الأربعاء، 13 أبريل 2016

إعاقة



كثيرا ما يكشف تعاملنا مع الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة على أن لنا أعطابنا الخاصة،كثيرا ما نتأمل الأشخاص في وضعية إعاقة فقط لكي نستشعر نعمة الجسم السوي، لكي نحمد الله على أنه جنبنا هذا الواقع المؤلم، ومنا من يسمح لنفسه بأن يفسر هذا المصاب أو ذاك بأنه انتقام من الله عز و جل يعاقب به المعني بالإعاقة أو أحدا من ذويه.وحتى عندما نشعر بالتعاطف  نشيع الشخص بنظرات الشفقة في كل حين كما لو كنا عاجزين عن رؤية الروح التواقة الى العيش خلف كلمة "معوق".
تحصل الأشياء لسبب ما، وينبغي ان نقر أن الأسباب أحيانا كثيرة تتجاوز قدرتنا على الفهم أو الإدراك، ما الحكمة في أن يحرم بعض الناس من متع إنسانية بسيطة كتأمل ملامح أحبائهم؟ و في أن يولد آخرون بقدرات حركية او ذهنية أقل من غيرهم؟
نقف حيارى امام أشكال المعاناة والألم،قد يقدم لنا العلم أجوبة حول "لماذا؟" أو "كيف؟"  أجوبة تظل مع ذلك غير كافية، خصوصا بالنسبة للذي يعيش وضعية الإعاقة و يرن في ذهنه السؤال : "لماذا أنا بالذات؟" أو بالنسبة للآخرين الذين يحتاجون تفسيرا ميتافيزيقيا ما يجعل الأمر مقبولا لديهم.
الأكثر مرونة من بيننا - والأكثر تميزا بالتأكيد- هم أولئك الذين يدركون بحدسهم أن ثمة فرصة لجعل وضعية الإعاقة نافذة على خيارات أخرى ممكنة. عندما يصير تناول الطعام، تغيير الملابس، تعلم الكتابة او ممارسة رياضة ما تحديا حقيقيا فبعض الأشخاص في وضعية إعاقة يقبلون بهذا التحدي. تخبرنا نجاحاتهم انه يمكن للشخص ان يعاني من صعوبة في تحريك ذراعيه ويكتب مع ذلك بخط جميل،يمكن ان يكون بلا ذراعين و يغير ملابسه و يعتني بنفسه،يمكن أن يمارس رياضته المفضلة على كرسي متحرك، و يمكن أيضا أن يهيئ طعامه و يعتني بمنزله دون أدنى قدرة على الإبصار.
ثمة درس بليغ نتعلمه على الدوام من نجاحات كهذه: العجز في نهاية المطاف هو شعور نفسي داخلي أكثر من أي شيء آخر،عندما تنصت إلى روحك بما يلزم من التيقظ  فإنك تدرك بالقدر الكافي من الوضوح ان الجسم البشري بدأ على هذه الأرض هشا و محدود القدرات، و لا يزال كذلك،بالتالي فإن كل ما تحققه في ظل وعيك بحقيقة ضعفك البشري هو في حد ذاته قوة وانتصار.
نحن الذين نعيش في عالم من الأشياء المصممة خصيصا لتسهيل حياتنا اليومية فقدنا بالتدريج تلك القدرة على الإنصات إلى ذواتنا،إلى أرواحنا،والى هشاشة أجسامنا،إذ تمنحنا الآلات التي اخترعها غيرنا إحساسا مزيفا  بالسيطرة والتحكم، كلما اقتنينا المزيد من تلك الأشياء زاد اطمئناننا إلى اكتمال وجودنا،دون ان ننتبه الى تحولنا البطئ الى كائنات ترى الكثير دون ان تبصر شيئا، تسمع دون ان تنصت، تستخدم أطرافها بأكبر اقتصاد ممكن للحركة، تملك ذهنا لكنها لا تتعب نفسها كثيرا بالتفكير.
في هذا العالم المصمم للبشر "الكاملين" لا يجد الأشخاص في وضعية إعاقة مكانهم، لأن وهم الكمال يستثني اختلافهم، لذلك احتاجوا على الدوام إلى من يتحدث باسمهم عاليا و بالصخب الكافي لإنصافهم، قد يمثلهم أعلام من هذا المجال أو ذاك،أسماء أدهشت العالم كما فعلت هيلين كيلر -الكاتبة الصماء البكماء و العمياء- أو كما فعل بيتهوفن  -الموسيقار الأصم-  لكن المؤكد أن  هناك جيشا خاصا يحارب على الدوام في صف الأشخاص في وضعية إعاقة، هؤلاء في معظم الحالات هم الأهل والأقارب، إذ عندما ترزق عائلة ما بطفل مختلف، بطفل من ذوي الحاجات الخاصة، لا يمكن إلا أن تكون عائلة مختلفة، إنها عائلة تغادر الى غير رجعة وهم الكمال لتتعامل مع القصور البشري كل يوم، ليس القصور المتمثل في طفلها المختلف فحسب ولكن القصور الكامن في كل واحد من أفرادها وفي كل فرد من أفراد المجتمع المحيط بها.ومرة أخرى تأتينا بعض الدروس الرائعة من هذا الوعي التام بحقيقة الضعف البشري، دروس في الحب غير المشروط والدعم غير المشروط للابن المختلف و لحقه في أفضل الخيارات الممكنة، دروس في النضال اليومي من أجل منح المجتمع مواطنا  متعلما مسؤولا حاملا لقيم و لرسالة، نفس المواطن الذي لا يستثمر المجتمع نفسه الكثير من أجل الحصول عليه،نفس المواطن الذي تعجز أسر كثيرة جدا عن تخريجه بعد ان اختزلت دورها كمؤسسة بيولوجية في التناسل وحده.
أمعني النظر حولك وأرهفي السمع و التقطي مثل هذه الدروس والرسائل،لأن وعيك بالضعف هو ما قد يجعل منك أكثر قوة مثلما ان الاعتقاد التام في امتلاك القوة يجعل صاحبه أكثر ضعفا وهشاشة.
وتذكري ان لحديث القوارير دوما بقية.



