مهنة يريدها او تؤهله اليها ميوله ومواهبه؟
الن تحكم عليه ظروفه الاجتماعية و الاقتصادية و الطبقية باختيارات محددة لا يستطيع تجاوزها او الانفلات منها؟
هل سيستطيع فعلا محاربة الاشرار لو صار شرطيا مستقبليا؟
اعاد السؤال الى ذهني جدلية الخير و الاخيار من جهة و الشر و الاشرار من جهة ثانية.في الروايات التي كنت شغوفة بقراءتها عندما كنت طفلة و كذا في قصص الرسوم المتحركة،كان تمييز الاشرار سهلا بدءا من ملامحهم الجامدة و الحادة و حواجبهم الكثيفة ونظرات الحقد في اعينهم وصولا الى السنتهم السليطة.في حين كان الاخيار عكس ذلك تماما...
كبرت بعد ذلك لاكتشف ان لمعظم الناس مهارة عالية في الاحتفاظ ببراءة ملامحهم رغم ارتكابهم لافظع الجرائم،يستطيع اغلبهم ان يخاطبك بنفس كلام الانبياء و الصالحين،و ان يبدع في تسمية الاشياء بغير مسمياتها حتى لا تصدم قناعاتك او تمس مبادئك فتقبل كل مايقال لك في سلاسة و هدوء...
كبرت لاكتشف ان الشر لا يوجد بشكل مطلق في بعض الناس دون غيرهم،بل انه يتواجد جنبا الى جنب مع الخير في كل واحد منا..
فهل ستكون محاربة الشر بالسهولة التي نصورها لانفسنا و لابنائنا في تربيتهم؟
امسكت قلمي و عدت لاكمل عملي في صمت

الجمعة، 25 أكتوبر 2013

شخصيات ألهمتني...(1)



