السبت، 25 يناير 2014

البيئة...الاولوية المؤجلة

لقاء قيم حول الاشكاليات البيئية الكبرى بالجهة نظمه اليوم  مركز واد سوس للدراسات والابحاث، أطره الاستاذ خالد العيوض وحضره عدد من الباحثين والمهتمين بالشأن البيئي ومن ضمنهم مديرة المرصد الجهوي لشؤون البيئة...
كلما طرح النقاش حول البيئة اشعر بقلق عميق، ففي ظل تدهور الوسط البيئي بوتيرة خطيرة يبقى الجهد المبذول فعليا في الواقع أقل بكثير مما ينبغي..ليس فقط على مستوى وطني ولكن ايضا على مستوى دولي..
هل نحتاج الى المزيد من القوانين؟ يبدو انه لدينا ترسانة قانونية تحتاج الى تفعيلها
هل يكفي رصد الاختلالات البيئية واسبابها؟ والتوعية والتحسيس باهمية احترام مكونات البيئة والحفاظ عليها؟
لا أظنه يكفي لان أكثر ما يتأذى منه المجال الحيوي على الكوكب لا يعود فقط الى عاداتنا في استعمال المياه او طرق تخلصنا من النفايات ولكن يعود الى خيارات سيئة في التصنيع وفي التوسع العمراني..وهذه تحتاج الى قرارات سياسية لتعديلها..والساسة لا يهتمون وهم على الكراسي الا بالاصوات والاموال التي ستعيدهم الى الكراسي في الولاية اللاحقة..
الرهان هنا هو في توجه فعاليات المجتمع المدني الى الضغط على الساسة (بورقة الناخبين) لجعل المشكلات البيئية على قائمة اولوياتهم.
اتذكر هنا قولة " اذا اردت ان تطاع اطلب ما في المستطاع" وهذا يعني ان هذا الضغط ينبغي ان يترافق مع رؤية واضحة للبدائل التي تطرح على ارباب المعامل و اصحاب الوحدات الانتاجية و واضعي سياسات التعمير لاستباق اي تدبير سيء للمجال..
باختصار ما زال امامنا عمل جدي و شاق على مستوى البحث الاكاديمي و العمل الميداني والنضال الحقوقي حول قضايا البيئة،وهي المنافذ التي ينبغي العمل من خلالها بشكل متواز لتطويق اختلالات المجال البيئي..لكي لا يبقى الحديث عن الحق في البيئة السليمة او حق الاجيال القادمة في ثروات الكوكب شبيها بباقي حقوق الانسان الاخرى التي كلما تم اعلاؤها والتغني بها في المواثيق الدولية والمؤتمرات الا وتزامن ذلك بانتهاكاتها الفظيعة في بقاع متعددة من المعمور..

الأربعاء، 22 يناير 2014

حــــــــــــــــالات....


حالة عزلة
بعض الناس محاطون بالعديد من الاشخاص...اقارب، اصدقاء،زملاء عمل، جيران..
بعضهم يعيشون وحيدين...لا رفقة لهم سوى الله وانفسهم
اتعرف  أسوأ من ان تعيش وحيدا؟
ان تكون محاطا بحشد من الناس في كل وقت..ضجيجهم يملأ حياتك..لكنهم لا يرونك... وانت لا تراهم
كلما اقتربوا وازداد عددهم..كلما زاد شعورك بالعزلة والوحشة
حالة حب
بعض الناس تتسع قلوبهم لكل البشر..ينضحون بحب لا ينضب
بعضهم يوجدون صيغا للحب... اشكال..يمكن ان تكون أي  شيء ما عدا ان تكون حبا
اتعرف  أسوأ من ان تكون عاجزا عن الحب؟
ان تقدم قلبك في كل لحظة لمن تحبهم في غلاف من مال وجهد و وقت،فيأخذون كل شيء ويعيدون اليك حبك كأنه طقس غريب لشعب بدائي...او كتابة بلغة قديمة تحتاج متخصصا في الآثار لفك رموزها..."لا تنتظر كثيرا ابحث لقلبك عن متذوق للتراث بعيدا  عنا "  تقول ابتساماتهم...
حالة رعب
بعض الناس يرعبهم الموت...تخيفهم تقلبات الاقدار..يقلقهم زوال الصحة والمال...قلق وجودي يخنق كل محاولاتهم للانعتاق..
بعضهم لا يفكرون في اي من ذلك..تخيفهم الاماكن المغلقة..يرهبهم الظلام.. يهلعون لرؤية حيوان او حشرة...مخاوف مرضية تفضح هشاشة هذا المخلوق الذي يعلن بكل غرور سيادته على الطبيعة..
أتعرف  أسوأ من كليهما ؟
ان تتفاجأ من حين لآخر بهذا المخلوق فيك..هذا الذي يهاجم دون رحمة.. يحطم دون اكتراث...يخطط بكل سادية...ينبش الجروح بكل تشف...وانت اثناء كل ذلك تصيح بنفسك مرتجفا: كيف اصبحت هكذا؟ !!
حالة عبث
بعض الناس يحبون تسمية الاشياء بغير مسمياتها...ليمر اللاأخلاقي في أفعالهم بهدوء وبأقل ضجة ممكنة...
بعضهم يدافع عن هذا اللاأخلاقي بجرأة تجعلك تخجل من مجرد  التجرؤ على الاعتراض مجددا...
اتعرف أسوأ من جبن هؤلاء وفجور أولئك؟
ان يمنحك الله ( أو الطبيعة تبعا لقناعاتك) كل الفرص لتصنع المجد فترقى...
لكنك ،بكل طاقاتك، تفضل ان تبقى مجرد رائد  في صناعة القذارة...
حالة أمل
بعض الناس يأملون في أنظمة اكثر ديمقراطية...قوانين أكثر عدلا..كوكب أقل تلوثا...واقع أقل قسوة
بعضهم لا يعرفون شيئا اسمه الامل..هم فقط  يستفيدون  من اللحظة التي يملكون عوض ان يرهنوها مقابل غد لا يمتلكونه..بعد
اتعرف أسوأ من  سذاجة هؤلاء و برودة أولئك؟
 أن يحذوك الأمل وانت تبحث في التاريخ، في الجغرافيا،في اللغة، في الدين، في العلم،في الفن،  تبحث في كل أبعاد الزمان والمكان عن بعد انساني..تأمل ان يطغى الانساني على كل الابعاد...ان تنتصر انسانية الانسان على طمعه وقسوته ولامبالاته بمعاناة الاخرين..في حين أن كل شيء في الوجود البشري يخبرك بأن الانساني لا يمكن ان يعود..لأنه ببساطة لم يختف قط...فقد كان دائم الحضور..الانساني هو بالذات هذا الطمع والقسوة واللامبالاة..ففيم أملك؟
حالة سعادة
بعض الناس يبحثون عن سعادتهم في وجبة دافئة..في بيت بسقف وباب..في مخلوق صغير يتحرك بصعوبة لينطق بابا..ماما ويكبر ليتحدى بسهولة كلا العجوزين..
بعضهم بنى السعادة منازل فخمة،قطع أثاث نادرة، شواهد من ارقى جامعات الكوكب...لكنه لم يجد بعد مفتاحا للاستمتاع بكل ذلك وحيدا
أتعرف أسوأ من هؤلاء وهؤلاء؟