الخميس، 24 مارس 2016

"ميت ڭلبو "



أتأمل النبتة وأملأ عيني من خضرتها الغضة، فتأخذني زهورها البنفسجية الجميلة الى المدينة الصغيرة حيث عشت طفولتي،هناك حيث أحبت النساء تزيين نوافذ بيوتهن بأحواض مصغرة من هذا الذي تسميه أمي "ميت ڭلبو " ، تزرعه الواحدة منهن فيملأ جنبات النوافذ فورا و يتدلى في سخاء على واجهة المنزل، لهذا سمي بهذا الاسم الغريب -تفسر أمي- أينما زرعته ينتشر و يزهر دون أدنى مجهود منك.
تطلب الأمر مني زمنا لكي أنتبه الى جحود البشر بهذا الشأن، فكرم نبتة تبهج العين بخضرتها وتسر القلب بجمال زهرتها يقابل عندهم بتسمية من "مات قلبه" ...ربما لهذا أخفقت طوال طفولتي في تذكر اسم النبتة، فكنت كلما رأيتها أقول لأمي: " شوفي ! ها هو "الطايب ڭلبو" !! " ،تضحك أمي طويلا ثم تعدل لي التسمية  وتعيد التفسير من جديد، أركض نحو النبتة دونما اهتمام و أتسلى بسحقها بين أصابعي لكي يسيل ماؤها و أنا أتوقع ان أرى قلبها "الطايب" او "الميت"..
لم أره في ذلك الوقت ولا أراه الآن وأنا أمعن النظر في النبتة أمامي و أمرر يدي برفق على زهورها فيما يشبه الإشفاق، كان بوسعي أن أنظر إلى خضرتها طوال اليوم، لكن لونا آخر في جانب من الحوض الكبير جذبني، لون بين الأصفر والبني..تلك كانت النبتة في خريف عمرها القصير..كوجه متغضن غادره الجمال وجف نبع شبابه الى غير رجعة.
أمرر أصابعي على النبتة المتيبسة وأفكر أن قليلا من الماء كان ليجعل خريفها أقل قسوة، قليل من الماء الذي وهبته خلال ربيعها بكل سخاء، لأجل أولئك الذين حظوا بحضورها البهي بأقل تكلفة  ثم ابتكروا لها دون اكتراث اسم من "مات قلبه".