بعض الاشخاص يتحدثون كثيرا عما ينبغي فعله...بعضهم يفع
لونه ببساطة.لهذا لا نحتاج كثيرا الى البحث عن نماذج ملهمة بين المشاهير والعظماء- ولو ان أغلبهم مصدر إلهام حقيقي للكثير منا- بل يكفي أحيانا أن ننظر جيدا حولنا لنجد أن معيشنا اليومي يزخر بالكثير من الشخصيات التي تعيش حياتها في صمت.. وتبدو بلا تأثير في مسار الأشياء حولها...لكنها تحمل قيما ربما لو تبناها كل منا لخلقت الكثير من الفرق في حياتنا جميعا.
في هذا المقال أحيي أشخاصا في الغالب لن تصلهم كلماتي، لكني أحيي من خلالهم هذه القيم أحيي كل من يحملها ومن يحمل مثلها في سموها.هم أشخاص حقيقيون صادفتهم في مرحلة ما من حياتي،ولا زلت أتعامل مع بعضهم،و كل منهم كان مصدر إلهام لي بشكل أو بآخر.
أولهم مدير المدرسة الابتدائية التي درست بها وانا طفلة،لا أدري إن كان لا يزال على قيد الحياة،فقد تقاعد وأنا لا زلت في مرحلتي الاعدادية ( اي بعد مغادرتي المدرسة بقليل) لكني في مطلق الأحوال أسأل الله عز وجل أن يرحمه ويجازيه خير جزاء حيا كان او ميتا.
ذكريات طفولتي المرتبطة بالمدرسة ترتبط على نحو آلي بشخصية هذا الرجل الذي كانت السمة الغالبة على طبعه هي الصرامة والحرص على الانضباط داخل المؤسسة، كنا نخشاه كثيرا،فقط بعد أن كبرت واتخذت ذكرياتي عنه معنى قدرت فعلا اي شخص متفرد كان..اي مدير كان..
المدير الذي كان يرتدي بذلة بربطة عنق و... حذاء مطاطيا طويلا (Des bottes) لكي يتمكن من اداء عمله في الإدارة والتنقل بسهولة للإشراف على عملنا –نحن التلاميذ - في بستان المدرسة وأشجار ساحتها التي زرعنا البعض منها بانفسنا..وعندما أقول بستانا فانا أقصد بستانا حقيقيا تم إنشاؤه في فضاء مهمل خلف قاعات الدراسة لم يكن مستغلا،فاصبح حقلا صغيرا بطماطم وفجل وفول..أما الاشجار فقد زرعناها بأنفسنا أيضا بعد ان تم تقسيمنا الى مجموعات وكتبنا أسماءنا في ورقة وضعناها  اسفل الشتلة قبل غرسها..اتذكر اننا قلنا آنذاك ان اسماءنا ستبقى دوما مادامت شجرتنا حية تكبر وتنمو..وقد كبرت بالفعل ونمت الى ان اطلت باغصانها خارج سور المدرسة..لطالما نظرت اليها والى اغصانها العالية واوراقها الكثيفة وانا أقول مفاخرة لزميلاتي بالاعدادية: انظرن الى تلك الشجرة هناك..انا زرعتها مع أصدقائي عندما كنت تلميذة بهذه المدرسة..
المدير كان يعرف كل تلاميذ المدرسة تلميذا تلميذا،ويعرف آباءهم وأولياءهم واحدا واحدا،يصافحهم بحرارة عند قدومهم الى المدرسة ويثمن في أبناء هذا نظافتهم وفي ابناء ذاك جدهم واجتهادهم ولا يحفل بغنيهم ولا فقيرهم.
مدير علمني المطالعة وحب الكتب،أشرف على إنشاء مكتبة المدرسة وكانت فضاء صغيرا جدا أسفل السلم المؤدي الى قاعات الطابق الأول..فيه بعض القصص والكتب..اقتربت من المكتبة في فضول..فشجعني على التقدم،وكنت أدرس بالقسم الثاني الابتدائي،وناولني قصة عن ديك (لم اعد اتذكر تفاصيلها) وقال لي أني إذا أنهيت قراءتها بامكاني الحصول على اخرى،ومنذ ذلك اليوم بدأت قصة حبي للكتب.
مدير رغم صرامته وخوفنا منه،يفتح لنا باب منزله فندخله فرادى وجماعات خلال "الأنشطة" وهي التسمية التي كنا نطلقها على كل عمل أو نشاط نقوم به خارج أوقات الدراسة،وكانت تستقبلنا مخلوقة رائعة قيل لي أنها زوجته،كتلة من الحنان والابتسام الدائمين.
مدير يحرص نهاية كل سنة دراسية وبمعية أساتذة المدرسة على تنظيم حفل يتم فيه تكريم المتفوقين بجوائز كانت رمزية لكنها كانت مصدر اعتزاز لنا ولذوينا الذين ينادى على ابناءهم من فوق منصة الحفل ويستقبلون بالتصفيق و التهنئة..كانت تلك لحظة لتكريم التلميذ وأهله..
لازالت في ذاكرتي صور حية عنه وهو يتحدث إلينا أثناء أعمال البستنة ويشرح لنا عن تاريخ المدرسة وكم الناجحين المتخرجين منها..كنا احيانا ندخل نقاشا جماعيا حول فوائد هذا النوع من الخضر او خصائص ذاك النوع من النبات..ونتنافس نحن التلاميذ لاستعراض معلوماتنا أمامه فيبتسم ويشجعنا بحرارة عن كل معلومة جيدة.
         لازلت أتذكر تأكيده في كل مرة على نظافة هندام الشخص ونقاء سلوكه وأدبه واخلاقه وجده في طلب العلم لأن ذلك ما يجعله حقا جديرا بالاحترام.
أتصور فقط لو ان لدينا في كل مؤسسة تعليمية شخصا بمثل هذه الطاقة وبمثل هذه الجدية في تحمل رسالة التربية قبل تحمل أمانة المهنة لربما وجد صغار السن لدينا بعض القدوة التي  يفتقدونها في جيل الكبار.
عندما كنت طفلة كنت أخشاه كثيرا..فقد كان العقاب الجسدي (الضرب) طريقته في التأديب، لكنه كان بمثابة الأب للجميع، وشعرت بشعور غريب عندما عدت لزيارة مدرستي بعد فترة من مغادرتي اياها،عندما دخلت مكتبه ووجدت شخصا آخر يجلس مكانه، فبدات اتحدث عنه تلقائيا وتابع المدير الجديد حديثي بابتسامة لم افهم مغزاها الا لاحقا...عرفت أن "المدير" الذي عرفناه لم يكن أبا ومربيا ومعلما فقط لأنه مدير،بل لأنه شخص حامل لقيم تدفعه الى أن يكون ما كان عليه..
مدير مدرستي الابتدائية ألهمني الكثير من القيم لكن واحدة منها تتكرر في ذهني بإلحاح كلما تذكرته:
" أن تؤمن بما تفعل..وأن تنخرط فيه كل الانخراط"
        

        