ان تنشغل  بالتأمل في شروط السعادة..فتشقى  بلحظيتها..زئبقيتها...وتنسى ان تعيشها..أن تفقد الطعم الجميل الذي تنتشي به روحك  كلما تسلت السعادة  بالتوقف عند بابك بشكل غير متوقع..

السبت، 18 يناير 2014

Reymond Aron et un « Essai sur les libertés »

Issu de conférences que Raymond Aron avait données en 1963 à l’université de Berkeley (USA), « Essai sur les libertés » apparait au début de janvier 1965 .Le philosophe et sociologue français y reprend la réflexion sur deux conceptions controversées de liberté, avec lesquelles il ne s’agirait  plus d’Une  Liberté mais de Libertés tantôt formelles tantôt réelles.
L’analyse de Reymond Aron confronte deux doctrines philosophiques, l’une est favorable aux libertés formelles, position prise par le  philosophe français Alexis De Tocqueville, l’autre par contre ne voit pas la  portée des libertés politiques, personnelles, intellectuelles dans une société d’inégalité et de paupérisation, elle se positionne donc en faveur des libertés réelles, et c’est la position du philosophe allemand  Karl Marx.
Cette confrontation donne fruit à l’opposition entre deux sortes de régimes politiques, les démocraties libérales représentées par les puissances industrielles occidentales  et les régimes socialistes notamment adoptés à l’Europe de l’est.
Reymond Aron souligne que les années 50 du siècle dernier fussent marquées par le déclin des idéologies, car  « ni le marxisme-léninisme, ni le fascisme, ni le libéralisme n’éveillent plus la foi qui soulève les montagnes » (p74) , c’est ainsi que notre sociologue analyse soigneusement les contradictions qui déstabilisent chaque régime, bien qu’ils se prétendent tous démocratiques .Les régimes pluralistes en dépit des  institutions représentatives et des traditions électorales peuvent réduire le citoyen  en un simple figurant dans un rite alors que les gouverneurs qu’il s’est choisi sont eux même prisonniers de puissances dans l’ombre.
Sur la base de ce genre de contradictions, Reymond Aron adopte ici une vision toutefois peu propice à un penseur libéral, il déclare : « les institutions de la démocratie représentative ne me paraissent pas l’expression nécessaire, en notre siècle, du désir universel de liberté » (p99)
On pourra comprendre que les régimes à parti unique peuvent aussi garantir les libertés revendiquées, mais ceci n’empêche pas le sociologue d’en démontrer les limites, en fait les régimes à parti unique interdisent toute réflexion sur leur idéologie et impose une autorité absolue d’ordre intellectuel.
Pour tout type  de régime, Reymond Aron tente de rectifier la représentation conformiste d’une société opulente sans conflits fondamentaux, il démontre par les statistiques les inégalités sociales et la relativité de l’opulence.
Dans le dernier chapitre de son livre, Reymond Aron s’arrête sur la notion de liberté politique dans la société technique, il analyse les contrastes entre démocratie américaine et démocraties européennes (française, anglaise) pour conclure que les intellectuels ne revendiquent plus la nationalisation des  moyens de productions, mais plutôt l’égalité morale entre représentants des ouvriers et représentants des couches favorisées.

Dans la postface ajoutée en 1976, Raymond Aron se montre plus libéral ,il ne se soucis plus de relativiser la vision libérale, ou de considérer un choix socialiste  susceptible d’assouvir le désir de liberté, peut être parce qu’il n’était plus question d’une France sous de Gaulle (qui montrait de la sympathie pour les régimes socialistes), ou était-ce tout simplement parce qu’au fil des années les régimes à parti unique se sont montrés plus despotiques que jamais, en tout cas Raymond Aron  déclare clairement : « que leur exemple nous serve de leçon ; les hommes ont tous le même droit au respect, ni la génétique ni la société n’assureront jamais à tous la même capacité d’atteindre à l’excellence ou au premier rang. L’égalitarisme doctrinaire s’efforce vainement de contraindre la nature, biologique et sociale, il ne parvient pas à l’égalité mais à la tyrannie. » p 240.

