الجمعة، 15 نوفمبر 2013

الغش فيه...وفيه



غشنا وصل صداه الى قناة فرانس 24 او لنقل بشكل أكثر موضوعية "حملتنا على الغش" وصل صداها الى فرانس 24 التي اوردت في خبر لها امس خبر توقيف عدد من المتورطين في حالات الغش في اول ايام امتحانات الباكالوريا بالمغرب.
كأستاذة بالتعليم الثانوي أدرك جيدا مدى استفحال ظاهرة الغش في صفوف التلاميذ،لكن الحديث هنا ليس عن حجم الظاهرة ولكن عن محاولة لمقاربتها وفهمها،فمن الواضح ان التعامل مع الظاهرة تحليلا ومعالجة لا يمكن ان يقتصر على مقاربة أخلاقية محضة،لان الحديث عن الغش بمنطق الوعظ في مجتمع يعرف تحولا عميقا في منظومته القيمية حديث لا يِسمع احدا خاصة من فئة الشباب الذين يفقدون بشكل متزايد كل ثقة في جيل الكبار الذي لم يعد يحفل بتقديم القدوة الملائمة في العديد من السلوكات.
ويمكن ان نسجل عددا من الملاحظات حول مسألة الغش في الامتحانات:
-         أولها ان الظاهرة لم تعد منذ زمن  تهم بشكل حصري فئة التلاميذ الذين يعانون صعوبات او تعثرا دراسيا في مادة من المواد والذين يحاولون مثل غيرهم الوصول الى عتبة المعدل،بل اصبح يهم فئات واسعة جدا من التلاميذ سواء المتعثرين دراسيا او المتفوقين حيث يسعى الجميع الى الحصول على اعلى المعدلات من خلال الغش في الامتحانات.
-         ثانيها ان الوسائل والتقنيات المستخدمة في انجاح خطط الغش تطورت الى حد كبير وبشكل أصبح يفترض تدخل "مساعدين" من خارج قاعة الامتحان،اذ لم يعد التلميذ يستخدم "الحرز" الذي يكتبه بنفسه وبخط مصغر بل يحصل من محلات متخصصة في هذا المجال على تصغير متقن ومغلف بعناية لمختلف المناهج والمقررات،كما يمكن ان يلجأ الى استخدام هاتفه المحمول بكل ما يتيحه من اتصال عبر البلوتوث او الرسائل القصيرة او الانترنت للحصول على الاجوبة،وهنا ايضا فالتلميذ ليس المتدخل الوحيد في حالة الغش،اذ هناك من "يساعده" خارج قاعة الفصل باعطائه الاجوبة دون ان ننسى "مساعدة" الاهل بتمكين التلميذ من الاجهزة التي تتطلبها هذه العملية والتي يقدر ثمنها احيانا بمبالغ محترمة.
-         ملاحظة اخيرة تتعلق بنظرة التلميذ الى الغش،بحيث في العديد من الحالات لم يعد يتوارى عن الانظار لكي يغش او يركن الى الصمت في خجل اذا ما ضبط متلبسا،بل يدخل في مناظرة مع المراقب من اجل افحامه واقناعه بالعدول عن المراقبة بشكل صارم لان كل شيء يسير في اتجاه جعل غشه حقا مشروعا لا يمكن حرمانه منه لاي سبب.
ان الملاحظات السابقة مدخل اساسي لفهم مسببات الغش فهو ظاهرة مركبة تتدخل فيها العديد من العوامل اذكر منها في هذا المقال ما يتعلق بطبيعة نظامنا التعليمي وما يتعلق بالتلميذ نفسه وما يرتبط بالمجتمع ككل.
ولنبدأ اولا بطبيعة نظامنا التعليمي الذي يسمح للتلميذ بالانتقال من مستوى دراسي الى آخر دون امتلاكه للمؤهلات المعرفية والمنهجية الكافية لتمكينه من مسايرة زملائه في المستويات اللاحقة،وبذلك تتراكم تعثراته من موسم دراسي الى آخر بما يصنع منها حواجز اعلى من اي حافز او حماس او ثقة بالنفس يتحلى بها التلميذ.
اتذكر في هذا السياق حالة جد متطرفة لتلميذ درسته في مستوى الجذع المشترك( وهو اولى مستويات الثانوي التاهيلي)،وقد فاجأتني حالته كثيرا لانه لا يستطيع  قراءة الحروف باللغة العربية،بل كان يردد الجمل عن طريق السماع ويكتب ملخصات الدروس نقلا عن زملائه دون ان تعني له الخطوط شيئا.جعلني هذا اتساءل: لماذا لم يحظ هذا التلميذ –طفلا- بالمساعدة الكافية في المستويات الاولى من التعليم الابتدائي بما يجنبه –مراهقا- الاحراج الناجم عن صعوبة مماثلة في القراءة امام زملائه مع ما يترتب عن ذلك من اثر سلبي على تقديره لذاته.