الاثنين، 26 نوفمبر 2012

مسألة عنف

وانا أطالع أخبار العالم قبل ايام،استوقفني خبر نشرته قناة العربية عن مقتل طفلة في الخامسة من عمرها، كان القاتل هو والد الطفلة نفسه والذي دفعه الشك في سلوكها الى تعذيبها بوحشية ادت الى وفاتها.
ترددت في ذهني الكثير من التساؤلات،كيف يمكن الشك في عذرية طفلة في الخامسة وفي براءة سلوكها؟ كيف يمكن ان يكون مرتكب الجريمة متدينا وداعية وواعظا تربويا على شاشات الفضائيات؟
وسرعان ما أدى بي تقليب الاجوبة المحتملة في ذهني الى طرح السؤال الذي بدا لي أكثر بداهة ولو انه لا يطرح نفسه بشكل تلقائي: لماذا يلجأ الناس الى أعنف الطرق واكثرها وحشية للتعامل مع مشكلاتهم (سواء كانت مشكلات حقيقية او متوهمة)؟
في اعتقادي،فان مأساة الطفلة لمى (ضحية الخبر المنشور اعلاه) لو حشرت في إطار العنف المنزلي او فسرت فقط من خلال العنف الممارس على المرأة (بالغة او طفلة) لكانت مقاربتنا في فهمها جزئية بل سطحية تماما.
هل سننجح في فهم العنف الممارس على الفتيات الصغيرات والزوجات داخل الاسرة،والعنف الممارس على النساء خارج الاسرة،سواء كان هذا العنف ماديا او رمزيا دون وضعه في سياق مجتمع ينتج ويعيد انتاج العنف على مستوى مؤسساته،سلوكيات افراده وانماط تفكيرهم؟
ما علينا الا ان نفحص عددا من المشاهد التي نجدها في واقعنا المعيش لنجد الجواب
في اللعب التي نشتريها لأطفالنا على شكل أسلحة،نعلمهم ان القتال والقتل يمكن ان يكون تسلية الأقوى،وقد نشاطرهم اختيار الاسلحة في العاب الفيديو واتقان إفراغ الدخيرة في رؤوس الاعداء الافتراضيين،والصراخ انتصارا برؤية دماءهم تسيل على الجدران القاتمة.
في الرياضة حيث نحول بشغف غريب لعبة ككرة القدم الى حرب بين المشجعين،ومن اجل اثبات الانتماء الى فريق ننسلخ عن الانتماء الى الانسانية.
في العالم الافتراضي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي لا نتحمل التواجد مع المخالفين لنا في نفس الفضاء،فنخوض حروبا كلامية متعصبة لا نرضى الا وقد خرجنا منها منتصرين باثبات ان رأينا هو الاصح والاصلح في كل الاحوال.
في الافلام والاعمال السينمائية نمجد العنف، فلا ينال رضانا الا العمل الذي استغرق ميزانية ضخمة للإبداع في فن التدمير،بدءا بتدمير الاشخاص والاشياء،الى تدمير الكوكب،وصولا الى تدمير المجرات..
خلف كل تلك المشاهد أمر لا يختلف عن تعنيف الاب لأبناءه (ذكورا او اناثا) او عن تعنيف الزوج لزوجته،فالمبدأ هو نفسه دوما إخضاع الاخر بالقوة لإرادة الذات،ومرده الى الإحساس بتفوق الذات ودونية الآخر.
فالحياة بهذا المعنى ليس لها القيمة نفسها بالنسبة لكل الاحياء،لان حياة البعض تضحي أثمن من حياة البعض الآخر..
وللبعض كرامة إنسانية بينما ليس للبعض الآخر نصيب منها..
والبعض وجد ليسود فيما وجد البعض الآخر ليكون له تابعا..
وهي امور تتوضح لدى الكثيرين اكثر عندما تتعلق بالممارسات السياسية،في الأنظمة الشمولية حيث يسود الاستبداد وسياسة الحديد والنار مقابل ثقافة المواطنة وحقوق الانسان..
في المعتقلات وأقسام الشرطة حيث يتم تعذيب الموقوفين بوحشية لاستخلاص أقوالهم...
في العلاقات الدولية حيث يقصف المدنيون (كما يحصل في سوريا وغزة) ويتعود المجتمع المدني العالمي على تكرار واستمرار ذلك متى كان مفيدا سياسيا وجيوستراتيجيا..