الجمعة، 10 يناير 2014

معارك وهمية

ينشغل الرأي العام الوطني من حين لآخر بقضايا يثيرها من هنا وهناك بعض الأفراد اما بصفة شخصية او بصفتهم ممثلين لمؤسسات مدنية، حزبية او دينية.ولو ألقينا نظرة بسيطة حول نوعية هذه القضايا لوجدنا انها تتخذ اتجاها معينا،و انها اذ تكشف بوضوح عما تناقشه فإنها ايضا تحيل وبوضوح اكثر على ما لا تناقشه.
سواء تعلق الأمر بالحق في الاجهاض، الحرية الجنسية،فتوى قتل المرتد، تجريم التعدد او المساواة بين الجنسين في الارث، فإن كل هذه القضايا تسير في اتجاه وضع المرجعية الثقافية والدينية للمغاربة موضع تساؤل ونقد ،وكان ذلك ليكون في حد ذاته أمرا صحيا  لولا طريقة النقاش وتوقيته، فمبدئيا يمكن القول ان كل جماعة في حاجة من حين لآخر الى فحص مرجعياتها و اعادة بناء قناعاتها على أسس متماسكة، لكن اثارة الملفات السابقة تتم بشكل جدالي متشنج بعيد عن الحوار الهادئ احيانا كثيرة،  ينقسم فيه المتحاورون الى علمانيين واسلاميين ضرورة، يكيل كل فريق منهما الى الآخر تهما جاهزة، ومن ثم تكون تهم الزندقة والكفر والالحاد للفريق الأول، بينما تكون تهم الرجعية والظلامية والتكفيرية من نصيب الفريق التاني.
هذا عن طريقة النقاش، اما عن توقيت النقاش وهو مربط الفرس- فيبين لأي شخص يتمتع بقدر من الذكاء انها اشباه قضايا  تعمل على شغل الرأي العام بنقاش مغلوط من اجل تضليله عن النقاش الحقيقي،وهو ما يذكرنا بالتشبيه الذي قدمه بيير بورديو في أطروحته حول التلفزيون الذي  يعمل مثل لاعب الخفة: تشغل يده اليمنى بصرك بحركات مدروسة هنا، بينما الخدعة تحبكها بسرعة يده اليسرى هناك.
في الوقت الذي نتشنج فيه من اجل الدفاع عن او ضد التعدد ننسى ان هذا الخيار لا يهم الإ شريحة ضئيلة من المغاربة بينما الاغلبية الساحقة تواجه ارتفاع الاسعار والبطالة فلا يكون لها حتى الحق الطبيعي  في الزوجة الاولى. في الوقت الذي ننقسم فيه الى فريقين متناحرين لا يطيق احدهما للآخر وجودا أو كلمة ننسى ان الديون التي اقترضها المغرب  سيشارك في أدائها الجميع على اختلاف توجهاتهم، وان ارتفاع فواتير الماء والكهرباء لن يميز بين اسلامي وعلماني.يتحدث الجميع عن أزمة اقتصادية خانقة ، مع ذلك رأى  الجميع ايضا كيف ان مهرجاناتنا جاءت في توقيتها المعتاد وان الانفاق العمومي لم يتغير الا لكي يصير أكثر بذخا ، هل سنختلف حقا اذا تساءلنا بصفتنا مواطنين: من المسؤول عن تأزم الاوضاع في المكتب الوطني للماء والكهرباء؟ هل سنختلف ان طالبنا بمحاسبة المسؤولين؟ هل سنحتلف اذا تساءلنا: لماذا يجب ان نتحمل ديونا كان من الممكن تجنبها بترشيد اكثر للانفاق؟ هدر المال العام لا يخضع لتلوينات المشارب السياسية او الفكرية..الهدر هدر والنهب نهب في أعين الجميع.
يمكن للساسة دوما ان يعولوا على سهولة الهاء الجماهير، وبينما يتناحر الناس من اجل اختلافات وهمية، يتلاقى الساسة رغم تعارضهم حول مصالح مشتركة، ابلغ مثال يبين هذا الامر التجييش الاعلامي الذي واكب مقابلة مصر والجزائر في كرة القدم قبل سنوات، تحول الامر من مجرد لعبة الى تناحر قومي يتهدد الارواح والممتلكات، وبلغ العبث ذروته عندما طالب مواطنون مصريون عبر شاشات الفضائيات  الرئيس المخلوع حسني مبارك بالظهور واعادة الاعتبار للمصريين باعتباره حامي ديارهم !
انشغل عموم الشعب المصري بالمقابلة بينما عيد الاضحى على الابواب وشريحة واسعة منهم من فرط الفقر لا تجد ثمن كيلوغرام من اللحم فمابالك بخروف،واقتتل الناس حول لعبة بينما في الوقت نفسه تستقبل ادارة مبارك مسؤولين اسرائيليين للتنسيق الامني بين الطرفين فيما يتعلق بالحدود والمعابر !!
انها استراتيجية الهاء قديمة لكنها فعالة دوما،لا يمكن لمواطن منشغل بالاشخاص دفاعا او سبا ان يراقب الاداء الحكومي، ويتتبع خياراته، خصوصا اذا اخذنا بعين الاعتبار التناقض الذي تحمله اللعبة الديمقراطية بحكم طبيعتها، فإذا اعتبرنا ان لكل حكومة حيزا زمنيا محددا لتنفيذ برنامجها،فإن أغلب الاحزاب الحاكمة تميل الى اتخاذ قرارات آمنة تحفظ شعبيتها التي تحتاجها في الاستحقاقات الموالية، وتحت ضغط الاعلام الذي يطالب بلسان الرأي العام بنتائج ملموسة للأداء الحكومي، فإن الاحزاب الحاكمة لا يمكن ان تغامر بشعبيتها، ولذلك تتجنب بعض الخيارات حتى ولو كانت مفيدة على المدى البعيد، و تتبنى خيارات اخرى تنقذها نسبيا من مآزق حالية لكن تؤجل المشاكل عوض حلها لتجدها الحكومات الموالية في انتظارها.

لهذا يسود جو المزايدات السياسية الضيقة  بين الاحزاب المختلفة، والمواطن المعني الحقيقي بهذا النقاش-  مغيب تماما لانه لا يزال يقتتل لأجل أو ضد الحق في زوجة رابعة !!

الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

قراءة في رواية "اولاد حارتنا" بين الكوني والمشروط تاريخيا



رواية كتبها نجيب محفوظ اواخر خمسينيات القرن الماضي مسلسلة في جريدة الاهرام و صدرت في كتاب من بيروت  في بداية الستينيات من نفس القرن، رواية اثارت ولا زالت تثير جدلا واسعا بين من ينكر على نجيب محفوظ جرأته في استخدام الرموز داخل الرواية وبين من يقره على ذلك.
يحاول هذا المقال ان يقدم قراءة محتملة للرواية، ولا يدعي بأي حال من الاحوال ان تكون الفهم الوحيد لان الرواية مثلما تثير الكثير من الاسئلة (التي تتركها بلا جواب)، فإنها تنفتح على العديد من التأويلات، حسبنا ان نقول ان الفهم الموضوعي للمتن الروائي لا يتم الا بربطه بالشروط الذاتية والموضوعية لإنتاجه، فالقضايا التي يطرحها وطريقة تناولها ترتبط بالسياق التاريخي ليس فقط لمصر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولكن ايضا بسياق تطور الفكر البشري عموما،كما ان اي كاتب وهو يهتم بالاشتغال على موضوع ما ،بشكل ما، يحاول احيانا الحسم مع مشكلات تؤرقه شخصيا،ويعكس أفكارا قد تتغير مع مرور الوقت فتصبح اكثر نضجا، و  قد تتحول المواقف الفكرية لتصبح أكثر تطرفا او اكثر هدوء ومهادنة ، ولهذا يلحظ المتتبع لمسار بعض المفكرين تغير افكارهم عبر السنين.
نعود الى اولاد حارتنا- موضوع هذه القراءة- دعنا نصفها بانها محاولة جريئة، ونبتغي ان يكون وصفها بالجرأة محايدا، لا يصفق مع من وصفوها بالشجاعة بالضرورة ولا ينجر الى مشاطرة من نعتوها بالوقاحة موقفهم من جهة ثانية.
تضعنا  رموز الرواية امام اسئلة دقيقة و حرجة تتعلق  بالابداع، فهل يجب ان يكون لحرية الابداع حدود؟ و ان كان الجواب بنعم، فما الذي يرسم تلك الحدود؟ واين تتوقف؟
وتضعنا معانيها امام اسئلة اخرى، فهل يمثل "عرفة" في الرواية العلم والمعرفة بوجه عام ام يمثل الاشتراكية العلمية والماركسية؟ هل تعلن الرواية انتصار العلم على الاديان؟ ام انها مجرد تأريخ ورصد لواقع معطى؟
بسبب روايته وقف نجيب محفوظ بأعين البعض موقف اتهام، فهل يصدر ما صدر عن مؤمن ام عن كافر ملحد؟
نشير في البداية الى ان الرواية كتبت كما ذكرنا اواخر الخمسينيات من القرن الماضي،و نال صاحبها جائزة نوبل للآداب عام 1988 (بفضل "اولاد حارتنا" الى جانب روايات اخرى)، وتعرض لمحاولة اغتيال عام 1994 بسبب اعتقاد مهاجميه بكفره والحاده لكنه نجا من الهجوم ولم يتوف الا سنة 2006.تبين المعطيات السابقة بان محفوظ عاش طويلا بعد كتابته لروايته، وشهد الجدل القائم حولها،و تنسب له بعض التصريحات تنازله عن بعض مما جاء في مضمونها بالقول ان شخصية الجبلاوي تمثل الدين وليس الذات الالهية وان الرواية تقدم قطبي الدين والعلم الذين تقوم عليهما المجتمعات،ولان قارئ الرواية لا يقنعه مثل هذا الكلام فإن اسئلة اخرى تتولد في ذهنه: ان صحت التصريحات فما الذي يدفع نجيب محفوظ الى التنازل عن ما جاء في روايته؟ هل هو الندم على خوض مغامرة  ابداعية غير مأمونة العواقب؟ هل هو الخوف المشروع على سلامته وسلامة افراد اسرته؟ ام شعر محفوظ ان روايته كتبت في غير وقتها وان الناس في جميع الاحوال لن يفهموا ولذلك فضل مهادنة معارضيه؟ ام ربما يكون قد رفض ان  يتحمل وحده  المسؤولية الفكرية للتأويلات التي انفتحت عليها روايته؟  ام هل يعود السبب ببساطة الى انه عبر من خلال روايته عن اسئلة وشكوك ساورته في لحظة ما من حياته قد يكون قطع معها لاحقا وبقيت الرواية شاهدا على بداية رحلته؟
اسئلة كثيرة يترك لنا نجيب محفوظ مهمة عسيرة في الاجابة عنها وتحمل مسؤولية اجوبتنا،فرغم انه عاش بعد كتابة روايته بما يقارب النصف قرن الا ان الاسئلة ظلت بعد وفاته ملحة وبلا اجوبة، لا يبقى امامنا اذن الا متن الرواية لقراءته و البحث فيه وفي سياق كتابته عن اجابات ممكنة لأسئلتنا.
ملخص الرواية
تحكي الرواية قصة رجل قوي وغني( الجبلاوي)، يجمع ابناءه الذكور في اول مشهد من مشاهد الرواية لكي يخبرهم انه سيكلف اخاهم ادهم بإدارة املاكه (الوقف)،ويدخل في مشادة كلامية مع ابنه ادريس الذي يعترض على قرار الأب، فيغضب هذا الاخير و يطرده من البيت، تتوالى احداث الرواية الى ان يخدع ادريس اخاه ادهم فيتسبب بطرده هو و زوجته اميمة من بين الجبلاوي، ويعيش الجميع خارج البيت الكبير حياة تعيسة، يطبعها الكد بالنسبة لادهم و تتسم بالفتونة والبلطجة بالنسبة لادريس.في هذا الفصل ايضا يقوم ابن ادهم قدري بقتل اخيه همام.
يخصص الكاتب بعد ذلك فصلا اخر لشخصية " جبل" القوي الذي ينشأ داخل بيت ناظر الوقف وفي رعاية زوجته لكنه ينحاز الى اهله "بني حمدان" ويدخل معركة لتحريرهم من بؤسهم وقهر الفتوات لهم.
اما الفصل الموالي فيتحدث عن شخصية "رفاعة" الطيب والخلوق الذي يحاول تخليص الناس من عفاريتهم لكي يجدوا السعادة الحقيقية لكن ينتهي به الامر الى القتل على ايدي الفتوات بعد ان خانته زوجته.
ويخصص محفوظ فصلا لشخصية قاسم الذي يظهر في حي "الجرابيع" وينجح مع اصدقائه في تخليص الحارة بجميع احيائها من الفتوات ويستلم نظارة الوقف لكي يوزعه بالتساوي على جميع الاحياء، بما فيهم حي جبل وحي رفاعة باعتبار انهم جميعا ابناء جد واحد (الجبلاوي).
في الفصل الاخير من الرواية تظهر شخصية عرفة، الساحر الذي يريد ان يغير معالم الحارة بسحره،يعود الى الحارة في البداية من اجل الانتقام لامه، لكنه يغرم بفتاة ويتزوجها ويغير اهدافه صوب التخلص من الفتوة الذي يتهدد زواجه ومن جميع الفتوات، غير ان مغامرته في اكتشاف البيت الكبير والوصول الى الجبلاوي، تسفر عن موت هذا الاخير وتنتهي بجعله تحت رحمة ناظر الوقف الذي يبتزه للحصول على ابتكاراته سيما منها الزجاجة المتفجرة والتي انهت زمن الفتوات وجعلت كل السيطرة لناظر الوقف،و عندما يحاول عرفة التخلص من تلك السيطرة يعاقبه ناظر الوقف بدفنه حيا.
تنتهي الرواية باكتشاف الناس لسر عرفة وحديثهم عن كراسته واشتداد الامل حول ثورة جديدة يقودها حنش(شقيق عرفة) والشباب معه ليخلصوا الحارة من الظلم بسحرهم.