طيور الظلام

حاصدو الارواح، حفارو القبور..انهم في كل مكان حولنا يحققون الغاية من وجودهم في استهداف الحياة..ينفثون سمومهم في وجهها بلا انقطاع، يرغبون بسحبها ببطء.. ببطء نحو العدم.
إنهم اللعنة التي يكون على الأحياء إبطال تعويذتها ان أرادوا عالما بلا دمار
يستحوذون على كل شيء، لا تأمل شيئا فهم هنا لكي يحطموا كل آمالك، لا تؤمن بشيء فهم هنا لكي يضحكوا على الدوام من سذاجة أحلامك
ينجحون في إتعاسك كل مرة، فالعالم حيثما وجهت وجهك ملك لهم، عليه ملامح قبحهم،يزكمون الحواس بحقارتهم.
تود ان تحارب انتصارا للحياة، لكنك في كل مرة تتوقف مسائلا روحك أتلك حياتك ام حياتهم؟

الجمعة، 4 مارس 2016

ما هي خياراتنا؟


 
يحل بعد أيام  الثامن من مارس الذي يوافق اليوم العالمي للمرأة، وهو اليوم الذي تتوقف عنده الملايين من النساء عبر العالم لتقييم ما أحرزنه من نقاط في مرمى عالم لطالما كان ذكوريا و لا يزال في العديد من المناحي.
سيكون من التجاوز اعتبار النساء شريحة واحدة منسجمة المطالب و التطلعات،قطعا تريد كل واحدة منهن واقعا أفضل، لكن كيف للمرأة أن تحدد الواقع الأفضل دون تتلون رؤيتها لهذا الواقع برواسب التنشئة الاجتماعية الذكورية تارة، أو-على العكس من ذلك- بالثورة على كل ما تعتبره إرثا ذكوريا تارة أخرى؟
عندما تتساءل المرأة عن الخيارات الممكنة فذلك يعني في المقام الأول التعبير عن وعيها بحريتها، تلك الحرية التي تملكها بحكم طبيعتها ككائن إنساني، لذلك يبدو من غير المقبول في القرن الواحد والعشرين أن تفرض على المرأة خيارات ضيقة،او تحرم من نفس الفرص التي تتاح للرجل لمجرد كونها امرأة، وربما يكون هذا هو المبدأ الذي يقوم عليه جعل مطلب المناصفة شعارا لليوم العالمي للمرأة للعام 2016 انسجاما مع الهدف الخامس من أهداف التنمية المستدامة المحددة من طرف هيئة الأمم المتحدة لعام 2030، لكن تحقيق "تناصف الكوكب" بحلول هذا التاريخ يحتاج إلى مؤشرات إجرائية لتتبع وتقييم ما تم انجازه، لهذا السبب تصبح الأرقام التي تشير إلى التمثيلية السياسية للنساء في البرلمانات و المجالس المنتخبة وتلك التي تعبر عن التمكين الاقتصادي للنساء ذات أهمية قصوى بالنسبة للأطراف المعنية من حكومات و هيئات حقوقية محلية و دولية، هذه الأطراف التي تعنى أيضا بمناقشة تدابير الحماية القانونية التي يمكن أن تتخذ لمحاصرة أشكال العنف الممارس في حق النساء.
نقاش آخر يتعلق بحرية المرأة في التمتع بجسدها وفق ما تمليه إرادتها الخاصة، و يتسع النقاش ليتجاوز الحديث عن الحق في الإجهاض و ممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج إلى الحديث عن حرية اختيار الشريك (ة) او حرية ممارسة الدعارة.
على هذا الكوكب إذن وفي الزمن نفسه تعيش نساء بمطالب تعود إلى أزمنة مختلفة، فمنهن من تعيش تحت الحصار في مناطق النزاع المسلح وتنجب للحرب وقود رحاها من بنين و بنات،وتفقد أحباءها كل يوم بالجملة، وتصرخ منادية بالسلام كما فعلت النساء قبل نحو قرن في روسيا (1917) ليضيع صوتها تحت القصف.فمن يحميهن من هذا العنف؟