ورغم اختلاف المشاهد فالمبدأ الذي يحكم العنف فيها وينتجه ويعيد إنتاجه مبدأ واحد،في كل وضعية هناك طرف يؤمن بتفوقه ويعتقد بدونية من هو أمامه..لذلك يرى أن بإمكانه ان يسود ويسيطر بالقوة،وكلما كان الطرف الثاني اضعف من ان يواجه،كلما قلت مقاومته،كلما تأكدت فرضية التفوق لدى كليهما..
يتأكد الاحساس بالتفوق لدى الطفل الذي يستطيع التحكم في شخوص اللعبة والتسلي بإيذائهم وقتلهم باستمرار،فالذي يملك ادوات التحكم يمكنه ان يفعل ما يشاء بغيره..
و يتأكد لدى رب الأسرة الذي يعتبر نفسه الأقوى والأكثر تحكما،ويرى في الأسرة مملكته التي يجب ان تسير على هواه،وكلما قلت مقاومة أهل البيت،وحظي بتشجيع من المجتمع أمعن في إظهار قوته وهيمنته،خصوصا عندما تروج الثقافة السائدة صورة الذكر المهيمن على أنها المثال الذي يجب أن يحققه كل رجل..
وعلى مستوى اوسع قليلا فهو نفس شعور التفوق الذي يهيمن على مخيلة الحكام المستبدين عندما يتصورون الوطن كمنزل ضخم يقطنونه بحرية هم واتباعهم،ولا يلعب فيه المواطنون إلا دور قطع الديكور الجامدة التي تزين بابتسامات فارغة كل الجدران والردهات،وإذا تململ البعض منها عن مكانه نقلوه الى المشغل ليعاد صقله او رموا به في قبو منسي..
هذا التفوق الذي لا يثير حفيظتنا إلا عندما نستشعره في مواقف الدول العظمى وهي تتعامل مع الكوكب كرقعة شطرنج تملكها،تتسلى بتحريك قطعها لكي تثبت في كل مرة انها دوما الأذكى والأقوى،فكل ما تراهن عليه من خيرات في اي منطقة في العالم تأخذه وفق قوانين لعبة من اختراعها...
مشكلتنا مع العنف اذن- ان كان العنف يشكل مشكلا بالنسبة لنا على الأقل- لا يجب اختزالها في ابعاده الضيقة..تسعى الخطابات المدافعة عن المستضعفين من ضحايا العنف بأشكاله المختلفة الى إعادة الاعتبار اليهم، لكن غضب الضحايا سرعان ما يتحول الى عنف مضاد، لهذا تتنامى جرائم الاحداث الجانحين،والجرائم ضد الاصول،وعنف النساء ضد الرجال،ولهذا ايضا تتلون كل ثورة ضد الاستبداد والاستغلال بلون الدماء،ليست فقط دماء من يستشهدون من أجل الحرية ولكنها ايضا دماء من تطالهم ايدي الشعوب الغاضبة (كما حصل في استهداف الأشخاص ذوي الاصول الافريقية في ليبيا قبل سقوط نظام القذافي).فكلما وجد الضحايا انفسهم في موقع قوة أنتجوا عنفا مماثلا للذي مورس عليهم او أسوأ منه، فقد تخلصوا (او على الاقل يسعون للتخلص) من أثر الدونية الذي كان لصيقا بهم لكي يصبح لديهم إحساس بتفوقهم هم ودونية من غيرهم.
ربما نحتاج الى خطاب يذكر الجميع وباستمرار (الجلادون والضحايا على حد سواء) ان البشر سواء،وان إنسانية كل كائن بشري محط تكريم واحترام بذاتها.ولأن الخطابات وحدها لم تكن يوما كافية كان لزاما علينا التأصيل لهذه الثقافة التي تعلي من شأن الانسانية وتحميها في كل سلوك يومي لنا كأفراد داخل أسرنا وكمواطنين داخل الدولة وكمواطنين داخل المجتمع البشري غير المحدد بزمان او مكان معينين.وبالنهاية لا نملك إلا نحيي كل أشكال النضال للحد من العنف ضد النساء لكن القضية العادلة تخسر الكثير من فرصها في الانتصار عندما يتشرذم مناضلوها و يقتطعون منها قضايا فرعية تصبح مع الممارسة التاريخية غريبة عن بعضها البعض،وغريبة عن القضية الأصلية،فمجتمعاتنا في عمقها ليست فقط مجتمعات تعنف النساء،ولكنها مجتمعات تخلق دائما أفرادا ضعفاء وتجعل غيرهم يستقوون بضعفهم.