رموز الرواية:

لا يحتاج القارئ جهدا كبيرا لفك الرموز التي تستخدمها الرواية في قالب درامي، فالمتن الروائي يقدم رؤية شمولية لمسار المجتمعات البشرية عبر الاديان السماوية الثلاث : اليهودية، المسيحية، والاسلام،فضلا عن العصر الاخير الذي يحكمه تطور العلم والمعرفة والذي عرفته المجتمعات جميعا على اختلاف اديانها.اضافة الى ذلك  فاختيار نجيب محفوظ لاسماء شخصيات روايته لم يكن اعتباطيا:
ادهم / ادم، ادريس/ابليس، اميمة (تصغير ام وهي امنا جميعا حواء)، قدري/قابيل، همام/هابيل، جبل( كناية عن قوة وشدة موسى عليه السلام)، (رفاعة في اشارة الى قدرة  عيسى عليه السلام على شفاء الناس)، قاسم/محمد عليه الصلاة والسلام،قنديل/جبريل، عرفة/ العلم والمعرفة.
ان اول ما اثار الجدل في الرواية هو شخصية الجبلاوي ، والد ادهم وادريس وجد كل من سيعمر الحارة من بعدهما.فالمشاهد الاولى في الرواية تذكرنا بشكل واضح بما حصل مع ابليس عندما رفض السجود لسيدنا ادم فاستحق بذلك غضب الله تعالى عليه.
شخصية الجبلاوي ستعمر طويلا جدا في الرواية لدرجة انها ستعاصر اجيالا متعددة تتجاوز بها عمر البشر في العالم الواقعي، لكنها تموت في عصر عرفة.وهنا تثير الرواية جدلا واسعا: فهل من حق الروائي تجسيد الذات الالهية في شخصية بشرية تمثلها؟ واذا كانت الرابط  واضحا بما لا يمكن انكاره بين شخصية الجبلاوي والذات الالهية، الا يعني موت الجبلاوي تجسيدا لفكرة موت الاله؟
انها مغامرة يخوضها نجيب محفوظ  على كل حال، فهل كان ذلك لتأثره بالفكر الماركسي و تعبيرا عن قناعاته ؟ ام كان هاجسه الاساسي هو التعبير عن رؤية شمولية للمجتمعات وكانت الشخصيات والاحداث مجرد ادوات فنية وروائية لا بد منها؟
لا تقطع الرواية بجواب نهائي حول ذلك بل تؤرجح  قارئها طوال الوقت بين قطبي الرمزي والواقعي، المتخيل والتاريخي، فإذا كان القارئ يلتقط بسهولة الاشارات الواردة بخصوص الذات الالهية وشخصيات الانبياء والاحداث الكبرى التي عرفتها مجتمعاتهم فإن فهمه يبقى ملتسبا بخصوص العديد من التفاصيل الاخرى، وجود اب لرفاعة، زواجه من مومس، طريقة قتله، ميل قاسم الى الغناء والشراب، فهل يقصد محفوظ ان ينسج احداث روايته و شخصياتها بشكل مبالغ فيه يبتعد بها احيانا عن الشخصيات الواقعية وذلك لكي يذكرنا انها في الاخير رواية وفيها من المتخيل اكثر مما فيها من الواقعي؟
في مطلق الاحوال فان رواية محفوظ تقدم صورة ايجابية عن الجبلاوي بوصفه قويا ،شديدا، عادلا ورحيما،رغم الظلم الذي يحيق باحفاده في كل عصر فهو يترك لهم تدبير شؤونهم حتى و ان صاح كل من ضاقت به السبل : يا جبلاوي، وتظهر شخصيات جبل، رفاعة وقاسم تباعا لكي تغير الاوضاع بأمر من الجبلاوي، فجبل يكلمه شخصيا وان كان هذا الاخير لا يراه، ورفاعة يصله صوت الجبلاوي بينما يرسل خادمه قنديل الى قاسم،وتصف احداث الرواية اخلاص كل من هؤلاء واستماتتهم في تنفيذ رغبة ووصايا جدهم في احقاق العدل وتخليص الناس من الظلم.