ومنهن من يطالها الفقر بكل أشكاله، فقر المعيل، وفقر أخلاقه، فقر مخططات التنمية و فقر عواطف الدولة تجاه المنسيين من أبنائها، بوسع الواحدة منهن أن تعبر للأمم المتحدة عن تحقيق المناصفة التامة بينها وبين الرجل في ذلك الدوار المنسي، فكلاهما يعاني التهميش و الجهل والإهمال على قدم المساواة، وقد تطالب بمقابل ذلك بنفس حظوظ أختها في المدينة: نفس الفرص في الاستفادة من خدمات التعليم والصحة والعمل (على علاتها ومساوئها). فهل يعبر عنهن مؤشر التمكين الاقتصادي؟
من نساء هذا الكوكب من تحارب من اجل انتزاع نصف المقاعد في البرلمانات و المجالس ليقلن للرجال بكل قوة: "نحن هنا" و منهن أخريات  يعملن في هدوء لخلق عالم أفضل بعيدا عن عدسات الكاميرات و أرقام الإحصاءات. من بين هؤلاء وهؤلاء، النساء الحقيقيات فقط من يحفلن بالإجابة عن السؤال : "ما تأثيرنا؟" عوضا عن سؤال : "كم نمثل؟"
من نساء هذا الكوكب من تعتبر الأمومة خيارا، ومنهن من تعتبرها قيدا، منهن من تعتبر العمل المأجور فرصة للتحرر، ومنهن من اكتشفت فيه بشاعة وجه آخر للاستلاب و العبودية للزوج أو الأقارب، منهن من ترى جسدها صفحة عمومية  لتدوين بياناتها الثورية، ومنهن من ترى فيه جزء من وجودها غير القابل للاختزال كشيء.
بعض من نساء هذا الكوكب قلقات..وهنا على الأقل نقطة التقاء مسارين يبدوان مختلفين..القلق يسكن عددا من النساء التائهات والرجال التائهين، وهو فضاء لا يسكنه إلا هؤلاء تحديدا، فهو لا يقدم الإجابات جاهزة، وهم لا يقنعون بالجاهز، فيه الكثير من الأسئلة وهم يحبون طرح الأسئلة، تبنى فيه الخيارات بكل روية وهم مستعدون لأخذ الوقت الكافي من أجل بناء خياراتهم.
"ما هي خياراتنا؟ " يقول الجميع رجالا و نساء.. عندما تطرحين هذا السؤال تكونين بذلك قد خطوت الخطوة الأولى على درب الوعي بحريتك والتصرف على أساسها،على أساس ان هناك دوما خيارات أخرى.
فأن تكوني ضد العنف لا يعني بالضرورة أن تمارسي العنف المضاد.
أن تكوني ضد الهيمنة الذكورية لا يعني أن تؤسسي لهيمنة انثوية.
أن تكوني على وعي بحقوقك لا يعني ان تلوحي بها فقط للتملص من واجباتك.
أن تكوني امرأة لا يعني أن تكوني رجلا آخر او نقيضا للرجل، بل يعني ان تكوني ذاتك وحسب.
تذكري ان الخيارات المتوفرة لا تصنع منا ما نكون عليه، بل نحن الذين نصنع باستمرار خياراتنا في ظل هذه الوضعية او تلك.
تذكري أن توفري لنفسك شروط الاختيار ومن ثم التحرر، أتمي تعليمك حتى لو كنت تنوين الاستقرار في البيت و رعاية الأبناء، ابقي نفسك دوما على اطلاع بما يستجد حول مجالات الحياة اليومية من أفكار ومعارف وتقنيات.قبل قرون اعتقد فرانسيس بيكون أن "المعرفة تحكم في الطبيعة"، واليوم صرنا نعلم جيدا ان المعرفة تأشيرة للاستقلالية، تحرر من استغلال الآخر والتبعية اليه سواء كان هذا الآخر فردا أو جماعة.
تذكري أن كل حكايات الهيمنة و العنف و الإقصاء بدأت بشكل ما من منازلنا، ان كنت تثمنين وجودك كأنثى بما فيه الكفاية، ستحرصين على تصحيح كل السلوكات الميزوجينية، و تكسير الصور النمطية التي تقوم عليها، ستجدين الطريق الى الخطاب الحر الذي لا يقبل التبخيس ولا يمارسه، ازرعي الكلمات في نفوس من حولك واسقيها بإيمانك واصرارك  ثم انتظري بثقة حلول الربيع.