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2012

في قاعة الانتظار...

وصلت الى عيادة طبيب الأسنان على الساعة الثامنة والنصف صباحا،لم اكن قد طلبت موعدا من قبل،وزيارتي هذا الصباح أمر لم اخطط له،بل أرغمني عليه ألم فاجأني في ساعات الصباح الاولى وحرمني نعمة النوم..نظرت الى باب العيادة المغلق في ضيق...لم يضايقني كونه مغلقا فقد لمحت لافتة تعلن مواعيد العمل التي لن تبدأ الا عند الساعة التاسعة صباحا..لكن مصدر ضيقي هو الزيارة نفسها،وانا التي احاول دوما تجنب زيارة طبيب الاسنان...وتلك قصة اخرى !
على الساعة التاسعة فتحت امرأة الباب وشرعت تنظف الأرضية والسلالم..همهمت سيدة كانت واقفة بالقرب مني: ألم يكن هذا العمل لينجز قبل وصول الزبائن بوقت كاف..بمجرد انتهاء المرأة من التنظيف دعتنا باشارة من يدها الى الدخول وكنا خمسة اشخاص..فكرت فورا ان خطواتنا سترسم اثارا على الارضية المبللة..
تحدثت الى مساعدة الطبيب التي اخبرتني ان الطبيب يرى زبائنه من الذين لديهم مواعيد مسبقة اولا ثم  طمأنتني الى انه  سيصل خلال دقائق وان دوري لن يتاخر كثيرا...
في قاعة الانتظار جلست اتصفح احدى المجلات..حين دخل عامل يحمل عدة تصليح...توجه نحو احدى نوافذ القاعة من اجل اصلاحها..اعتذر بأدب عن الازعاج ثم باشر عمله..قبل ان تتدخل مساعدة الطبيب فتطلب من بعض الجالسين التنحي لمنح العامل مجالا اوسع للعمل في ركن القاعة الضيق..لم يستغرق عمله اكثر من ربع ساعة..فكرت انه كان بوسعه القدوم بوقت ابكر وانهاء  عمله قبل وصول الزبائن..
بعد انصراف عامل التصليح وعودة الهدوء الى قاعة الانتظار انتبهت الى ان التلفاز الذي كان مشغلا على "قناتنا الثانية" كان يبث حلقة من مسلسل مدبلج الى الدارجة المغربية..الحوارات التافهة نفسها عن الحب الذي يعمر اطول من الدهر،وعن فتاة تسرق خطيب اخرى،عن أطفال يسأل بعضهم بعضا فيما اذا كان للواحد منهم صديقة سرية،او فيما اذا كانت الواحدة منهن ترغب بخطيب...شعرت بالغيظ !! بعد اكثر من عقد من الزمن من البث المستمر والمنتظم لهذا النوع من الانتاجات يبدو لي واضحا ان امورا كثيرة تغيرت في نظرة المغاربة وحكمهم على الامور..انهم فجاة شعب سعيد بالتئام شمل بطلة وبطلة المسلسل "أ" وينتظرون بشوق ان تبدأ حكاية المسلسل "ب" لكي يتتبعوها بكل اخلاص..وبين البداية والنهاية هناك دوما الكثير من المشاهد التي باتت مألوفة لدى  المغربي والكثير من السلوكيات التي لم يعد يستهجنها بدافع من التعاطف مع البطل او البطلة "مسكينة" !!
توجهت الى مساعدة الطبيب وطلبت منها ان تضع الجهاز على قناة وثائقية او اخبارية،ردت بابتسامة فيها من اللطف بقدر ما فيها من الغيظ أنه بامكاني تغيير القناة وان اختار القناة التي اريد..
عدت الى القاعة لكي اتنبه الى عدم وجود مستقبل رقمي..ترددت للحظة ثم سألت الحاضرين محرجة ان كانوا يتتبعون مشاهد المسلسل،فاجاب الجميع بالنفي،قلت لهم اني اريد تغيير القناة فبدا الارتياح على وجه شاب وجد نفسه وحيدا بين السيدات...اقتربت من الجهاز فوجدت انه لا يلتقط غير قناتين..الثانية وميدي 1 الفضائية،اخترت الاخيرة وكانت تبث برنامجا وثائقيا باللغة الفرنسية عن التصحر الذي اصاب قرى كثيرة في المكسيك فدفع بسكانها الى الهجرة السرية الى الولايات المتحدة الامريكية..كان البرنامج يصف معاناة الفلاحين وظروف سكنهم وعيشهم العصيبة،وتتبع أهم ممرات عبور مرشحي الهجرة السرية في الصحراء وعبر مسالك جبلية وعرة أو عبر الحدود البحرية المؤدية الى بلاد العم سام...بين بؤس مرشحي الهجرة السرية و موت العديد منهم في محاولات العبور،وبين معاناة أقاربهم في القرى حيث لا مال ولا عمل ولا أمل، فكرت ان معاناة البشر هي نفسها في كل مكان: فقر وحرمان وجوع البعض من اجل ترف ومتعة وبذخ البعض الاخر..
بين الفينة والاخرى توقف بعض الحاضرات أحاديثهن عندما تلفت انتباههن أصوات الموسيقى الحزينة او مشهد احد المكسيكيين يغالب دموع القهر..لكنهن سرعان ما يعدن لاحاديثهن..افترضت ان ذلك بسبب جهلهن للغة الفرنسية..سالت نفسي ساعتها: هل من باب الصدفة ان تكون المسلسلات العاطفية( حيث العالم مكان جميل الكل فيه فاتنون وفي قمة الاناقة لا هم لهم سوى مشاكل الحب) ووصلات الاشهار والشعارات الديماغوجية الشعبوية للكثير من الساسة تقدم باللهجة الدارجة بحيث يضمن القائمون على كل ذلك النفاذ الى فهم المتلقي مهما كان سنه او مستواه التعليمي..بينما يظل بث المواضيع الجادة او النقاش في القضايا الهامة حكرا على نخبة من المتفرنسين في هذه البلاد؟ !!
كنت اعرف ان لا صدفة في الامر فلست ممن يؤمنون بالصدف،لكن الاجوبة المحتملة أرهقت ذهني...قرأت في مكان ما ان في العالم نخبة من الاشخاص يعتقدون ان الشعوب اغبى من ان تسير نفسها بنفسها..وانها تحتاج دوما الى من يقودها..لذلك يرى هؤلاء انهم الاجدر بالقيادة...
وبقدر ما اؤمن بحرية البشر وقدرتهم على رعاية شؤونهم بدون وصاية من بشر اخرين،بقدر ما يزعجني ان أرى سهولة تعبئة الناس من اجل قضايا مزيفة او اهتمامات سطحية...مهما كانت اهمية قضايا الفقر والجريمة والادمان والاستغلال والنهب والحريات المفقودة..فان اعداد الذين يبحثون عن تذاكر لحضور مهرجان "فن" كذا او كذا، واعداد الذين يصطفون باخلاص كمشجعين لفريق كذا او كذا،واعداد الذين يتتبعون بلهفة اخر موديل لهذا المحمول او ذاك او اخبار الفنانين والفنانات، اعداد كل هؤلاء هي دوما اكبر بكثير جدا من اعداد من يبحثون عن فهم ومعالجة مآسي الانسان المعاصر وأشكال استعباده المعلنة والخفية باسم عالم متحرر...
" استاذة...تفضلي حان دورك !" قاطع صوت مساعدة الطبيب حبل افكاري فنهضت وانا اشعر بالضيق مجددا...