فئة من التلاميذ لا عذر لها عند ممارسة الغش الا لكون المعدلات المستحقة تتطلب حضور الدروس بشكل منتظم والعمل بشكل جدي،وهم يصرحون بان الدراسة تتطلب الكثير من الجهد لكي تعطي القليل من النتائج (وهي العبارة نفسها التي استخدمها تلميذ لي عندما ضبطته يغش بواسطة هاتفه المحمول) جعلني هذا افكر: مهلا ! الم يسمع هؤلاء عن قيم الكفاح والعمل والنجاح المستحق؟
ارجعني هذا مباشرة الى المجتمع الذي قام بتنشئتهم قبل ان يصلوا الى حصصي.كل شكل من أشكال الغش ينطوي على المبدأ نفسه: الوصول الى غاية ما بشكل غير مستحق،وهو مبدأ حاضر بقوة  لدى العديد من الناس،بدءا بالطبيب الذي يستخلص منك فاتورة الاستشارة ويصف لك علاجا غير مناسب بتاتا لحالتك ولا تكتشف قلة درايته بما يفعل الا بعد ان تزور طبيبا اكثر كفاءة منه،مرورا بالمنعش العقاري الذي لا يتورع عن استخدام مواد اقل جودة في البناء لتقليل التكلفة وتضخيم هامش الربح ولا يهتم كثيرا ان تهدمت المباني فوق رؤوس السكان لاحقا،او الاستاذ الذي يتغيب عن عمله بدون مبرر ويسمح لنفسه بالحصول على راتب غير مستحق ويعوض تلاميذه عن تغيبه بمعدلات عالية غير مستحقة ايضا !!
الغش في كل مكان حولنا،يغش البائع عندما يستغل جهلك بانواع السلع ليحصل منك على ثمن سلعة جيدة لكي يبيعك في المقابل سلعة أقل جودة.
تغش ربة البيت زوجها عندما تحصل على نفقتها كاملة دون ان تقوم بواجبها في رعاية الابناء وتربيتهم في غياب الزوج، ويغش الزوج أهل بيته عندما يحصل منهم على كل احترام وتقدير بينما يمارس عربدته ومجونه في السر دون ان ينتبه الى الاثر المدمر لسلوكه على حياة زوجته وابناءه (وهي حالة عايشتها مع احدى تلميذاتي)
عندما يتوغل الغش في عمق تعاملاتنا اليومية وعلاقاتنا الانسانية ينشأ جيل الصغار في تطبيع مع الغش،فيمارسونه بكل عفوية وتلقائية في البداية،وعندما يكتشفون  ازدواجية معايير الكبار ونفاقهم في ممارسة الغش سلوكا والتموقف ضده قولا يثورون و يدافعون عن مشروعية الغش بكل ضراوة ولسان حالهم يقول: المجتمع برمته غشاش..لماذا نحاسب نحن فقط؟ !!
أثناء احدى الحصص كنت اناقش مجموعة من التلاميذ حول مسألة الغش،في نهاية حديثنا قلت لهم: تخيلوا معي الان لو اتخذ كل تلاميذ البكالوريا هذه السنة خيارا طوعيا بالامتناع عن الغش والاجابة بما يعرفونه فقط؟ اجابني احدهم ضاحكا: لن ينجح احد..قلت: بل سينجح البعض،لكن الالاف من الذين سيجتازون الاختبارات سيرسبون..وسنكون امام مشكلة حقيقية في تدبير عدد الراسبين في الموسم اللاحق..سيضطر الجميع الى الحديث عن المشكلة: اسباب ضعف التحصيل،اسباب الرسوب،وستكون اطراف متعددة ملزمة بتحمل مسؤوليتها،بدءا بالاسرة التي يتعين عليها مساعدة ومتابعة تحصيل التلاميذ اولا باول،مرورا باعادة النظر في طبيعة وحجم المواد الدراسية المقررة،وتحميل الفاعلين التربويين مسؤولية الاداء الجيد والمبني على الكفاءة وذلك كله في اطار جعل التعليم اولوية وطنية تخطيطا،تمويلا،تنفيذا ومتابعة ومراقبة وبما يستلزمه ذلك من تدخل الجميع حكومة ومؤسسات مجتمع مدني وافرادا..
عندما انهيت كلامي كان كل التلاميذ ينظرون الي بصمت فقلت لهم: اعرف ان هذا لن يحصل..انتم تريدون النجاح هذه السنة..كل التلاميذ يريدون ذلك..لذلك فانتم تفضلون ان تتحملوا وحدكم المسؤولية وتساهموا في التستر على اخطاء الجميع عندما تلصقون بانفسكم صفة غشاش !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق