الجمعة، 1 يوليو 2016

الصعلوك



يشير مصطلح الصعاليك في سياق الأدب العربي الى فئة من الشعراء الجاهليين الذين تمردوا على روابط القبيلة و زعاماتها و أسسوا لموقف احتجاجي عبرت عنه اشعارهم و نمط عيشهم على حد سواء.
وإذا ما تجاهلنا الحكم-من زاوية اخلاقية او حقوقية- على أعمال الغزو والنهب التي قاموا بها فيمكن ان ننظر الى الصعاليك كرمز للتجاوز بمفهومه عند الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر،إذ كلما وجد الإنسان نفسه في وضعية معطاة إلا و فعل شيئا بما يُفعل به، من هنا تكون الصعلكة رمزا للاحتجاج،للتمرد و التحرر مما قد يبدو واقعا اجتماعيا حتميا.
ربما لهذا السبب انجذب مواطن مغربي في وضعية إعاقة هو عادل اوتنيل الى جعل الصعاليك موضوعا لرسالة الدكتوراه ( والتي بالمناسبة لم يحصل على حق مناقشتها دون احتجاج)، فقد شاءت له ظروفه الاقتصادية ان يتصعلك بالمعنى اللغوي للكلمة،فعاش الفقر وضيق الحال، و لم تكن كبرى مشاكله ان وجد نفسه في جسد يضيق بروحه الحرة بل ان يجد نفسه مواطنا في  دولة تضيق بأنفته وعزة نفسه، فلم يكن له إلا ان يتصعلك بالمعنى الاصطلاحي للكلمة.
وما بين صعلكة الجاهلية و صعلكة القرن الواحد والعشرين ردح من الزمن تحول فيه الوطن من قبيلة الى دولة لها مؤسسات تحتكم الى قوانين و يفترض ان غايتها احقاق الحقوق والحريات، فكان احتجاج عادل اوتنيل متحضرا بما يتناسب و تقدم هذا الكيان الرمزي المسمى دولة،فخاض اضرابا شجاعا عن الطعام لما يزيد عن أربعين يوما من أجل الحصول على حقه في العيش الكريم، وبعد ان تدهورت حالته الصحية تناقلت بعض وسائل الإعلام نبأ عن تعليق أوتنيل لإضرابه عن الطعام بعد حصوله على مسكن.
ما يستوقفني في حكاية اوتنيل أمران في الواقع، يتعلق الأول منهما بمثابرة هذا الشاب، إذا كنت تعرف حجم الجهد والصبر والتضحيات التي يتطلبها التحصيل العلمي في وطننا العزيز تخيل معي حجم كل ذلك عندما تكون فقيرا وفي وضعية إعاقة.
في الوقت الذي يترك شباب أصحاء الدراسة مبكرا متعللين بأعذار مختلفة يصعد اوتنيل الدرجات العلمية درجة درجة و لا يتوقف الا ببلوغ أعلاها و لسان حاله يقول أن الإعاقة الحقيقية هي تمثلنا للإعاقة.
الأمر الثاني  يتعلق بحصوله على مسكن لائق، فالمواقع الالكترونية القليلة التي تداولت خبر إنهاء اوتنيل لإضرابه عن الطعام لم تشر الى الجهة المانحة لهذا السكن فيما ان كانت جهة حكومية او احد المحسنين.
فيما يتعلق باوتنيل تحديدا و بصرف النظر عن الجهة المانحة فإن حل ملفه يعد انتصارا لشجاعته و مثابرته، لكنه ليس الوحيد،إذ هناك الكثير من الاشخاص في وضعية إعاقة، من غير الإنساني أن يواجهوا قسوة ظروف المعيش دون اي حماية او دعم، من غير الإنساني الا يُلتفت الى وضعية الواحد منهم إلا بخوضه إضرابا عن الطعام، ومن غير المعقول أن يترك مصيرهم لتعاطف جمهور المحسنين.
المغرب الذي يريد لنفسه ان يكون دولة حق وقانون،البلد الذي التزم باتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة هو ملزم بالتالي  بتوفير فرص الادماج الحقيقية لهذه الفئة من المواطنين.
أن تتطوع شركات او أفراد لإغاثة هذا الشخص أو ذاك شيء جميل و إنساني (بغض النظر عن دوافعه)،لكنه لا يغير شيئا من قبح وجه الدولة التي تتجاهل مواطنيها و تترك الفئات الهشة لمواجهة مصائرها وحيدة.
 عندما لا يحصل المواطن من الدولة التي تدبر شأنه العام على معاملة كريمة تليق بإنسانيته يحدث ما نراه في شوراعنا كل يوم، حيث يتسول الناس طوال الوقت بإعاقاتهم و أمراضهم ويحتال آخرون بلعب دور المريض والمعاق، و يحدث ان يشهر البعض  أسلحتهم البيضاء لكي يسلبوا الناس أموالهم دونما حاجة الى الاستعطاف، وكلها أعراض أمراض اجتماعية مقلقة.
لكن يحدث أيضا ان يتمرد مواطنون آخرون و ينهجوا أساليب الاحتجاج السلمي لكي يذكروا الدولة بقواعد التعاقد الذي بموجبه تستمد شرعية وجودها: احقاق الحقوق والحريات، وهذا كان خيار اوتنيل، وهو خيار ينبغي للدولة ان كانت تروم الاستقرار والسلم الاجتماعي ان تحتفي به وتستمع لمطالب أصحابه بجدية، لأنه  افضل لأمن البلاد من خيار الذين يرمي بهم اليأس من المؤسسات في أحضان التشرميل او التنظيمات الجهادية،إذ نكون هنا إزاء نوع من الصعلكة ندفع جميعا ثمنه باهضا أفرادا و مؤسسات.