الجمعة، 21 سبتمبر 2012

خمسة أخطاء تفسد تربية أبناءك

            تبدو تربية الأبناء بالنسبة لكثير من الآباء والأمهات أمرا بديهيا،ولا يشرعون في مساءلة أساليب التربية إلا عند الاصطدام  بمشاكل خطرة تتهدد أبناءهم (كالإدمان أو محاولة الانتحار أو الجنوح...أو غيرها)
والحقيقة ان تعبير "خرج  من الجنب" -الذي يستعمله المغاربة لوصف حالة الابن او الابنة اللذان يسلكان بشكل غير مقبول اجتماعيا- فيه الكثير من التحلل من مسؤولية الابوين عما يحل بابناءهما،فسلوكات الابناء في جانب مهم منها تعبير عن برمجة تتدخل فيها الكثير من الوسائط كالمؤسسة التعليمية ووسائل الاعلام وجماعة الاصدقاء والشارع لكن تظل الاسرة اهم هذه الوسائط،فالابوان هما اول من يزود الطفل بتمثلاته وافكاره حول الاشياء من حوله،وحتى عند انفتاحه على باقي وسائط التنشئة الاجتماعية يجب ان يظل خطاب الابوين مصاحبا لنمو ابناءهما الذهني والعاطفي والسلوكي.فقبل ان "يخرج ليهم من الجنب" اين يخطئ الابوان؟
الاب ينفق...الام تربي
اول خطأ ينبغي تجاوزه هو الاخر ناتج عن اشراط اجتماعي وبرمجة ثقافية للابوين نفسيهما،وهو القائم على توزيع محدد للادوار يعتبر التربية مسؤولية تقع على عاتق الام وحدها ويقبل باستقالة الاب تماما من هذه العملية وهو ما يتيح لبعض الاباء عندما تسوء الامور فرصة الصراخ في وجه زوجاتهن: "اجي يا لالة شوفي ولادك وشوفي تربيتك !"
والحقيقة ان مسؤولية التربية تقع على كليهما،اذ لا يعقل ان يدفع الاب نفقات ابناءه من عرقه وكده دون ان يتدخل في تربيتهم ليضمن على الاقل ان استثماره في ابناءه سيكون مثار فخر له في يوم ما.
دعنا نناقش الامر
ان امور الخطأ والصواب تثير اختلافا لا ينتهي بين الناس،اذ تعود الى القناعات الفكرية لكل شخص،وطريقة تنشئته وتجاربه وكامل ماضيه،وقد يختلف الابوان احيانا حول ما هو مسموح به لابناءهما،وقد يتبنى كل منهما اسلوبا مغايرا في التربية،الا انه من غير الصحي ان يشهد الابناء النقاش حول هذه الاختلافات،ومن المربك للطفل ان يتلقى رسائل متناقضة من ابويه،وقد يفسد تقديره واحترامه لاحد ابويه اذا غلط احدهما الاخر بشان تربية الابن بحضور هذا الاخير،والاولى ان يتفقا مسبقا بشان رؤية في تربية ابناءهما تقرب بين وجهات نظرهما،وان يحترم كل منهما قرارات الاخر بشان الابناء حتى ولو لم يتفق معها على اساس ان تتم مناقشتها لاحقا.
التربية...لعبة بدون قواعد
ان جوهر التربية قائم على اكساب الطفل قواعد ومعايير وقيم وانماط تفكير يترجمها الى سلوكات وعادات،ومعلوم ان السلوكات والعادات تكتسب بتكرارها،ولذلك اذا اردنا من الطفل اكتساب سلوك ما علينا ان نحرص على جعله يقوم به بشكل متكرر.
تنفعل بعض الامهات عندما لا يستمع ولا ينفذ الطفل المطلوب منه،والحال ان الطفل مثل الجميع يسمع ما يثير اهتمامه اكثر،لذلك يجب على الام ان تصوغ طلبها بشكل  يحفز اهتمامه،وافضل اسلوب في هذه الحالة هو التفاوض،فعندما يعلم الطفل ان قيامه بواجبه المدرسي او مساعدته في ترتيب البيت سيترتب عليه حصوله على ما يريد( ساعة اضافية على الحاسوب او قطعة حلوى اكبر...) سيتحفز اكثر للتجاوب مع ما تريده الام او الكبار بوجه عام..