الثلاثاء، 16 فبراير 2016

الشيء الجميل الممتع




تتعرض النساء للتعنيف،ليس هذا بالأمر الجديد، فمنذ فجر التاريخ بدت النساء من بين الحلقات الأضعف في المجتمعات البشرية، و وجد الكثيرون طريقا للنضال في تخليصهن من أشكال العنف المادي والرمزي التي يكن ضحية لها بشكل أو بآخر.
من الصعب أن نحاصر إشكالية العنف ضد النساء دون الغوص في مسبباتها ومن الأصعب ان نفصل في تلك المسببات بين ما هو نفسي وما هو بيولوجي وما هو محض ثقافة.يمكن للمناضلين من اجل حقوق النساء ان يتحمسوا في تصوير المرأة و كأنها الكائن الوحيد المستهدف بالعنف في المجتمع،لكن موقفا كهذا يتجاهل حقيقة واضحة تنطق بها نشرات الأخبار في كل حين: نحن نعيش في عالم يسوده العنف و يختار البعض فيه استعمال القوة من أجل إخضاع البعض الآخر.لماذا؟ بكل بساطة لأنهم يستطيعون ذلك.
أحيانا كثيرة لا يقلقنا العنف إلا إذا صار صارخا، فمشهد رجل يعنف زوجته (أو زوجته السابقة) على الملأ بشكل وحشي يصدم الكثيرين خصوصا ممن اعتقدوا أن تغيير القوانين يمكن ان يكون رادعا نهائيا ضد السلوكيات العنيفة، والحال أن القوانين على أهميتها القصوى لن تمنع دوما حقوق النساء من الانتهاك.كيف بوسع القانون ان يمنع تحول الزوج من رجل محب يخطب ود المرأة و يتعهد برعايتها إلى وحش ضار يكيل إلى جسمها الضربات كما لو كان في نيته إنهاء حياتها؟
من الواضح ان علاقة تنتهي بهذا القدر من العنف لم تكن قائمة من الأصل على أسس سوية، الأمر أشبه باستخدامك لأداة ما لمدة من الزمن ثم عندما يحدث خطب ما تسمح لنفسك بالانفجار غضبا ثم تحطيمها بحجة انها "عْكْسْتْ !!"
ينزع العنف  صفة الإنسانية عن الشخص المعنف (بفتح النون) و يجعل منه مجرد شيء، هذا التشييء هو ما يوهم العنيف على ان بوسعه ان يفعل ما يحلو له، و يجد دوما مبررات لفعله: "كنت غاضبا جدا" "لا تفعل ما أطلب منها" ، "تتحدى أوامري" ،اذا اقتنيت آلة ما فإنك تفكر انها صممت لإرضائك ولن تتوقع أو تسمح لها بأن تشتغل على هواها و يكون بوسعك في كل وقت ان تستبدلها بأخرى او تبيعها او تتركها في ركن مهمل من البيت.
قد يبدو هذا تشبيها فجا، لكن العديد من الرجال يتعاملون مع نسائهم وفق المبدأ الذي يسمح لإنسان  بأن "يستخدم" إنسانا آخر فالمسألة بعيدة كل البعد عن تأسيس شخصين لعلاقة إنسانية، و يمكن -بالمناسبة -للمرأة أيضا ان تمارس هذا النوع من التشييء والعنف في حق الرجل.
قصص العنف الزوجي قد تنسج في واقع التفقير و التهميش، هذا الواقع هو بحد ذاته عنف  يمارس في حق شرائح اجتماعية كاملة تحرم من فرص العيش الكريم و تفرض عليها خيارات ضيقة، لكنه لا يفسر لوحده إقدام بعض الأزواج على إيذاء شريكاتهم، لأن العلاقات الإنسانية السوية لا تتقوى بالظروف المادية  وحدها ( وإلا لكان الأزواج الميسورون تلقائيا أسعد من غيرهم وهو أمر غير واقعي) ،فكون العلاقة إنسانية هو تحديدا ما يجعلها غير قابلة للاختزال في البعد المادي للأخذ والعطاء، بعبارة أوضح، عندما تختزل المرأة في مقدار شبابها وجمالها أو مهارتها في تدبير المنزل أو حتى مقدار ثرائها... فإنها لن تكون أبدا طرفا في علاقة سوية ، تماما مثل رجل يختزل في مقدار شبابه أو وسامته أو سعة إنفاقه أو مكانته الاجتماعية أو غيرها...عندما لا ترى في الآخر إلا ما يمكنك الحصول عليه منه تسقط في العلاقة التشييئية التي تتيح لك فورا ممارسة العنف متى عن لك ذلك، فأنت لست إزاء إنسان يمتلك من الكرامة والقيمة  قدرا مساويا لما تملك أنت نفسك، بل إزاء شيء يفترض به إرضاؤك وإلا فلم الإبقاء عليه؟