"اولاد حارتنا"  رؤية انسانية شمولية :

بغض النظر عن النقاط التي تثير اختلافا وجدلا حول رواية "اولاد حارتنا" فإن هناك بعدا انسانيا حاضرا في احداثها،فالرواية تضع موضع تساؤل تعصب ابناء الحي الواحد لنسبهم (الجبليون والرفاعيون والقاسميون) رغم كونهم ينحدرون جميعا من اصل واحد، وان تفاصيل النسب لا تغير من امر واقعهم شيئا، فالجميع يعيش تحت وطأة قهر الفتوات والفقر والحرمان و احتكار ناظر الوقف للخيرات،و هو واقع يتكرر في كل عصر ولا يستثني احدا،ورغم وجود فترات مضيئة ترتبط في زمن الرواية بظهور جبل، رفاعة وقاسم الا ان الحياة سرعان ما تعود الى ما كانت عليه من ظلم واستغلال.
تسير الرواية بهذا في اتجاه  اقرار ما جاء في قصص الاديان السماوية الثلاث والدعوة الى التسامح بين الاديان ونبذ التعصب، من جهة ثانية فإنها تعمل على رصد واقع مجتمعات ترزح الاغلبية فيها تحت نير اقلية مهيمنة وطاغية،وبشكل ما فان الناس في كل الازمنة يستسلمون امام هذا الواقع ولا يسعون الى نغييره الا بقدر ما يتمكن البعض منهم من الالتفاف حول الرؤية الاصلاحية لاحد احفاد الجبلاوي المكلف بقيادتهم.
 "عمد الاقوياء الى الارهاب والضعفاء الى التسول والجميع الى المخدرات" . يقول نجيب محفوظ هذا (ص 117)، فيستوقفنا التعاطي اللافت والمنتشر  للحشيش  في كل فصول الرواية، فهل كان المقصود بحضور المخدرات استخدامها كرمز للدين إقرارا بما جاء في قول ماركس: "الدين افيون الشعوب"؟ سنلاحظ ان تعاطي الحشيش لم يقتصر في الرواية على فئات معينة دون اخرى، بل شمل الجميع وان اختلفت جودته ما بين الناس البسطاء والفتوات وناظر الوقف، لكن يبقى ان الجميع يدخنه،الارجح اذن ان  الخلفية الفكرية التي تؤسس قولة ماركس  لا تتفق  و سياق ورود الحشيش في الرواية،فإذا كانت الاديان والمذاهب والنظم الاخلاقية بنظر الفكر الماركسي انتاجا ايديولوجيا توظفه بعض الفئات الاجتماعية مدافعة عن مصالحها وامتيازاتها، فان هذا لا يتفق واقرار نجيب محفوظ بكون الاديان السماوية تنفيذا لارادة الخالق عز وجل، وهو ما سبق توضيحه من خلال قصص كل من جبل ورفاعة وقاسم.
الحشيش حاضر اذن لكنه ليس من اختراع ناظر الوقف ولا فتوات الحارة بل هو موجود والجميع يتعاطاه على حد سواء، فهل يشير به نجيب محفوظ الى ما يغيب العقل البشري عن سعادته الحقيقية؟ ما يجعل الانسان قاصرا عن ادراك سر وجوده وكيفية تحقيقه لهذا الوجود، هذا القصور الذي لا يرجع الى طبيعة الانسان بقدر ما يرجع الى تاثير ما يخدر عقله (قد يكون في الواقع الفعلي افكارا او غيرها).
كانت الرواية سببا في الحاق تهمة الكفر والإلحاد بصاحبها نجيب محفوظ ، والواقع انه من السهل ان نتسرع الى حشر الرواية  في خندق الكفر والالحاد، لكن ذلك لن يجيب بحال من الاحوال عن الاسئلة التي تطرحها غير عابئة بحكم من يصفق او من يستنكر،ليس في الرواية ما يسمح بتبرير تهمة الكفر أو الالحاد، فالكاتب أقر بما جاءت به الاديان السماوية وبصدورها عن ارادة الهية،وكانت الاحداث التي تؤثث فضاء الرواية اقرب احيانا كثيرة الى الرصد والتأريخ لواقع معطى.
يصدم نجيب محفوظ القارئ بموت الجبلاوي، ويتوقف البعض عند دلالة الموت في حد ذاتها قبل ان يتوقفوا عند سياقه ، كان موت الجبلاوي نتيجة لزيارة عرفة السرية للبيت الكبير والتي قتل فيها من فرط هلعه خادما عجوزا وعاد منها جريحا دون ان يظفر برؤية الجبلاوي او كتاب شروطه العشرة.