ان العادات الجيدة تحتاج لترسيخها الى روتين  يومي بها في المنزل،كل تربية تقوم على قواعد واضحة او مضمرة يعود اليها الابناء في سلوكاتهم،وكلما كانت القواعد معروفة لدى الابناء كلما كانت فرص انعكاسها على سلوكاتهم اكبر،ولا يتعلق الامر بتحويل البيت الى ثكنة عسكرية حيث كل شيء بنظام دقيق،لكن الابناء يحتاجون قدرا ادنى من المعايير لاكتساب عادات تحمل المسؤولية والتعايش مع الاخرين مثلا..
قدوة ومثل اعلى
يتمتع الطفل في سن مبكرة بالذكاء الكافي ليلاحظ ما اذا كان الجميع يتقيد بالقواعد التي يطالب هو باحترامها،ولذلك فهو لا يغفل فرصة للاحتجاج: " ومال بابا كايكولها؟" "ومالك انتي اماما رميتي الزبل تما؟" وهو تساؤل مشروع تماما اذ يحتاج الطفل الى التاكد من مصداقية ما يطلب منه لان التقيد باوامر الكبار يحرمه الكثير من تلقائيته ولذلك فمن العبثي ان يعاقب الاباء ابناءهما على سلوكات يقومان هما نفسيهما بها،فالتربية السليمة تحتاج الى توفير قدوة فعلية للابناء واول مرشحين للعب هذا الدور في نظر الابناء هما الوالدان.من هنا لا نجد غريبا ان يتصف البعض من مغاربتنا بالازدواجية والتناقض ما بين قول وفعل،فالكثير منهم يقلدون بامانة ما رأوه من اباءهم وامهاتهم.
راسو قاصح...هرسو ليه
الطفل العنيد يرعب الكثير من الاباء،فهو يتعب في تربيته طفلا وقد يتحول لاحقا الى مراهق جامح ولذلك قد يتم التعامل معه بقسوة.الامر الذي يغفله الكثير من الاباء ان الطفل العنيد يتمتع بالكثير من الميزات الايجابية،فله القدرة على التعبير عن رفضه او قبوله للأشياء،ويملك الجرأة للتشبت بموقفه رغم معارضة او انزعاج من حوله،وهي صفات لا يتمتع بها الكثير من البالغين.فكيف التعامل معه اذن؟
قد يكون تعبير الطفل عن رفضه او غضبه بشكل مزعج كالصراخ او تكسير الاشياء قد يكون ذلك مؤشرا على وجود توتر لديه،فمعلوم ان الطفل يحتاج الى اشعاره بالامان والحنان وبكونه محبوبا ومرغوبا من طرف ابويه،وقد يكون الغياب التام او الجزئي لهذه الاجواء المطمئنة سببا في شعور الطفل بالقلق،كما قد يصدر عن احد الابوين بشكل عفوي ومتكرر تصرف يوحي للطفل بانه غير مرغوب فيه فيجعله ذلك يتصرف بشكل عدواني.
وفي كل الاحوال يحتاج الطفل العنيد الى جرعة حنان تطمئنه ثم الى توضيح المطلوب منه بدقة،وعندما يسلك بشكل غير مقبول يتعين على الابوين ان يوضحا له ان السلوك غير مقبول بحيث يفصلان بين الطفل وسلوكه اثناء تعبيرهما عن غضبهما و رفضهما  للسلوك وليس لطفلهما .
الخبر السار ان الطفل العنيد مفاوض جيد،فهو يحتاج الى توضيح القواعد ومعرفة الاسباب التي من اجلها عليه ان يسلك بشكل معين،كما يحتاج الى ان يثق في مصداقية ما يقوله الابوان (وهو ما يعني الامتناع التام عن اطلاق الوعود الكاذبة او التخويف بامور غير حقيقية اوالتهديد بعقوبات لن تنفذ باي حال)،لكن ما ان يتاكد انه لن يحصل على ما يريد الا عند تنفيذه المطلوب منه فانه عامة يتجاوب مع قواعد المنزل عن قناعة اكثر من غيره..