الاثنين، 27 يونيو 2016

عن الموت..وما بعده



أفكر بالموت كثيرا منذ أن توفي أبي رحمة الله عليه، أفتقد بشكل مؤلم كل الأسماء التي كان يناديني بها ولم اسمعها من غيره، هو وحده من كان يرى نسخا عني في كل مكان يذهب إليه، بوسعك دوما ان تعرف قلبا محبا من أشياء بسيطة كهذه، أشياء على بساطتها تدفئ القلب طويلا حتى بعد أفول شمس المحبين.
كان ابي محبا للحياة، لم يكن يطلب منها الكثير و لم يتوقع منها الكثير ولم يشغل نفسه بالكثير من همومها، كان يحب فقط أن يعيش، يفاجئك في منتصف حديث جدي بمزحة تجعلك تنفجر ضاحكا رغم استيائك و يصنع له أصدقاء في اي مكان يذهب إليه.
أتصور ان حبه للحياة نبع من انه لم يعرف حياة غيرها،بعد كل عملية جراحية يجريها ينهض بشجاعة، يتقدم في السن أكثر و ينال المرض والشيخوخة من حيوية حركاته أكثر،لكنه يحتفظ بحبه للحياة في كل مرة، إلا آخر مرة، بدا هادئا على سرير مرضه الأخير وقد سرحت نظراته بعيدا عن الزوجة والأبناء والأحفاد،بشكل ما كان قد تخفف من كل ما يربطه بهذه الحياة، كان قد غادرنا بالفعل الى مكان لم يكن يراه أي منا نحن الذين تحلقنا بقلق حول سريره و طمأن بعضنا بعضا إلى ثبات مؤشراته الحيوية.
 يتوقع البعض ان المسنين و قد أدوا رسالتهم في الحياة لا يعود لهم أي مبرر للبقاء و أنهم ينبغي ان يستعدوا للمغادرة..على قسوة هذا الحكم يمكن ان نتساءل معه: الى اين؟
إنه السؤال الذي يسبب قلقا عميقا لمن سقطوا في براثنه، ويستوي في هذا القلق المؤمن والملحد على السواء، يعتقد الملحد انه -بإنكاره وجود الله – قطع مع الشعور بالذنب و التفكير في الجنة والنار، لكنه يجد نفسه في مواجهة أسئلة  مرهقة: ما الجدوى من كل ما نبدعه و نشيده و نقاتل من أجله إن كنا سننتهي الى عدم؟ ما قيمة الخير والشر، والعدل والظلم، والحقيقة والخطأ إن كان كل شيء الى فناء؟
أما المؤمن فلا ينجو بإيمانه هو الآخر من قلق الوجود، كيف يكون متأكدا من الطريق الى الجنة؟ هل ما فهمه من النصوص المقدسة يعبر عن إرادة الله فعلا؟ ما الحكمة من هذا الأمر الإلهي او ذاك؟
الموت أمر مقلق بالنسبة للجميع، نتكهن بالأجوبة و يحارب بعضنا بعضا لإثباتها، وكلما زاد قلقنا إزاء أجاباتنا الخاصة هاجمنا إجابات الآخرين كي نتخلص من هذا القلق.
أفكر في أبي، وأخي قبله وكل الذين أخذهم عني الموت، أفكر انهم عبروا الى ذلك المجهول الذي يقلق جميع البشر، ذلك المجهول الذي يتمثله البعض عدما محضا و يتمثله البعض الآخر حياة آخرى، أفكر أنهم عرفوا و لسبب غامض أغبطهم على هذه المعرفة ، على تخلصهم من قلق التفكير في الموت وما بعده..
كمؤمنة بوجود إله محب لمخلوقاته أتمنى ان تكون ارواحهم جميعا في النعيم و ان يشملهم الله عز و جل بواسع رحمته و مغفرته .