ماذا أراد نجيب محفوظ بكل هذا؟ اذا عدنا الى الفصل الخاص بعرفة سنجد ان هذا الاخير عاد في البداية الى الحارة وبداخله رغبة في الانتقام من سكانها،كان شديد التركيز على تطوير سحره ولم يبد اهتماما او احتراما خاصا للجبلاوي، لكن بعد مغامرته وتسلله الى البيت الكبير تغيرت نظرته،واصبح يعاني أزمة ضمير يحتاج للتحرر منها الى رضا الجبلاوي ميتا وهو الذي لم يهتم برضاه حيا،جريمته في حق الخادم الحقت به تهمة قتل الجبلاوي وبذلك وضعته تحت قبضة ناظر الوقف المستفيد الحقيقي والوحيد من كل ما حصل.
تخبرنا التفاصيل السابقة بأنه في المرحلة الراهنة من مسار المجتمعات الانسانية، يضطلع العلم الحديث بمهمة الكشف عن الحقائق بعيدا عن قداسة كل ما هو ديني،لكن مغامرة العلم ليست انتصارات على طول الخط،لان هناك جانبا من الوجود حتى عند المجازفة  بالبحث فيه فإن الباحث  يخرج منه خاوي الوفاض.في البداية  لم تكن مشكلة العلم تتعلق بالايمان بالدين من عدمه، مثلما ان عرفة لم يأبه كثيرا لما يحكى عن الجبلاوي، فالمشكلة الحقيقية هي معرفة ما كان مجهولا،ايجاد المفاتيح اللازمة للتعامل مع واقع مأزوم. ان محاولة المعرفة هاته هي ما يجعل العلم في مواجهة الدين،جرأة العلم وجرأة عرفة تضعهما في المواجهة،لكنها مواجهة لا تسفر عن التعارض كما هو متوقع،فعرفة يكن احتراما كبيرا للجبلاوي والجبلاوي يوصي خادمته بابلاغ عرفة انه راض عنه، لذلك فإن وقوف العلم الحديث عند مسائل غيبية وميتافيزيقية لا يفهمها لا يمنعه في نهاية الأمر من احترام الاديان والاعتقاد بوجود الخالق.
ومثلما ان عرفة انتهى به المطاف الى وضع اختراعاته في يد ناظر الوقف، فان الرواية تضع العلم المعاصر والتقنية النابعة عنه موضع تساؤل لانها عوض ان تحرر البشرية من الاستغلال والحرمان، منحت للفئات المهيمنة سبلا وأدوات جديدة للاستعباد أشد فتكا وخطورة،وبهذا تتقاسم الرواية  مع الكثير من المفكرين الغربيين نفس خيبة الامل تجاه العلم  والتقنية التي انطلقت من وعود بالرفاهية لتنتهي الى المزيد من الاستعباد.وسواء كان التواطؤ مقصودا أم لا فإن النتيجة واحدة.
ماذا عن نهاية الرواية ؟ إذا فهمنا المنطق الذي يحكم الرواية فانه من السهل جدا ان نتوقع نهايتها، فمن حيث هي تأريخ ورصد لمسار المجتمعات لم تكن لتنتهي الا بوضعية مفارقة تسجل فيها نكسة العلم التي كانت وبشكل مفارق سببا في تزايد الايمان به، ففي نهاية الخمسينات (في عالم لا يزال يحصي قتلى الحربين،و تجاهد فيه بعض الشعوب للخروج بشكل نهائي من وضعية الاستعمار، عالم فتح عينيه على الافاق اللامحدودة للعلم والمعرفة) لم يكن بالامكان ان تنتهي الرواية الى غير ما انتهت اليه.
لكن استحضار ثنائية الدين والعلم يلزمنا بتسجيل معطى اخر يفسر نهاية "اولاد حارتنا" فبعد موت الجبلاوي لم يعد الناس يأملون في ظهور منقذ جديد، وتيقنوا اكثر من اي وقت ان تحسين اوضاعهم راجع الى مجهودهم هم لا غيرهم، ورغم ان هذه كانت رسالة الجبلاوي منذ البداية الا ان احفاده لم يستوعبوها الا بعد موته( مثلما ان المعطى الواقعي يضعنا امام الحقيقة التي يؤمن بها المتدينون بالاديان السماوية وهي ان الرسالة المحمدية هي اخر الرسالات السماوية،و ان اخر خطاب الهي يوحى الى بشر هو القرآن الكريم). بذلك تقع مسؤولية التغيير على كل فرد في الحارة وعلى كل انسان في المجتمع البشري، ربما لهذا عبر عرفة في الرواية - قبل ان يتم دفنه حيا- عن ضرورة احياء الجبلاوي وذلك بتنفيذ وصاياه وجعله يعيش فينا.
نهاية الرواية تعبر عن الامل في العلم كمخلص من الظلمات، العلم الذي يقدم نفسه كأداة للتحرر وليس كبديل عن الديانات، لكن يبقى رهانه الاساسي والذي تتركه الرواية سؤالا اخر بلا جواب هو هل سيحرر نفسه من المتحكمين في مساره ومصيره لكي يساعد هو غيره في تحرير انفسهم؟


الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

تحت وصاية الجدران


استيقظ على صوت جلبة كبيرة.. فكر ان حركة المرور الصباحية مزعجة اليوم اكثر من المعتاد...فتح عينيه ببطء محاولا التخلص من احلام غريبة تراوده بين الحين والاخر..ترك فراشه غير واع تماما بما حوله..اجال عينيه نصف المغمضتين بين اشياءه المبعثرة بلا مبالاة هنا وهناك محاولا العثور على خفيه...رفع بصره قليلا ثم اتسعت عيناه فجأة و ارتسمت  دهشة شديدة على ملامح وجهه..من المكان الذي يقف فيه، في غرفته،في شقته الصغيرة ،من  الطابق الرابع كان بوسعه ان يرى غرفة معيشة الجيران في العمارة المقابلة...حرك رأسه وهو ينظر الى ستائرها التي بدت معلقة الى فراغ على جوانب نافذة بدت معلقة بدورها الى لا شيء..نظر غير مصدق ما يراه امامه...لا جدار..او على الاقل هذا ما استنتجه عندما لاحظ ان بوسعه ان يرى كل محتويات تلك الغرفة و منها كل غرف البيت الاخرى...اجال عينين حائرتين فاكتشف ان كل طوابق العمارة وكل منزل فيها اصبح مكشوفا امامه..وفهم مصدر الجلبة...اناس كثر في منازلهم وفي الشارع يتحركون في فزع ويتحدثون الى بعضهم بأصوات مرتفعة..لم يتمكن من فهم ما يقولون..جال بخاطره انه ربما لا يزال نائما وان هذا واحد من احلامه الغريبة..تحرك الى الامام فتعثرت  قدمه بالسرير وتأوه متألما: اللعنة ! هذا ليس حلما ! تقدم الى نافذة غرفته وانتبه فجأة انه لا ينظر الى منازل الحي من النافذة بل من الجدار...مما يفترض انه مكان الجدار..اقترب في بطء..حاول ان يطل الى الاسفل فاصطدم رأسه بشيء ما...مد يديه دون تفكير وبدأ يتحسس امامه... "يا الهي ! لم يختف الجدار انه هنا...لكنه شفاف تماما.." فكرة قرت في ذهنه قبل ان يكتشف شيئا اخر اربكه اكثر، بوسع كل الجيران ان يروه من داخل منازلهم تماما كما يستطيع هو ان يراهم !! ارتدى ملابسه مسرعا..جلس للحظات قبل ان يقرر الخروج الى الشارع ليشارك الناس ذهولهم وحيرتهم امام ما يحصل...
افكار كثيرة جالت بذهنه وهو يحاول ان يستوعب ما يحصل..كأن كل الجدران قررت ان تتخلى عن سمكها و تعرض ما يختفي وراءها بلا اكتراث...
قطع اثاث فاخرة على مساحات شاسعة في هذا الحي..وغرف ضيقة وعارية الا من اثاث قديم  بالكاد يغطي الارضيات الباردة في احياء اخرى كثيرة..وفي كل مكان تتجاور منازل نظيفة ومرتبة واخرى تعمها الفوضى ..
في منزل "سي المختار" نرجيلة مخبأة ما بين الدولاب وجدار الغرفة،قنينات خمر اسفل السرير،أشياء اصبحت معروضة على أعين المارة كما كانت يوما في واجهات المحلات التجارية...من كان ليظن ان الشيخ يتعاطى لهذه الأشياء على كبر؟ !!
من داخل منزلها جلست "وفاء" زوجة الجزار تنظر الى بعض السكان المتجمهرين في الزقاق..كان بصرها مركزا على وجه احدهم..كان ينظر اليها بدوره..وعلى ملامحهما تواطؤ يعرف سكان الحي مغزاه.. تواطؤ التقطته عينا الجزار الذي انقض على الرجل يلكمه في شراسة..بينما التقطت زوجته رداءها في رعب واندفعت خارج منزلها وعلى ملامح وجهها خليط من شحوب الاموات ورعب الاحياء امام اشباحهم...
ترك المكان محاولا الابتعاد عن جلبة الجاني والمجني عليه،لكن اصوات المتناحرين لاحقته في كل مكان..فاضت المنازل بوابل من القصص..وعلى غير عادة راقبت الاعين وامتنعت الألسنة عن التعليق.
لم يدر كم مضى عليه من الوقت يسير من حي الى اخر تنتقل عيناه بين حكايات المنازل كمن يقلب محطات التلفزيون في ضجر..توقف امام مركز الشرطة..كان الموظفون جالسين الى مكاتبهم في هدوء وترقب..في زنزانة بجانب من المكان قبع اشخاص يفترض انهم متهمون في قضايا متفرقة..كان المكان هادئا بشكل غير متوقع..فجأة توقفت امامه شاحنة صغيرة.. ترجل منها اربعة عمال اخذوا يفرغون حمولة الشاحنة داخل المركز..خلال لحظات كانت جدران المكان تختفي كليا خلف حاجز سميك من الستائر...بعدها بساعات حذت بعض المنازل حذوه..ثم بدأ الجميع يتسابق من أجل ستائر للستر..ونشبت معارك ضارية من أجل قطعة ثوب..الى ان خيم الظلام وستر الجميع تحت جنحه..
بزغت شمس اليوم الموالي على مدينة بمظهر جديد..واجهات منازل مغطاة بأقمشة من الوان مختلفة كأنها رقع على بذلة بهلوان..بعض المنازل لم تجد من القماش ما يكفي الا لستر غرفة او غرفتين..وفي مدينة لا تحفل كثيرا بطرح الاسئلة..لماذا؟ و كيف؟ كانت الاقمشة جوابا كافيا اعاد بعض الهدوء الى شوارعها و الحركة في متاجرها و ورشاتها..وتناقلت الالسن من جديد ما حدث مع فلان وفلان وفلان...
 وحدها حياة من لا يملكون قماشا كافيا صارت الاكثرة شهرة، ضرب من الصراحة الاجبارية  تحولت شيئا فشيئا  الى تخل طوعي عن كل التحفظات..لم يعد هؤلاء يستودعون اسرارهم احدا فحتى الجدران خانت الوصية واصبحت وصية على حياتهم تعرضها بلااهتمام..
هل كان قرارا للجدران ام ان ما يحدث مجرد كابوس لعين اخر ؟!!  لم يحفل كثيرا بالتوقف عند الاجابة فقط غاصت أفكاره بعيدا وهو يفكر في اقنعة سقطت واخرى ازدادت سمكا وتمسكا بالاقناع،يتأمل حدودا انمحت واخرى حميت  و رسمت بعناية اكثر وبخطوط حمراء عريضة...




الاثنين، 16 ديسمبر 2013

رفيقة العمر

عندما ترافقها لمدة من الزمن،سنة بسنة،شهرا بشهر، ساعة بساعة،لا تغيب عنك لثانية...تعتقد انك تعرفها بما فيه الكفاية...تعتقد انك تعرف ما يفرحها وما يغضبها،ما يحمسها وما يحبطها،تعتقد انك على علم بأسوأ مخاوفها، واعلى طموحاتها...تعتقد انك رأيتها في كل المواقف وفي جميع حالاتها بما يسمح لك بأن تتوقع مسبقا ردة فعلها ازاء أي شيء..تاريخك معها يعطيك ثقة كبيرة في انك ترى ما بداخلها كما لو كانت شفافة تماما امام عينيك..

ثم يحدث ان تنكسر تلك الثقة الساذجة في يوم ما،وتستحيل تلك الشفافية المزعومة ضبابا قاتما...ليس لانها لم تعد صريحة معك،ولكن لان ما يحدث معها احيانا قد لا تحتويه مجرد الكلمات..ثم تنظر اليها تناضل من اجل العودة شفافة كما كانت... تحاول ثم تخطئ...تنظر اليها وهي تتعلم تقبل الاخطاء على انها جزء من مغامرة الحياة..تنظر اليها  وهي تتعلم المشي مجددا... ليس لديك ذكرى عنها وهي تتعلم المشي صغيرة...لكنك تنظر اليها الان وهي تتعلم المشي بلا تعثر في دروب الحياة...ثم تصبح رفقتها فجأة وبسبب ما يحدث من حين لآخر ممتعة الى حد كبير...تتساءل: ماذا بعد؟ كيف تراها تتصرف؟ ماذا عساها تتعلم من هذه التجربة او تلك؟ هل ستبقيها الحياة هي نفسها ام ستستسلم يوما لسلطة التيار الجارف حولها؟ تنظر اليها وتتساءل:كيف تكون بهذا التناقض العجيب؟ في قوتها ضعف وفي ضعفها قوة...وما يقويها يضعفها،وما يضعفها يقويها....تتابعها في اهتمام كما لو كنت ازاء شخصية في برنامج للتلفزيون الواقعي...تنظر اليها في حنو ومحبة وتبتسم عندما تتذكر انك معها لست ازاء شخصية تلفزيونية...تضع المرآة جانبا وتنهض مفكرا انك تحبها وتحتاج ان تحبها...نعم تحتاج ان تحب ذاتك ونفسك بما يكفي لكي تكون مستمتعا و راضيا برفقتها مزيدا من العمر.