الثلاثاء، 4 سبتمبر 2012

التسول...حاجة أم اختراع؟

 تشير بعض الاحصائيات الى وجود ازيد من نصف مليون مغربي يمتهنون التسول بشكل احترافي،رقم كهذا يثير القلق اذ يعتبر في نظر الكثيرين مؤشرا على تأزم الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية وفشل مخططات التنمية في احتواء حاجات الناس وتحسين ظروف عيشهم. وهو تحليل لا يجانب الصواب لكنه يختزل التسول في اعتباره ظاهرة بالمعنى الدوركهايمي،اي بالمعنى الذي يجعل كل تسول مشروطا بأسباب موضوعية خارجة عن ارادة الناس، بينما يمكن ان ينظر اليه كسلوك اجتماعي،والسلوك هنا محدد بوصفه استجابة الفرد النوعية للظروف التي تشرطه سواء كانت اجتماعية،اقتصادية، سياسية...او غيرها.انه رد فعل لكنه ليس آليا وحتميا بشكل كلي،انه رد فعل محتمل،بما يجعله في جانب منه خيارا للمتسولين،صحيح انه خيار على لائحة ضيقة جدا من الخيارات بالنسبة للبعض،لكنه قد يكون الخيار الأسهل بالنسبة للبعض الآخر،ولا يتعلق الامر هنا بالتحامل على المتسولين،اذ يمكننا ان نلاحظ بكل موضوعية ان تنوع أساليب التسول وخلفيات المتسولين تدعم هذا الطرح.فسلوك الاستجداء يصبح احترافيا ومدرا لدخل منتظم بالنسبة لفئة من المتسولين،وبقدر ما تتواجد جذوره في الممارسات اليومية بقدر ما يترسخ في ذهنية المتسول ليس فقط كخيار ممكن ولكن كخيار يمكن الدفاع عن مشروعيته،ولهذا يجري الابتكار في أساليب الاستجداء ولا يجد الممارس لهذا السلوك اي عيب في تعاطيه،فمن امرأة تستوقفك لطلب مساعدتك في اكمال ثمن تذكرة حافلة،الى رجل تجده من حين لآخر مغمى عليه (او يبدو مغمى عليه ان شئنا الدقة) والى جانبه وصفة طبية لمريض بالربو،الى شاب اصغر سنا يقدم لك لوحا عليه حروف بالكاد مقروءة ويطلب منك التبرع لطلبة مسجد ما في منطقة او دوار لم تسمع به من قبل...ويظهر الضيق على وجوه كل هؤلاء بمجرد اعتذارك عن تقديم المساعدة،والبعض منهم لا يتورع عن مهاجمتك بلسان سليط يجعلك عبرة لغيرك.
ان المشاهد التي نتحدث عنها هنا ليست مشاهد المتسول الذي اعتدنا على تواجده في جنبات الطرق وعلى ابواب المساجد بملابس رثة ووسخة تجعلك تصنفه بشكل آلي ما ان تقع نظراتك عليه،ان فئة المتسولين التي استرعت انتباهي للكتابة في الموضوع تهم اشخاصا بمظهر عادي وملابس نظيفة تصل حد الاناقة احيانا،ومع ذلك فما يستوقفون المارة من اجله هو في النهاية...تسول.نحن اذن إزاء تغير يكسر الصورة النمطية للمتسول والتي تعرفه في مظهر محدد (رث) وتفترض خلفية معينة ( الفقر) وتستنتج استمراره في تلك الوضعية الى ما شاء الله...ويحل محل هذه الصورة شكل جديد من المتسولين،أشخاص يقدمون انفسهم احيانا على انهم يعيشون ظروفا طارئة او استثنائية يمكن ان يكون ضحيتها اي منا.وتكرار مثل تلك المشاهد يجعلنا نتساءل: ما الذي يجعل من التسول خيارا لهؤلاء؟
وكما سبق التوضيح،لا يتعلق الامر هنا بتبرئة الدولة وتدبيرها للشأن الاقتصادي والاجتماعي،فمن المؤكد ان اتساع دائرة الفقر وتنامي البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة وغياب مشاريع تنموية حقيقية تهم الشرائح الاجتماعية الاكثر فقرا،كلها عوامل تشكل ارضية خصبة لتفشي الظواهر المرضية في اي مجتمع.
غير ان التسول ظاهرة معقدة تتداخل في ظهورها وانتشارها وتجذرها في الممارسات اليومية للافراد اسباب متعددة منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي،ويلزمنا التحليل الموضوعي بتسليط الضوء على الظاهرة من جميع جوانبها ومسبباتها.
هكذا يمكن القول ان نسق القيم والاعتقادات السائدة في جانب منه يلعب دورا في تجذر التسول كسلوك اجتماعي،وفي هذا الباب نستطيع القول انه حتى بعض القيم الايجابية كالتصدق والتبرع والتضامن يمكن ان تؤدي في اشكال تصريفها الواقعية الى عكس مضامينها.فاذا تناولنا مفهوم الصدقة مثلا،سنجد ان الاسلام يشجع الصدقة بمفهومها الشامل لكل اشكال العطاء المادية ( الانفاق في سبيل الله) والرمزية (ابتسامة المسلم في وجه اخيه صدقة) ويجعل منها شقا واجبا (الزكاة) يهدف الى خلق توازن في توزيع الثروات.غير ان التشجيع على الصدقة في الاسلام يوازيه تثمين لقيم الكد والجهد،فليس الهدف منها خلق شريحة اجتماعية من المنتفعين بثمرة جهد غيرهم،وانما الغرض منها خلق مجتمع متضامن متآخ.
ومن المؤسف ان الفهم المغلوط لدلالات الصدقة خلق لدى فئة من المسلمين سلوكا اتكاليا يركن الى الاعتماد على الغير،وهو سلوك يذكرنا في علم النفس بالشخصية الطفيلية التي تتميز باعتمادها الدائم على الاخرين للقيام بمهامها،ونزوعها الى استجداء العطف والتباكي على سوء الحال.
وينبغي ان نشير هنا الى ان لبعض حملات التضامن - والتي تجري تغطيتها اعلاميا على نطاق واسع- نصيب مهم في تكريس عقلية التواكل والاعتماد على الغير،فبغض النظر عن عجزها عن حل مشاكل الفقر والجوع لدى الفئات المستهدفة،فان تلك الحملات(بتكرار مشاهد الاعانات الموزعة امام عدسات الكاميرا) تحول المستفيد الى شخص قابل سيكولوجيا لان يعال من طرف غيره.
وبالموازاة مع تراجع قيم الكفاح والكد والنجاح المستحق،تبرز قيم "الغفلة" و "التشلهيب" والانتهازية التي تجد في كل ركن فاسد في المجتمع مناخا ملائما لتتجذر وتنمو،فتتعاظم قيمة الجواب عن سؤال:ماذا تملك؟وكم تكسب؟ مقابل الاختفاء التدريجي لاسئلة: من اين لك هذا؟ وكيف حصلت عليه؟
يمكن تفسير التسول اذن كنزوع سيكولوجي للاعتماد على الغير يجد تشجيعا اجتماعيا سياسيا ودينيا،انه سلوك بعيد كل البعد عن اسلوب حل المشاكل وتحمل المسؤوليات،وذلك لحسن حظ القائمين على تدبير الشأن العام،فعندما يتوقف الناس عن إذلال انفسهم بالتسول باعاقاتهم وامراضهم ومختلف ظروف حياتهم،عندما يدركون انهم لا يفلحون في تحسين ظروف عيشهم مهما بذلوا من جهد، من المؤكد انهم سيلتفتون للتساؤل عما يعيق رفاههم،والبحث عن طرق لمحاسبة كل فاسد وكل منتفع بالمال العام.لكنهم على ما يبدو يفضلون –الى الان- طريق الابداع في النصب والاحتيال كما يفعل غيرهم.