قد ينتهي هذا النوع من العلاقات غير السوية بمشهد عنف وحشي، و قد يثمر ظواهر أخرى لا تقل عنفا رغم أنها أقل إقلاقا للشعور الجمعي على اعتبار ان الضرر منها أقل ( ولكن هل هو كذلك فعلا؟ !)، تعرض المرأة على أنها "الشيء الجميل الممتع" في الإعلانات و الأفلام، و تساهم دور الأزياء و شركات التجميل في ترسيخ هذه الفكرة لدرجة تتماهى معها المرأة نفسها فتجتهد طوال الوقت في ان تكون "النموذج الجميل و الممتع" الذي يتحدث عنه الجميع، وهي مستعدة في سبيل ذلك لتغيير ما يلزم تغييره من تفاصيل جسمها و عاداتها الغذائية واليومية بما قد يعرض صحتها الجسدية و النفسية للخطر أحيانا وغايتها أن تكون "شيئا جميلا و ممتعا" بالنسبة إليه. لكنه ليس مرشحا دوما لأن يكون شريكا حقيقيا، إذ بما أنها صارت "شيئا جميلا"  ،وصار هناك الكثيرات جدا مثلها، فقد يصير هو تلصصيا او متحرشا، فهو يمتلك كل امرأة تقع عليها عيناه، لمجرد انه دفع ثمن فنجان في مقهى على رصيف الشارع العام.
تستوقفني في كل مرة كلمتان وصف بهما الله سبحانه و تعالى العلاقة بين الزوجين: المودة و الرحمة، المودة ليست ذلك العشق الذي تفقد نيرانه توازن المرء ثم تخبو جذوته كأن لم يكن يوما، المودة كزخات مطر خفيفة تسقي الأرض على مهل،هي بالضبط  ذلك المقدار من الدفء الذي تحتاج إليه لكي تطمئن في كل حين على استثمارك لسنوات الشيخوخة، أما الرحمة وهي من صفات الرحمن عز و جل، تجعل كل طرف يرحم اختلاف الآخر، يرحم كبواته، و يرحم ضعفه متى ضعف، فيكون سندا له.
هذا المثال Idéal   قد يتحقق على أرض الواقع احيانا، ولكن أحيانا كثيرة نضل طريقنا إليه، يمكن بسهولة ان يجد المرء منا نفسه ضحية لعنف الآخر، وقد نجد انفسنا مرتكبين لهذا العنف، إذا كان الخطأ جزء من تركيبتنا كبشر، فإنه لا ينبغي ان نضل بأي شكل الطريق الى أنفسنا، وكلما كانت طريقنا الى ذواتنا واضحة، كلما استطعنا ان نختار الصواب متى وجدنا أنفسنا في مواجهة العنف.
لا أحد محصن بما يكفي ضد العنف، يكفي ان تتزعزع ثقتكِ بقيمتكِ لسبب من الأسباب،فتشرعين في تبرير سلوكاته و تلومين نفسك عليها،ثم يتحول عنفه اللفظي الى تهديدات، فلا تلقين لها بالا، ثم سرعان ما يشرع في ممارسة العنف الجسدي، فتسامحين لأنها المرة الأولى ثم لأنه كان غاضبا ثم لأنه كان نادما..في لحظة ما يكون عليك ان تعترفي لنفسك ان العلاقة غير سوية عندما تجدين مؤشرات حقيقية على أنها كذلك، وعندها يكون عليك ان تختاري طريق الخلاص، وقد يمر طريق الخلاص بالنسبة الى امرأة معنفة بممارسة العنف المضاد في حق الرجل، و يتطلب الأمر امرأة حرة، امرأة حقيقية لكي ترفض العنف دون ان تسقط في ممارسته.
تذكري الا تضيعي الطريق الى تلك المرأة الحرة.