الثلاثاء، 24 مايو 2016

من هي؟ كيف هي؟ متى تكون؟



الجميع يريدها..بحت حناجرهم من أجلها..هم مستعدون لدفع مهرها من دمائهم اذا لزم الامر. يريدونها شمسا تنير سماءهم، أرضا يسندون إليها رؤوسهم المتعبة من طول المسير،ترابا يروى من عرقهم و يزهر رخاء يغمر الجميع...الجميع دون استثناء،هكذا يريدونها..
وحدها كانت تعلم انها لن تطيل المقام بينهم مهما فعلوا، لم يستطع شعب الاحتفاظ بها الى الابد، عبَر طيفها تاريخ البشر بخلود كل الأفكار العظيمة،يدللونها كثيرا في البداية لكن لسبب ما كان عليها ان تغادرهم في كل مرة،أبكر مما توقعت لأنها مثلهم سئمت متحف المُثل، وأبكر مما توقعوا لأنهم لم يعرفوا قط بماذا أخطئوا، وككل مرة يكون أمامهم زمن من العبودية لكي يكتشفوا ذلك بأنفسهم.
ماذا لو؟
ذهن يضج بالأسئلة، لا يسأم أبدا من تغيير كل شيء، يكاد ينتهي من تغيير الأشياء فيبدأ في تغيير فكرته عن التغيير: ينبغي للعالم ان يكون إنسانيا، أجل، كيف يكون كذلك ان ظلت أشياؤه على حالها؟
فلتكن الأشياء وقود طموحنا ! فليكن العالم أقل غرابة  وهو مرآة لعظمتنا !

الحرية ! إلهة الممكن دوما، بالفعل وبالقوة،شجرتنا المقدسة أنت، لن تفسد جذورك تلك الأعشاب الضارة،سنقتلعها دون رحمة !
ماذا لو؟
يجيل كائن بشري هش بصره هنا و هناك في الطبيعة، لقد تعب من التفكير،وأتعبه الاختيار.
ماذا لو كنا كالنملة التي تفعل ما هي منذورة اليه بحكم طبيعتها؟ ماذا لو كنا كالوردة التي تزهر دون انهجاس بزمن ذبولها؟ ماذا لو تصرفنا كقطعة puzzle تأخذ مكانها في الوجود بكل تواضع عوض ان تعيد ترتيب القطع فلا تنجح في اثبات شيء سوى قدرتها على افساد الصورة بشكل غير قابل للتعديل..

الحرية! هذه الفاجرة التي تغوي البشر و تهيئ لهم ان بوسعهم ان يفعلوا ما يريدونه وقتما يريدونه..اعدموها حيث وجدتموها و لا تكترثوا لصرخات العشاق !

ماذا لو؟
عبيد..عبيد..عبيد...أينما ولت وجهها هناك المزيد من العبيد
وهل يملكها مملوك؟ ذاك الذي قد يملك كل شيء إلا نفسه
تغادر هؤلاء و هؤلاء بخطى حزينة..
تستيقظ أرواح هنا وهناك على وقع الخطى و على عبق نسيم عابر للفصول..
من هي؟ كيف هي؟ متى تكون؟
ماذا لو؟


الأربعاء، 18 مايو 2016

نوستالجيا الحب والدمار



هي الرواية الثانية للكاتب المغربي السعيد الخيز بعد "سجين الهوامش" ،تطالعها فتترك لديك انطباعا بالانتماء، فعالمها ليس غريبا تماما عنك، خصوصا إذا كنت من الجنوب المغربي وتحديدا من منطقة أولوز حيث تدور أهم الأحداث التي توجه متن السرد.
هي تأريخ بلغة الأدب لحدث واقعي بصم الذاكرة الجماعية للمنطقة: إنشاء سد أولوز مع ما رافقه من تهجير قسري لصغار الفلاحين وتلاعب بالتعويضات التي كان من المفترض أن تصلهم مقابل نزع أراضيهم.
تقدم الرواية على لسان بطلها "أنير" وصفا لمعاناة الفلاحين أثناء و بعد واقعة التهجير، كما نجد فيها مقاطع عن نضالات المهجرين من أجل استرداد حقوقهم المسلوبة و القمع الدموي لاحتجاجاتهم.
الكتابة إذن ومنذ اختيار موضوعها تموقف وشكل من أشكال  الاحتجاج بالنسبة للسعيد الخيز، أن تؤرخ لمأساة المهجرين في عمل روائي يعني أن تضمن إبقاءه في الذاكرة الجماعية طويلا،وذلك بتفاصيل غنية و دقيقة لا تتسع لها مساحات التقارير الإعلامية التي تابعت الموضوع في حينه ثم تآكلها النسيان بظهور مآسي جديدة.
بهذا ينطق "أنير" الرواية بلسان كل من خاب أملهم في وطن يحمي و يحتضن، يصبح أكثر من ابن الجبل الذي يحمل في قلبه بقايا حب لوطن و امرأة، بل يصير أيقونة المواطن الذي تستثنيه حيتان الرأسمال من حساباتها، فيصبح دخيلا في عقر وطنه.
بلغة غاضبة واستعارات قوية يعبر الكاتب عن اغتراب الإنسان وقلقه و توتر علاقته بالوجود، خصوصا أن خذلان الوطن يتعمق بخذلان الحبيبة، إذ تتخلى "ماريا" عن "أنير" بدون سبب يفهمه، و يستغرق زمنا من عمر الرواية يجوب ماضي التهجير و ماضي "ماريا" تائها بين هذا وذاك،قبل أن يجد طريقا تصالحه مع عالمه الموضوعي، عمله كسمسار عقارات فتح له مجالا لمراكمة الثروة و معاشرة نفس الحيتان الذين اقتسموا (أو حاولوا على الأقل) اقتسام كعكة قريته الصغيرة ومنهم زوج ماريا نفسها.
تنتهي الرواية بإصابة "أنير" بورم خبيث في رأسه، ورم ترجعه الرواية إلى إصابة من زمن النضال والقمع، فهل كانت نهاية "أنير" ضربا من مكر "الوطن" الذي يتدخل لإقصاء ابن الجبل من دائرة المتنفذين و لو بعد حين؟ أم أنها طريقة الكاتب في الانتقام من شخصية ناضلت ضد الحيتان زمنا لتتحول بعد ذلك إلى نسخة عنها؟
في كل الأحوال لا ينكر متن الرواية علاقته بالفضاء الواقعي الذي استلهمه،تفاصيل دقيقة عن حياة الفلاحين، أسماء دواويرهم،الغابات المحيطة بهم و أشياء أخرى تذكرك بأن عالم الرواية ليس غرائبيا في شيء،حتى أن كاتبها نفسه يحضر تارة باسمه الأول "السعيد" باعتباره ابن عم "أنير" وتارة باسمه العائلي "دار الخيز".إشارات كثيرة لكي يعبر الكاتب أنه لا يكتب عن الواقعة من خارجها، فالمتخيل هنا تولد من عمق الواقعي لكي يجسده بلغة أخرى غير الرصد المباشر.
لغة السرد كما تقدم قوية واستعاراتها عميقة وبليغة بشكل جميل وهي لا تقدم للقارئ المشهد العام جاهزا منذ البداية،بل تقدمه قطعا كما لو تعلق الأمر بلعبة Puzzle تملك فكرة عن مشهدها العام لكن يكون عليك تناول وتأمل كل قطعة على حدة لكي تضعها من خلال تفاصيلها المميزة في مكانها المناسب من المتن.غير أن القارئ في هذا السياق يضيع الى حد ما بين الحنين الى زمن "ماريا" و مخلفات ما بعد التهجير في مونولوغ مطول يخلف احيانا انطباعا بقراءة نفس المضامين بجمل مختلفة .
تحضر المرأة في الرواية كأصل، كجدة مناضلة،كأم، كحبيبة (ماريا)، كصديقة (كاترين)،كقروية بسيطة (فتيات الدوار)،و لا تشذ الرواية عن تقليد درج بخلق تماه بين المرأة والوطن(ص274)، ف "أنير" خسرهما معا، لصالح "السيد عمراوي" الذي حصل عليهما معا.
يبقى "أنير" الرواية وفيا للموقف الذكوري التقليدي من المرأة،موقف تشوبه مفارقات كثيرة،فالمرأة حين تكون أما فهي مقدسة وتحظى بالكثير من الاحترام، ويمكن ان تكون حبيبة تشغل الكيان وتتعلق بها الآمال،كما يمكن ان تصير عند الحاجة مجرد وعاء لتخليص الرجل من إلحاح نداء الجسد (ص95). تتحدث لغة الرواية بشكل غاضب و ملئ بالازدراء عن الوطن وقد استحال أنثى رخيصة تعرض عرضها لمن يدفع(ص256)، يكون الاحتقار من نصيب بائعة الهوى حتى لو كان "أنير" نفسه زبونا للعديد منهن،فبمنطق ذكوري لا يحاسب الذكر الذي قد يكون اغتصب تلك الأنثى بادئ الأمر و زج بها في طريق العهر،و لا يحاسب الزبائن الذين يخلقون سوقا للطلب،بل يقع اللوم على بائعة الهوى وحدها.
في التمثل الذكوري تواجه المرأة بشروط صارمة،ينبغي أن تكون بطهر وعفة الأم،فتية و بكرا،فالرجل الذي يتورط في علاقة مع مطلقة او عانس ليس أكثر من ضحية (ص225) وكيف يكون كذلك في مجتمع لا يعترف للمرأة بحق المبادرة؟ !! كما ينبغي أن تكون بالقدر الكافي من الجمال، لا تنطلي على الرجل حيلة اخفاء وجهها بنظارات شمسية (ص 177) و لا تشفع لها قسوة ظروف الحياة الجبلية(ص95)،فإما ان تكون أنثى كاملة الأنوثة او لا تكون.
كلما تعمق قهر الشعوب تضخمت- بشكل مفارق - تمثلات الرجولة في مخيالهم، هنا أيضا تبقى الرواية وفية للاوعي الجمعي،إذ أن الذكر  في مطلق الأحوال رجل بغض النظر عن مواصفاته المورفولوجية او الأخلاقية، فمعاشرة ابن الجبل لزوجته رجولة(ص95)، و رفض "أنير" التفكير في خيانة "السيد عمراوي" مع الحبيبة السابقة "ماريا" رجولة ( رغم أنه خان ماريا نفسها مع بائعات الهوى)،كما أن مبدأه الرافض لإلحاق الأذى بأي امرأة نابع من احترامه لرجولة رجل مثله قد يكون أخاها أو أباها أو غيره(ص314).تحتاج المرأة إذن إلى أن تنسب لأحدهم لكي تحظى بالاحترام.
قراءة السطور أعلاه لصورة المرأة في "نوستالجيا الحب والدمار" توقفت عند إشارات من هنا وهناك داخل متن الرواية، إنها ليست رواية عن المرأة تحديدا لكنها كلما أرادت تأثيث فضائها بشخصيات نسائية انطلقت من أواليات ومسبقات ذهنية لاواعية  تكرس الأنماط السائدة في الممارسة التاريخية.هنا ايضا نحتاج الى ممارسة نوع من التموقف والاحتجاج.
"نوستالجيا الحب والدمار" اذن رواية تشبهنا في نواح كثيرة،من الأماكن والأسماء المألوفة، مرورا بذكريات طفولة لامبالية ،وصولا الى وطن يسبقك اليه قناصو الفرص بشكل دائم، إنها حكاية بدأت مع أجيالنا قبل ان تبدأ على صفحات الرواية و تستمر فصولها في كل واحد منا.